التعدّي على المقدّسات من الحريّة التي يجب أن يتمتّع بها الإنسان إنما يُشاع كذباً، ومغالطةً، وخداعاً، وعلى خلاف ما يعتقدون في داخلهم وحسب موقفهم العملي، وإلا فكيف منعوا من معاداة الساميّة؟ وأدانوا من أنكر المحرقة النازيّة؟ وأنكروا على من يحرق علم المثليّة؟ أفليست هذه الأمور حدًّا للحريّة الشخصيّة...
لقد أصبح من الواضح أن الإساءات "الجماعية المنظمة أو الفردية" للدين الإسلامي، بدءاً من إنتاج صورة الإسلام إعلامياً إما كدين جهل وقتل وتكفير، أو كدين معتدل إلى حد "الميوعة" العقائدية، وصولاً إلى الإساءة إلى القرآن الكريم، ترتبط بشكل مباشر مع معزوفة حرية التعبير.
فقد قام أحد المتطرفين بالتطاول على القرآن الكريم في أول أيام عيد الأضحى المبارك، والإقدام على حرق نسخة منه بإذن وموافقة الحكومة السويدية، وفي تقديرنا انّ ارتكاب هذا الفعل في صبيحة يوم عيد المسلمين، وتكراره في مرات سابقة على مرأى ومسمع من السلطات هناك، انتهاك صارخ للأعراف والتقاليد الدولية، وتعمد واضح لإثارة مشاعر المسلمين في العالم. هذا الفعل المجرم والإساءة للقرآن الكريم في شهر عيد الأضحى المبارك تظهر للعالم مرة تلو الأخرى أن شعارات حرية التعبير التي يدعيها الغرب ما هي إلا أكاذيب يتوقف مفعولها عندما لا تخدم مصالحه وأهدافه القذرة في إذلال الشعوب وتبعيتها له وتسفر عن وجهه الحقيقي المعادي لقيم الخير والرحمة والإنسانية.
منتهى الإسفاف، في التبرير، عندما يتعلق الأمر بالمقدسات الإسلامية، في مواجهة حماية الحريات الشخصية، عندما يتعلق الأمر بالغرب. أدعياء الحرية والليبرالية الحديثة يروجون للتحلل من الأديان والقيم والمبادئ والأخلاق والعادات والتقاليد، ويجددون في كل يوم عداءهم للشرائع والأديان السماوية عبر أساليب مختلفة، فالغرب الذي يرتكب الجرائم التي تروّج لتدمير الأسرة يضيف اليوم إلى سجلّ جرائمه جريمةً أخرى، وهي المساس بحرية الاعتقاد وتدنيس المقدسات. حَرْق نُسخة من المصحف الشريف على يد المتطرِّف السويدي وتحت حماية الشرطة السويديّة ليس جريمةً شخصيّةً فحسب، وإنما هي مع ذلك جريمةُ دولةٍ يحكم بها على دناءة الطرفين، وإدخالُ مثل هذه الجرائم، والتعدّي الصارخ على حرمة المقدّسات الدينيّة الحقّة، واستثارة الفتنة في العالم في مفهوم الحريّة فهو غباءٌ بالغٌ لو حدث عن اعتقادٍ ـ فعلًا ـ بأنَّ للإنسان أن يعيشَ الحريّة المطلقة على حدّ الحيوان، أو على حدّ السيّد المطلق الظالم والذي لا خلق له ولا حكمة.
الثابت لدينا، أنَّ التعدّي على المقدّسات من الحريّة التي يجب أن يتمتّع بها الإنسان إنما يُشاع كذباً، ومغالطةً، وخداعاً، وعلى خلاف ما يعتقدون في داخلهم وحسب موقفهم العملي، وإلا فكيف منعوا من معاداة الساميّة؟ وأدانوا من أنكر المحرقة النازيّة؟ وأنكروا على من يحرق علم المثليّة؟ أفليست هذه الأمور حدًّا للحريّة الشخصيّة وكبتًا لها رغمًا عن الإنسان؟!
وبكل هدوء نتساءل: أي قيمة تبقى لقبول تعدد الأديان والثقافات، وأي احترام يبقى لها إذا اعتبر تبادل انتهاك الحرمات الدينية بين أتباعها مزاولة لحق حرية التعبير؟ أخال أن هذا التخريج القانوني ـ اذا جاز التعبير ـ سيؤدي في النهاية إلى انهيار بناء هذه المنظومة من المفاهيم والقيم التي يتفاخر بها الإعلام الغربي ليل نهار، ويدعو شعوب العالم إلى تجسيدها. وأيا كان، ونظراً لانتشار التنوع الديني والمذهبي والثقافي في مختلف دول العالم، وفي ضوء الترابط والتشابك الوثيقين بين دول العالم، فإن من شأن انتهاك المقدسات الدينية لهذا الفريق أو ذاك أن يسبب إخلالا بالأمن والسلم المجتمعيين في كثير من الدول في العالم، وقد ينعكس سلباً على مصالحها وعلاقاتها.
فلا بد من وضع سقوف واضحة ومحددة لممارسة حرية التعبير بحيث لا تنتهي إلى التفلت والفوضى والتعدي على مقدسات الغير وإحداث فتن وتوترات دينية وعقائدية بين شعوب العالم، والمسلمون يشعرون بالألم العميق لهذا التشويه المتعمد لسمعتهم وسمعة وتعاليم دينهم وقرآنهم الكريم، ولا ينبغي أن نكتفي بالشجب أو الإدانة عندما يساء إلى ديننا وإسلامنا وقرآننا ولمقدساتنا... بل لا بد من تحرك عملي، ينتج عنه مراجعة السياسات الغربية، بدلاً من الموقف الغربي الناقص والمائع...
إن الخطوة القادمة، بالتحرك إزاء حث الأمم المتحدة لإصدار قانون دولي ملزم، بمنع إزدراء الأديان، هي خطوة وإن كانت متأخرة، إلا أنها تحتاج إلى إرادة سياسية، حان الوقت الآن لتحقيقها... ولابد من إدارة دبلوماسية إسلامية، على مستوى عال من الحرفية، للوقوف في وجه هذه الإساءات، وتفعيل العديد من الاتفاقات والمعاهدات الدولية، التي تحظر ازدراء الأديان. فالدول الإسلامية تستطيع إصدار تشريع عالمي بمنع ازدراء الأديان. فالتوصية الصادرة من الأمم المتحدة عامي 2005/2008 منعت ازدراء الأديان وصدرت بموافقة 85 دولة وامتناع 42 ومعارضة 50 وبالتالي تستطيع وفقا لهذه التوصية التقدم بتشريع ملزم تتبناه الأمم المتحدة أو التوصل لاتفاقية دولية بين الدول الأعضاء.
ألا تستطيع الدول العربية والإسلامية أن تستصدر قرارا أمميا ملزما يحرم الإساءة إلى الأديان والمقدسات الدينية عموما؟ بخاصة أن هناك أكثر من 120 دولة من دول حركة عدم الانحياز وهي في مجموعها لابد أن تقف في صف صدور تشريع أو قرار كهذا ؟ أيضا علينا أن نفهم الدول الداعمة لمثل هذه الاستفزازات أنها يمكن أن تدفع ثمنا باهظا إن هي استمرت في استفزازنا والإساءة إلى ديننا وقرآننا وقيمنا؟
لقد آن الأوان من أجل أن تتجاوب الأسرة الدولية مع هذه المطالب العادلة فتسن قانوناً دولياً ملزماً يحمي الإسلام ومقدساته وسائر الديانات الأخرى في العالم من الحملات الظالمة التي تستهدف تشويه السمعة والتحريض على كراهية الشعوب بسبب انتمائها الديني ولن يكون هذا القانون بدعة تخترع بسبب إلحاح المسلمين إنما هو أمر معمول به في بريطانيا، حيث يوجد قانون يحمي المسيحية وقانون آخر يضمن حماية اليهود والسيخ ولن يضار أحد في العالم إذا استفاد العالم كله من التجربة البريطانية ووسعها لتكفل حماية الإسلام وسائر الديانات الأخرى.
هذا القانون أصبح اليوم مطلباً ضرورياً مستعجلاً ليس فقط من أجل حماية الإسلام والمسلمين من خطاب التحريض والكراهية ضدهم، لكن أيضاً من أجل حماية بقية الأديان، ومن حماية حرية التعبير والحيلولة دون استخدامها شعاراً تتستر به النزعات العنصرية وأيضاً من أجل السلام العالمي ومن أجل إتاحة الفرصة لتنمية علاقات الصداقة والتعاون بين المسلمين وأوروبا وبينهم وبين الغرب عموماً.
نريد في العالم الإسلامي أن نتحرك في هذا الاتجاه... علينا أن نضغط بكل ما أوتينا من قوة، سياسية ومادية واقتصادية وثقافية، لمنع ازدراء الإسلام، أو التعرض لكتابه الكريم، أو رموزه الشامخة... يمكننا أن نترجم ذلك، على الواقع، بدلا من العنف الذي نلجأ إليه، للتعبير عن رفضنا، لهذه المواقف الكريهة، من قلة جاهلة، لا تعرف قدر الإسلام...
اضف تعليق