q
ان أصل المجتمع، او الظهور التطوري للتنظيمات الاجتماعية الانسانية المتميزة هو من الموضوعات الهامة ضمن البايولوجيا التطورية والانثربولوجي وعلم آثار ما قبل التاريخ. ومع ان القليل عُرف بشكل مؤكد، لكن النقاشات منذ هوبز و روسو عادت مرة اخرى لما طُرح من اسئلة فلسفية واخلاقية وتطورية...

ان أصل المجتمع، او الظهور التطوري للتنظيمات الاجتماعية الانسانية المتميزة هو من الموضوعات الهامة ضمن البايولوجيا التطورية والانثربولوجي وعلم آثار ما قبل التاريخ. ومع ان القليل عُرف بشكل مؤكد، لكن النقاشات منذ هوبز و روسو عادت مرة اخرى لما طُرح من اسئلة فلسفية واخلاقية وتطورية.

الاصول الاجتماعية في الطبيعة

يمكن القول ان أهم نظرية في الاصول الاجتماعية للانسان هي نظرية توماس هوبز الذي جادل في كتابه اللفياثان (الفصل 13) انه بدون حكومة قوية فان المجتمع سينهار الى حرب الجميع ضد الجميع. في مثل هذه الظروف، لن يكون هناك مكان للصناعة لأن ثمارها ليست مؤكدة وبالنتيجة لا ثقافة ولا ملاحة ولا فائدة من السلع التي يمكن نقلها عبر البحار ولا وسائل للحركة وإعادة الحركة، هذه الأشياء تتطلب مزيدا من السلطة، لا معرفة في الارض، لا حساب للوقت، لا فن ولا رسائل، لا مجتمع، وما هو اسوأ من كل ذلك، الخوف المستمر وخطر الموت العنيف، وحياة الانسان تصبح منعزلة وفقيرة وكريهة ووحشية وقصيرة.

إبداع هوبز كان المساهمة في تأسيس مجتمع على أساس "عقد اجتماعي" يتنازل فيه رعايا التاج بجزء من حرياتهم مقابل الأمن.

اذا كانت فكرة هوبز مقبولة، ذلك يعني ان المجتمع لا يمكن ان يبرز قبل الدولة. هذه المدرسة من الفكر بقيت مؤثرة الى اليوم. أحد البارزين في هذا الشأن وهو الاركولوجي البريطاني (كولن رنفرو) يشير الى ان الدولة لم تنشأ الاّ بعد وقت طويل من تطور الانسان العاقل. الممثلين الأوائل لنوعنا الانساني طبقا لرنفرو ربما صحيح كانوا حديثين من حيث تركيب الجسد، لكنهم لم يكونوا حديثين معرفيا وسلوكيا. فمثلا، هم افتقروا للقيادة السياسية، التعاون على نطاق واسع، انتاج الطعام، دين منظّم، القانون او الصناعات اليدوية. كان الناس مجرد صيادين وجامعي بذور يشبهون كثيرا القرود يأكلون حيثما يجدون الطعام في ما يجاورهم.

يقترح رنفرو بشكل مثير للجدل ان الصيادين الى هذا اليوم يفكرون ويخلقون صداقات وفق خطوط لا تختلف كثيرا عن نظرائهم البدائيين اللاّ انسانيين. بالذات هو يقول هم لا"ينسبون اي معنى رمزي للأشياء المادية" ولذلك السبب هم "يفتقرون لذهن متطور كليا"، لكن انثوغرافيو جامعي البذور يؤكدون ان بحث الناس عن الطعام له مؤسسات اجتماعية – لاسيما حقوق وواجبات مؤسسية مقننة في انظمة رسمية للقرابة. الطقوس المتقنة مثل افتتاح الاحتفالات يساعد في ترسيخ العقود والالتزامات بشكل مستقل عن الدولة. علماء آخرون يضيفون بانه بمقدار ما نتحدث عن "الثورات الانسانية" – فان التحولات الكبرى في التطور الانساني لم تكن في ثورة العصر الحجري الحديث وانما في صعود الثقافة الرمزية التي حدثت في نهاية العصر الحجري الوسيط.

الفوضوي والانثربولوجي (برير كلاستر) يجادل بالضد تماما من موقف هوبز، قائلا ان الدولة والمجتمع غير منسجمين: المجتمع الحقيقي يكافح دائما ليعيش ضد الدولة.

جان جاك روسو

كما هوبز، جادل روسو بان المجتمع وُلد في العقد الاجتماعي. بالنسبة لروسو، السيادة منوطة بكامل السكان الذين يدخلون مباشرة في عقد مع آخر. "المشكلة"، هو يقول "هي ان تجد شكلا من الارتباط يدافع ويحمي بقوة مشتركة شخصية واموال كل مشارك، وبينما كل شخص يوحّد نفسه مع الكل، لكنه لايزال يطيع نفسه فقط، ويبقى حرا كما كان من قبل"(جان جاك روسو، العقد الاجتماعي والخطابات G.D.H.cole، لندن و ملبورن، الجزء الاول فصل 8).

هذه هي المشكلة الاساسية التي يوفر العقد الاجتماعي حلا لها. فقرات العقد، كما يوضح روسو، يمكن اختزالها الى واحدة "نقل كامل للملكية لدى كل مرتبط مع جميع حقوقه، لكل الجماعة. كل انسان، في إعطاء نفسه للكل، لا يعطي نفسه الى أي شخص، وبالنتيجة يكسب مردود مساوي لكل خسارة يتحملها، ومن ثم يزيد سلطة الحفاظ على ما يمتلك". بكلمة اخرى، كل واحد منا يضع نفسه وكل سلطاته تحت توجيه الرغبة العامة، وفي ظل مقدرتنا العامة، نحن نقبل كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل.

وهنا، بدلا من الشخصية الفردية لكل طرف متعاقد، هذا الفعل من الانتساب يخلق هيئة أخلاقية وجمعية مركبة من عدة أعضاء لأن الجمعية تحتوي على اصوات وتستمد من هذا الفعل وحدتها وهويتها المشتركة وحياتها ورغبتها. بهذا يعني، كل عضو بالجماعة لا يكتسب فقط قدرات الكل وانما ايضا ولأول مرة، الذهنية الرشيدة: المسار من دولة الطبيعة الى الدولة المدنية ينتج تغييرا كبيرا في الانسان، باستبدال العدالة بالغريزة في سلوكه، وإعطاء أفعاله السمة الأخلاقية التي افتقر اليها في السابق. عندئذ، فقط عندما يحل صوت الواجب محل الدوافع الفيزيقية وحق النهم والشهوة، فان الانسان الذي فكّر فقط بنفسه، يجد انه مجبر للتصرف بمبادئ مختلفة، ويستشير عقله قبل الاستماع الى ميوله.

السير هنري سومنر مين

في كتابه الهام (القانون القديم، 1861) جادل مين انه في الاوقات المبكرة، كانت الوحدة الاساسية للمنظمة الاجتماعية الانسانية هي العائلة البطريركية او الذكورية.

ان الدليل المشتق من التشريعات المقارنة يؤسس الرؤية للظروف البدائية للعرق الانساني والتي تُعرف بالنظرية البطريركية. وباعتباره خصما للأفكار الفرنسية الثورية والافكار الاجتماعية الراديكالية الاخرى، كان دافع مين سياسيا. هو سعى لإضعاف ميراث روسو والمؤيدين الاخرين لحق الانسان الطبيعي بقوله انه في الأصل، لم تكن لأي فرد اية حقوق ابدا "كل انسان يعيش في الجزء الاكبر من حياته تحت استبداد بطرياركي، كان عمليا مُسيطر عليه في جميع أفعاله بنظام ليس حكم القانون وانما بالنزوة.

ليس فقط اطفال البطرياركي عرضة لما يسميه مين بـ "الاستبداد"، وانما ايضا زوجته وعبيده ايضا تأثروا بنفس المقدار. ان فكرة القرابة، طبقا لمين كانت ببساطة طريقة لتصنيف اولئك الذين تعرّضوا بالاكراه للحكم العشوائي المستبد. لاحقا، اضاف مين سمة دارونية للجدال. في كتابه "نسب الانسان" اوضح دارون تقارير بان ذكر الغوريلا البري يحتكر لنفسه اكبر عدد ممكن من الاناث اللواتي يمكنه الدفاع عنهن. مين وافق على تفكير دارون بان "الانسان البدائي" ربما عاش في جماعات صغيرة، لكل واحد عدة زوجات يتولى حراستهن بدافع الغيرة ضد الرجال الاخرين. لكي يوضح بالضبط معنى "البطريركية" أعلن مين ان "الغيرة الجنسية التي يتمتع بها الذكور من خلال السلطة، تعمل كتعريف للعائلة البطريركية".

لويس هنري مورغان

في كتابه البارز، المجتمع القديم(1877)، والذي يبدو في عنوانه صدى لكتاب القانون القديم لمين، يقترح لويس نظرية مختلفة كليا. أصر لويس بانه طوال الفترات الاولى من التاريخ الانساني، لم يكن هناك وجود لا للدولة ولا للعائلة. هو يفترض ان جميع اشكال الحكومة تُختزل الى خطتين عامتين اثنين مستخدما كلمة خطة plan بمعناها العلمي. الخطتان في اساسهما متميزان جوهريا. الاولى، في ترتيب الزمن، تتأسس على الافراد، وعلى علاقات شخصية خالصة، ويمكن تمييزها كمجتمع.

العشيرة هي وحدة هذا التنظيم، تتخذ مراحل متعاقبة من التكامل. في الفترة القديمة، العشيرة وجماعة القربى والقبيلة واتحاد القبائل شكّل شعب الامة. وفي فترة لاحقة حدث التحام للقبائل في نفس المنطقة ضمن امة في كونفدرالية قبلية تشغل مناطق مستقلة. وهكذا بعد فترة طويلة من ظهور العشائر، حدث التنظيم العالمي المهم للمجتمع القديم، وبقي مع الاغريق والرومان بعد ظهور الحضارة. اما الخطة الثانية تأسست على الاقليم وعلى الملكية، ويمكن تمييزها كدولة (مورغان، 1877. المجتمع القديم. شيكاغو: شارلس H.Kerr صفحة6).

طبقا للويس بدلا من العائلة والدولة، حلت العشائر التي يُطلق عليها حاليا "clan" وترتكز اساسا على مكان اقامة الام وعلى نسب الام. هذا المظهر من نظرية ليوس، نال القبول من كارل ماركس وانجلس، لكنه حاليا يلقى معارضة.

فردريك انجلس

اعتمد انجلس على افكار لويس في اطروحته عام 1884 بعنوان (اصل العائلة، الملكية الخاصة والدولة) في ضوء بحوث لويس هنري مورغان. كان الاهتمام الرئيسي لانجلس هو الموقف من المرأة في المجتمع القديم، وبالذات اصرار لويس على ان العشيرة الامومية سبقت العائلة كوحدة اساسية للمجتمع. "جماعات حق المرأة"، كتب انجلس في استبيانه عن الامومة التاريخية المعاصرة، "اصبحت المحور الذي تدور حوله كل العلوم". جادل انجلس بان الجماعة الامومية مثّلت مبدأ للتنظيم الذاتي الحيوي جدا والفعال لدرجة لم تسمح بأي مجال للسيطرة البطريركية او الدولة الاقليمية. العداوة الاولى التي ظهرت في التاريخ الانساني تتزامن مع ظهور الخصومة بين الرجل والمرأة في الزواج الاحادي، والقمع الاول للنساء من جانب الرجل.

اميل دوركهايم

دوركهايم كان يرى انه لكي يوجد اي مجتمع انساني يجب ان يقاوم الميل الطبيعي للجنسين للاتحاد بشكل غير شرعي. هو جادل بان النظام الاجتماعي يفترض سلفا الاخلاقية الجنسية التي يُعبّر عنها في المحظورات ضد الجنس مع اناس معينين او اثناء فترات معينة في المجتمعات التقليدية خاصة اثناء الحيض.

احدى الحقائق المؤكدة هي ان كامل النظام من المحظورات يجب ان يمتثل بشكل صارم للأفكار التي امتلكها الانسان البدائي حول الطمث، لأن جميع هذه التابوات تبدأ فقط مع بداية سن البلوغ ومع اول علامة لظهور الدم تكون تلك المحرمات قد بلغت شدتها.

كتب دوركهايم عام 1898، بان تابو سفاح القربى ليس اكثر من مثال معين عن شيء اكثر اساسية وعالمية – وهو الإعداد الطقسي "للمقدس" من "المدنس". هذا يبدأ كانفصال بين الجنسين كل واحد منهما – على الاقل في المناسبات الهامة – هو "مقدس" او "منفصل" عن الآخر. "الجنسين"، كما يوضح دوركهايم، "يجب ان يتجنبا بعضهما بنفس العناية عندما يهرب المدنس من المقدس والمقدس من المدنس".

النساء كأخوات يتصرفن انطلاقا من دور الكائنات "المقدسة" المستثمرة بنوع من سلطة العزل لتبقي السكان الذكور على مسافة". دماء الطمث لديهن تضعهن في صنف بعيد، يشكل "نوعا من الفعل الرافض الذي يجعل الجنس الآخر بعيدا عنهن". بهذه الطريقة، ينشأ البناء الطقسي القديم ليؤسس لأول مرة "مجتمعا" منظّم اخلاقيا.

سجموند فرويد

وصف دارون المجتمع الانساني القديم بشكل مشابه لمجتمع القرود، حيث سيطرة ذكر واحد او اكثر يحرسون بدافع الغيرة مجموعة من الزوجات. في اسطورته "الحشد البدائي"، اخذ فرويد لاحقا كل هذا كنقطة بدء ولكن افترض فيما بعد تمردا شنّه أبناء الطاغية. كل ما كان موجود هو أب عنيف وغيور يحتفظ بجميع النساء لنفسه ويطرد ابنائه بعيدا عندما يكبرون.. وفي يوم ما يأتي الاخوة المطرودون مجتمعين ليقتلوا آبائهم وبهذا وضعوا نهاية للحشد البطريركي.

بعد هذا، تأتي عصابة من الاخوة لتأخذ الحيازة الجنسية لأمهاتهم واخواتهم لكنهم فجأة يتغلب عليهم الندم. في حالتهم الشعورية المتناقضة هذه، اصبح أبوهم الميت الآن أقوى من الاب الذي كان حيا. وكطريقة لتذكّره، نقض الاخوة أفعالهم عبر منع القتل وأكل "الطوطم" معلنين ادّعائهم بالمرأة التي اصبحت حرة لتوها. بهذه الطريقة، تأسس لأول مرة التابوان الاساسيان الاثنان للمجتمع البدائي لا تأكل الطوطم ولا تتزوج الاخوات.

ارنست غيلنر

الانثربولوجي ارنست غيلنر كتب، ان الكائنات البشرية ليست مبرمجة وراثيا لتكون أعضاء في هذا النظام الاجتماعي او ذاك. انت يمكنك ان تأخذ رضيعا وتضعه في أي نوع من النظام الاجتماعي وسوف يعمل بشكل مقبول. ما يجعل المجتمع الانساني متميزا هو ذلك النطاق الرائع من مختلف الاشكال التي يتخذها عبر العالم. لكنه، في اي مجتمع معين، يكون نطاق السلوكيات المرخصة مقيد جدا، وهذا يعود ليس لوجود نظام خارجي قسري يفرض العقوبات ويمنح المكافئات وانما لأن القيود تأتي من الداخل، من مفاهيم أخلاقية إجبارية معينة يتشرّبها أعضاء النظام الاجتماعي. يتولى المجتمع تكريس هذه المفاهيم في نفسية كل فرد باسلوب جرى تحديده لأول مرة من قبل اميل دوركهايم، أي، بواسطة وسائل الطقوس الجمعية. لذلك، فان مشكلة المجتمع الأصلي تُختزل بمشكلة اصول الطقوس الجمعية (غيلنر، 1988، اصول المجتمع).

كيف تأسس المجتمع، وكيف تنوعت سلسلة من المجتمعات، بينما في نفس الوقت مُنع اي منها من الاستغلال الفوضوي لذلك التنوع الواسع للسلوك الانساني ؟ كيفية عمل هذا توضحه النظرية، وهي واحدة من النظريات الاساسية للانثربولوجيا الاجتماعية. الطريقة التي تمنع بها الناس من عمل مختلف الاشياء، غير المنسجمة مع النظام الاجتماعي الذي هم أعضاء فيه، هي انك تعرّضهم للطقوس. العملية مبسطة: انت تجعلهم يرقصون حول عمود الطوطم حتى يغرقون في الاثارة ويصبحون هلاميين وسط هستريا من الهيجان الجمعي، انت سوف تعزز حالتهم العاطفية بأي وسيلة، بكل الوسائل السمعية والبصرية المتوفرة والادوية والموسيقى وغيرها، وحالما يصلون الى الذروة، انت ستطبع في أذهانهم نوع المفهوم او الفكرة التي سيصبحون لاحقا عبيدا لها.

The origins of society, from Wikipedia, the free encyclopaedia

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق