كتبنا في السنة السابقة، وفي مثل هذه الأيام التي تصادف ذكرى الزيارة المليونية لأربعينية الإمام الحسين (ع)، بضرورة تأصيل هذه الشعيرة المباركة ثقافياً وفكرياً، وذلك بالاعتماد على عناصر ديمومتها الإنسانية، ومغذيات وموحيات استمرار هذه العناصر بالتوهج والتألق.
وكما في كل مرة، تقدم هذه الزيارة أبعاداً جديدة تحفز الفكر على استلهام جديد لهذه العناصر؛ لتقديم النافع والمشع للوجود البشري معتمدة على التنوع الهوياتي والعرقي الذي يقدم كرنفاله السنوي في كربلاء المحفزة على التأمل والكشف، وكأن قدر هذه البقعة من الكرة الأرضية أن تكون Refresh متواصل للذهنية، وسعي دائم لتجديد الأفكار، والتصالح الجاد مع الوضوح.
أكَّدنا ومازلنا نؤكد أن الذهاب سيراً على الأقدام لكربلاء؛ يجعل من الكائنات العاشقة مجتمعاً مندمجاً روحياً وجسدياً بقيمة القضية، فتنتج الخطى علائق إنسانية هي مزيج من العواطف والأفكار. والعلائق بين هاتين البنيتين تُنتج وتُكتشف طيلة الفترة الزمنية التي يتوقف الزمن إزاءها، مسترقاً السمعَ لنبض المسافة المنتعشة إيمانياً بتسابيح المؤمنين، واجتماعياً بتكافلهم ومساعدتهم لبعضهم البعض في كرنفال الأنسنة المتجدد. لقد أثبتت الزيارة الأربعينية ومازالت تثبت ان الانطلاق لتجديد خصوصية كربلاء يمر عبر قناة التصور العقلاني، والنظرة الواقعية للشعائر التي تمثل " تقوى القلوب " ؛ ذلك لأن الإفرازات الاجتماعية لهذه الزيارة تقود إلى حالة وجدانية حضارية، فحين نعمد لتأصيل العلائق الإنسانية في هذه الزيارة لابد أن ننظر لهذه الإفرازات؛ لأن الصور التي نشاهدها خلال أيام المشي ليست خيالات تأملية، او مناهج تدريس تُدرّس لمرحلة عمرية محددة، إنما هي مشاهد تتجلى فيها الروح العاشقة المتذوقة لحلاوة اليقين. هي تجربة تنطلق من واقع مدرك، وفكرة متيقظة، وجذوة عشق لن تنطفئ بتأكيدات نبوية " إن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تنطفئ أبداً "، إذن، نحن إزاء حاضر فاعل في الوجدان الذي يُظَنُّ خطأ أنه وجدان سيفضي إلى الغياب.
اليوم، تقدم لنا الزيارة الأربعينية بعداً جديداً يتمثل بحالة من الاستيقاظ الروحي، حتى وإن صعب على المرء فهم كنه هذا الاستيقاظ كونه يستحيل على الكلمات، ويحتاج لتأكيدات هي ــ بحسب دراسات المتخصصين ــ أبعد من الحواس. غير أن الزيارة الأربعينية تقلب المعادلة وتقدم الاستيقاظ الروحي أنموذجاً محسوساً، إذ أننا نشاهد من كان يعترض على هذه الزيارة ويكتب فيها منتقداً، نشاهده ذائباً في مشاهدها، باكياً على الزمن الذي استغرقه منطفىء الذهن مُبعداً هذه المشاهد عن التصورات المعرفية، متعالياً على قيمها وتمثلاتها. هذه الزيارة تعيد انتاج التجربة على ضوء الحقيقة الماثلة، الحقيقة التي تزيل الطاقة الذهنية السلبية، فتحل مكانها طاقة تستوعب ماينتج عن فعل الاستيقاظ الروحي وبدون أية عقد. إنها طاقة التوحد مع الرمز الحسيني، هي طاقة (النيرفانا) الملونة بأفق كربلائي يمنح الوجود أعلى درجات الجمال.
وأكدت دراسات فكرية وأبحاث علمية متخصصة في مجال علم المستقبل على أهمية الوعي بالراهن، بحيث لا تنفصل أية حركة عن حاضرها وظروفه ؛ حتى تكون بعيدة عن النتائج التي قد تأتي بعكس ما تشتهي سفنها. إنَّ النظرة المستقبلية الثاقبة والبعيدة المدى تمثل الومض الأول الذي يضيء حقيقة التجربة، وهي تتلمس من خلاله طريقها.
وهذه الحالة من الاستيقاظ؛ تأخذ سلماً تصاعدياً يبدأ من التراث صعوداً إلى الحاضر، وصولاً لتشكيل ملامح التصورات المستقبلية لحالة الوئام والتصالح بين أفراد الوجود البشرين وأبرز حالات الوئام والتآلف يقدمها كرنفال الزيارة الأربعينية، ويوفر بشكل لالبس فيه كافة الاشتراطات الضرورية لبلوغ مرحلة الاستيقاظ روحياً، ومن ثم القدرة على الإمساك بلحظة الوعي التي تجعل الفرد خارجاً من دوائر الاغتراب التي مكث فيها طويلاً بفعل هيمنة الماديات، إلى فضاء يجعله متحداً مع مجتمعه، وهذا يذكرنا بالذي طالب فيه (جان جاك روسو) الثائر على كل قيم الفردانية العقلية أن يخضع الإنسان لسياقه الاجتماعي ووجوده فيه؛ ليضمن عدم استبداد الفردية به وتحكمها بمصيره.
الشعائر والاستيقاظ الروحي
واليوم، وبعد مرور أكثر من ألف وثلاثمائة وثمانية وسبعين عاماً على ملحمة الطف التي تزداد ألقاً وجمالاً ، وبعد أن أصبحت كربلاء قبلة الأحرار، وكعبة لكل من ينشد الإنسان كقيمة عليا، ومثلما يعبر عن العالم في زمن العولمة وازدهار التكنلوجيا ووسائل الإتصال بأنه قرية كونية صغيرة ؛ صارت كربلاء قرية إنسانية أنتج الحسين عولمتها بأبهى التضحيات وأشرف المواقف، وهذا يعني أن الشعائر التي تقام لإحياء ذكراه ضرورة من ضرورات المرحلة المعاصرة والمراحل المستقبلية التي تنتج الاستيقاظ الروحي، فهي فضلاً عن كونها ثيمة استذكارية، هي أيضاً ضرورة حضارية ارتبطت بالذاكرة الجمعية؛ لتعزيز المتطلبات النفسية التي امتدت لتشمل من هم من غير أتباع أهل البيت عليهم السلام، بل من غير المسلمين أيضاً. صرنا نشاهد الجموع المليونية البشرية ترتبط بشعائر عاشوراء ارتباطاً وجودياً ومصيرياً، ارتباطاً لاتوقيت ينتهي فيه كما في ارتباطات أخرى عبرت عنها مراحل مختصرة، عكس الارتباط بالحسين وبقضيته والطقوس الدينية التي تقام احتفالاً بها وبنصرها ذي البعد المستقبلي المستمر؛ لكونها من أساسيات التطهير الروحي للنفس البشرية.
ومازيارة الأربعينية المليونية إلا استمرار لحيوية الشعائر وحركتها في تحفيز الذهنية واستفزازها للكشف المستمر عن اسرار وأبعاد خلود حادثة كربلاء، وتجسيد واقعي محسوس وملموس لحالة الاستيقاظ الروحي.
اضف تعليق