انتهى رمضان وحطّ الموسم التلفزيوني الرمضاني أوزاره، وبطبيعة الحال تنقسم الآراء النقدية بالنسبة للأعمال الدرامية المصرية، ما بين منتقد لها، باحث عن سلبياتها، مفنِّد لإيجابياتها، وبين آراء تعمد إلى تلقف نصف الكأس الممتلئ من كل عمل درامي للتركيز عليه وإهمال ما عداه، في الوقت الذي يؤكد فيه آخرون على أن رصد السلبيات ولفت النظر إلى الإيجابيات يأتي في صميم العمل النقدي التلفزيوني وهو الجانب الذي لا نفتقده في كتابات نقادنا وإعلاميينا المتخصصين بالدراما التلفزيونية.
أنا لا أدعي أنني شاهدت جميع المسلسلات، ولكني شاهدت معظمها، ويؤسفني القول وبدون تردد، لقد وصل الاستهتار بالجمهور والمشاهد المصري إلى أبعد الحدود وكأن هناك من يتعمد تدمير ذوقه وإحساسه، عنف ومخدرات ورقص ومجون وقتل... شطحات وسخافات لا يعرف المرء كيف يفسرها، بعض المسلسلات توجع الرأس وترفع ضغط الدم وتدخل إلى القلوب الغم والسأم.
وعند تناول الأعمال الدرامية الرمضانية وفق المنظور الثقافي نجد أن السمة الغالبة لها هي التسطيح وتغييب العقل وانتفاء التفكير، إذ نادراً ما نعثر على مسلسل يحترم عقل المشاهد، ويقدم له عملاً فنياً مميزاً، ويمتلك موضوعاً ذي قيمة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية...
لقد أسهمت الأعمال المعروضة طيلة شهر رمضان، في نسج عقل يمكن تسميته بالعقل التلفزي، يتكون من خليط من العقول التي تفرض نفسها في الخطاب الشائع، بوصفه العقل الوحيد الموثوق، إذ يحتقر هذا العقل كل ما يمت بصلة بالفلسفة والأدب والشعر، أي كل شيء ليس له أو لا يحقق مردودية اقتصادية بمقتضى معيارية وأخلاقيات اقتصاد السوق. ويطرح هذا العقل الأسئلة والاستفسارات ذاتها في مختلف المسلسلات الرمضانية، حيث يتم تلفيق الأجوبة ذاتها، في إجماع مستغرب حول الأسئلة ذاتها والأجوبة ذاتها، إنه التواطؤ الذي يُحلّ الاستفسارات محل الأسئلة، ويميّع الأجوبة.
فالمتابع لمسلسلات رمضان على الفضائيات المصرية يجد نفسه في فلك خارج الزمان والمكان... حكايات المسلسلات الدرامية انتظرها المشاهد المصري عاماً إثر آخر... دون أن يتوقع يوماً أنه سيصبح هو الحكاية... ومع ذلك كأن لا شيء تبدل...! نفس النمطية تسكب على قوالب أغلب المسلسلات... اجترار لأفكار سبق وقدمت، بعض الكتاب لا يزال غارقاً في أفكاره الذاتية رغم تعددية الشخصيات التي يقدمها إلا أننا كثيراً ما نراه وكأنه يقدم منولوجاً يناجي ذاته، بعيداً عن مصائر أو كوارث خبرها أو خُبر عنها...!
هل للموضوعات التي تهم الإنسان المصري في تفاصيل حياته وفي خطوطها العريضة من حيز للحوار في هذه المسلسلات، التي تشغل كل ساعات البث للقنوات المصرية؟ ما أظن إلا أن الأطروحات مازالت على حالها منذ عقود في تناول الموضوعات وبالأخص تلك الاجتماعية منها، والأخرى وهي تتحدث عن العلاقات العاطفية التي تربط البشر بعضهم ببعض، وكأن تطور العصر وما طرأ عليه لم يدخل إلى حياة هؤلاء البشر الذين يتحركون على الشاشات داخل حياة هي من نسج الخيال... وكأن واقع هؤلاء ليس كواقع باقي البشر في علاقاتهم الحياتية في كل مجتمعات العالم.
أستغرب ألا تتطور الموضوعات على الفضائيات المصرية بما يواكب تطور العصر ومستجداته... أستغرب وقوفنا على مفاهيم ثابتة لا تتبدل ولا تتغير على مر الزمن بينما القيم ثابتة وبشكل أكيد... أستغرب كيف نهتم بالصورة على حساب الفكرة ليكون المظهر قبل الجوهر... أستغرب هذا الموسم الذي يحل ضيفاً على موسم الزهد والتعبد لينتزع العابد الزاهد من عالم التأمل والروح ويعيده إلى عالم المادة بدل أن يدعه في سلامه وحبل الطاعة موصول بين الأرض والسماء.
وإذ تعلن الصحافة عن اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي بالحديث عن تلك المسلسلات، يظن المرء أنها الأمور التي تهم كل مصري، وتبحث في أزماته التي لا تنتهي بدءاً من مشكلة البطالة وليس انتهاءً بما يستجد من مشكلات، أو أنها الإضافة الواعية لما يستحق أن يكون تحت ضوء الإعلام.
ليس هذا كل شيء إنما ما يدعو إلى التعجب والاستنكار هو هذه الميزانيات الضخمة التي رصدت لهذه الأعمال التلفزيونية.
فسوق الإعلام على الشاشات المصرية... الخطو فيه محسوب في الربح قبل الخسارة... سوق يفتح أبوابه كل عام ليستقطب الأنظار من كل اتجاه فيسرق الأوقات ولو على حساب الطاعات... فالإغراء وأقصد إغراء المشاهدة والمتابعة كبير وهو يستولي على الكبير قبل الصغير... والتسلية باذخة في تنوعها وسحرها... فإذا بنا نتسمر جميعاً مع أطفالنا أمام تلك الفضائيات لنخرج بعد كل ذلك بحصيلة ليست بأكثر مما نخرج به لو قمنا ببعض الزيارات للأهل أو الأصدقاء.
في مواجهة ضحالة المسلسلات التي عرضت طيلة الشهر الفضيل، لدينا روح تواصلية نعيشها عبر الانترنت تغير مزاج المشاهدة، تطلعنا على فكر متجدد كالنهر السريع الجريان... لم يعد يقبل بتلك السذاجة التي تبثها الفضائيات المصرية...
ربما آن الأوان لصناع الدراما المصرية إعادة النظر بالتوليفة الدرامية ككل، إذ لا يزالون حتى الآن يقبضون على بعض أنماط المشاهدة بحكم الاعتياد ليس إلا... ولكن ونحن نعيش على وقع مزاج متغير... لاشك أن نجمهم سينحسر تدريجياً... سواء عزفت الدراما لحن التغيير، أم انصرفت عنه... قفزاته مستمرة، معركة هادئة بين وسائل اتصالات التي لا تكاد تفارق أيدينا...، وبين الفنون والآداب ككل وليس الدراما وحدها، الزمن وحده سيرينا أين سيكون اتجاه بوصلة الناس الحقيقي!
كلمة أخيرة: لم تكن يوماً مهنتنا، أو كما يقول البعض باب رزقنا التقليل من قيمة أي مادة فنية، أو لبخس قدر أي فنان من الفنانين، بل نحن غيارى على قيمة ونوعية ما يقدم وما يعرض علينا وعلى المتلقي الذي تطور مع تطور الدراما فبات قادراً على تمييز المادة الجيدة من السيئة، وناقداً لها، وقادراً على تقييمها وكأنه صحفي أو ناقد بارع.
اضف تعليق