يرى العلماء المختصون من الأهمية بمكان، أن تتواصل عمليات التنقيب عن اثار الإنسان القديم وأن تستمر الدراسات التي تبحث في سلوكياته وتطورها على مدى العصور، والتي تتعمق في معرفة كيفية إقامة العلاقات واختلاط الأجناس بين الأنواع المختلفة من الإنسان القديم، وتكوين المجتمعات وهجرتها من مناطق إلى أخرى لتبني أساسات مجتمعاتنا الحديثة، ومن دراسة تلك السلوكيات نتعرف أيضا على الآلات البدائية المستخدمة للصيد أو القطع أو الأغراض الأخرى التي يحتاجها الانسان في حياته اليومية، وكيفية تطويرها من جيل لآخر على مدى العصور.
كما تسلط الدراسات الضوء على الزراعة التي بدأت أولى بوادرها بالظهور عند الإنسان القديم في بريطانيا تحديدا، ومن الجدير بالذكر إن الإنسان القديم كان يتميز ببنية جسدية تختلف عن بنية الإنسان اليوم، وذلك حسب مبدأ الانتخاب الطبيعي حيث البقاء للأصلح، لذلك امتازت أجسامهم بالقوة لكي تقاوم مصاعب الحياة وخشونتها أكثر، ولكي تتماشي مع الظروف الصعبة والتي مكنت النسل البشري من البقاء والاستمرار في مشوار الحياة الى يومنا هذا.
اكتشاف فجر التاريخ البشري
فقد سلطت جمجمة ناقصة عثر عليها في كهف بشمال إسرائيل الضوء على منعطف جوهري في فجر التاريخ البشري عندما كان أسلافنا يرتحلون من القارة الإفريقية ليعمروا مناطق أخرى من العالم حيث التقوا أقرب أولاد عمومتهم من إنسان النياندرتال.
وقال العلماء إن الجزء العلوي المقوس من الجمجمة دون الوجه والفكين عثر عليه في كهف (مانوت) بالجليل الغربي في إسرائيل وحددت الأساليب العلمية عمر الجمجمة بأنها ترجع إلى نحو 55 ألف عام. وقال الباحثون إن سمات هذه الجمجمة -التي تعود إلى حقبة يعتقد إن عددا من أجدادنا كانوا يبتعدون خلالها عن القارة الإفريقية- توحي بان صاحب الجمجمة ينتمي عن قرب لأول عشائر جنس (هومو سابينس) أو مجاميع الإنسان العاقل التي استعمرت أوروبا في وقت لاحق. وأضاف الباحثون إن هذه الجمجمة تطرح أول دليل على إن الإنسان العاقل عاش بتلك المنطقة في نفس وقت وجود إنسان النياندرتال وهو أقرب أقاربنا البائدين من بني البشر، بحسب رويترز.
ووصف يسرائيل هيرشكوفيتز عالم السلالات البشرية بجامعة تل أبيب -الذي أشرف على هذه الدراسة التي أوردتها دورية (Nature)- الجمجمة بأنها "جزء مهم من لغز قصة التطور البشري الكبيرة". وتشير الشواهد الوراثية السابقة إلى إن أفرادا من الإنسان العاقل وإنسان النياندرتال تناسلوا فيما بينهم خلال نفس الحقبة تقريبا التي تمثلها الجمجمة فيما لا تزال جميع الشعوب من نسل منطقة أوراسيا تحتفظ بكميات محدودة من الحمض النووي الريبوزي (DNA) الخاص بالنياندرتال.
وقال بروس لاتيمر عالم الأحياء القديمة "إنها أول شواهد حفرية مباشرة على إن إنسان العصر الحديث وإنسان النياندرتال عاشا بالمنطقة ذاتها". وقال هيرشكوفيتز "إن تعايش هاتين العشيرتين -في منطقة جغرافية محددة وفي نفس الوقت الذي تتوقع فيه النماذج الوراثية حدوث تهجين بين السلالات- يعضد فرضية حدوث تزاوج بين الأقارب في منطقة المشرق". وازدهر إنسان النياندرتال المتين البنيان والكثيف الحاجبين في ربوع قارتي أوروبا وآسيا منذ نحو 350 إلفا إلى 400 ألف عام وانقرض بعد وقت قليل من ظهور الإنسان العاقل. ويقول العلماء إن إنسان العصر الحديث ظهر لأول مرة منذ نحو 200 ألف عام في إفريقيا ثم هاجر لاحقا إلى مناطق أخرى.
أولى الأدوات اخترعت بواسطة الأسلاف
ويذكر أن أسلاف بني الإنسان صنعوا أدوات حجرية في العصور الغابرة -ما يمثل انجازا بارزا في مسيرة الرقي البشري- وذلك قبل وقت طويل مما كان يعتقد من قبل وأيضا قبل ظهور أول أفراد الجنس (هومو). وأعلن العلماء اكتشاف أدوات حجرية من بينها رقائق حجرية حادة الحواف ربما كانت تستخدم في قطع لحوم الذبائح الحيوانية ومطارق بدائية قد يكون الإنسان الأول استعان بها لكسر حبات الجوز واللوز وسحق الدرنات النباتية. وهذه الأدوات أقدم بواقع 700 ألف عام من أي أدوات حجرية أخرى وتسبق بمقدار 500 ألف سنة أقدم حفريات معروفة للجنس (هومو) ما يعني انها قد صنعت بأيدي أنواع أكثر بدائية في شجرة العائلة للانسان. وكان يفترض منذ زمن طويل إن صنع الأدوات الحجرية من السمات المميزة للجنس (هومو× سابينس) إلا إن هذا الاكتشاف يشير إلى إن أسلافا أقدم بكثير من أجداد الجنس البشري هم الذين حققوا هذه القفزة الإدراكية والمعرفية اللازمة لصناعة مثل هذه الأدوات.
وقال جيسون لويس عالم السلالات البشرية القديمة: إنه لا يزال من غير الواضح من الذي صنع هذه الأدوات وسرد ثلاثة احتمالات: الأول هو جنس (كينيانثروبوس بلاتيوبس) أو إنسان كينيا مفلطح الوجه والثاني جنس (اوسترالوبيثكوس افارينسيس) أي القردة الجنوبية المكتشفة في منطقة عفار بشمال شرق إثيوبيا وهما جنسان يجمعان بين السمات المميزة للقردة والإنسان والاحتمال الثالث هو فرد بدائي من جنس (هومو) لم يكتشف بعد حتى الآن، بحسب رويترز.
وقال الجيولوجي كريس ليبر "إن هذا الاكتشاف يشير إلى إن مثل هذه الأدوات استعملت قبل تطور المخ وكبره في الحجم في سلالة النسب البشري". وتتضمن هذه الأدوات المصنوعة من الصخور البركانية رقائق حادة الحواف ذات أحجام مختلفة والصخور التي صنعت منها هذه الأدوات وكتلا مستطيلة أكبر حجما استخدمت كسندان وصخورا أصغر وأشد صلابة استخدمت كمطارق.
صناعة الأدوات الحجرية قبل 3,3 مليون سنة
في السياق نفسه يشكل العثور على أدوات بشرية تعود إلى 3,3 مليون سنة في كينيا كشفا كبيرا في مجال علم تطور الإنسان، إذ يظهر إن أسلاف البشر بدؤوا صناعة الأدوات الحجرية في زمن أقدم بكثير مما كان يعتقد. وقد عثر في كينيا على أدوات بشرية هي الأقدم المكتشفة حتى الآن، تعود إلى ثلاثة ملايين و300 ألف سنة. وسجل هذا الاكتشاف في غرب بحيرة تروكانا، وتعود هذه الأدوات إلى 700 ألف سنة قبل ظهور الأدوات الحجرية المسننة الأولى، والى 500 ألف سنة قبل ظهور الإنسان الحديث (هوموسابيانس) اي النوع البشري الموجود حاليا، وهي تظهر ان صانعيها يتمتعون بمقدرات ذهنية ومعرفية في مجال صناعة الأدوات من الأحجار. وكانت الادوات الاقدم المكتشفة حتى الآن تعود الى 2,5 مليون سنة، وعثر عليها في اثيوبيا.
وقالت الباحثة سونيا هارمان لوكالة فرانس برس "كان العلماء يعتقدون لوقت طويل إن صناعة الأدوات الحجرية بدأ مع الإنسان الحديث (هوموسابيانس)، لكن هذا الاكتشاف يظهر إن نوعا بشريا آخر أقدم كان يتمتع بكل المقدرات المعرفية اللازمة لصناعة هذه الأدوات". وقد يكون هذا النوع هو استرالوبيتكس، أو ما يعرف بالقردة الجنوبية، وهو نوع من أشباه البشر قبل مليوني سنة إلى أربعة ملايين، ويعتقد إن الإنسان الحديث تفرع منه، بحسب فرانس بريس.
وكان العلماء يعتقدون ان هذا النوع ليس متطورا ذهنيا، وانه كان ربما قادرا فقط على استخدام ادوات، ولكن ليس صناعتها. لكن هذا الاكتشاف قد يعيد النظر في هذه النظريات التي ترى إن الإنسان هوموهابيليس، أو الإنسان الماهر، الذي عاش في الشرق الإفريقي قبل مليون سنة إلى مليونين، كان الأول من بين فصائل البشر في صناعة الأدوات.
والأدوات المكتشفة هي بمعظمها من القطع الثقيلة والكبيرة الحجم، منها مطارق وأدوات تقطيع وأدوات لإضرام النار. وقالت هاروان "من الصعب إن نتصور ألان شكل الحياة اليومية للبشر الأوائل، لكننا نتعمق في فهم خاصياتهم الجسدية بفضل البقايا العظمية أكثر من فهم سلوكياتهم وتنظيمهم الاجتماعي". وأضافت "الفكرة هي إن هذه الأدوات كانت تستخدم في تقطيع لحوم الحيوانات أو شق عظامها هي فكرة أولية، لكن من السابق لأوانه محاولة التعمق في خلاصات أخرى". وأوضح الباحثون في الدراسة انه ما زال ينبغي تحديد إي نوع بشري ينتمي صانعو هذه الأدوات إليه بدقة.
وفي هذا الإطار قالت الباحثة انه في العام 1999 عثر في المنطقة نفسها التي عثر فيها على الأدوات الحجرية، على بقايا لأشباه بشر من نوع إنسان كينيا الذي عاش قبل 3,2 مليون سنة.
وأضافت "يتزامن العصر الذي تعود إليه هذه الأدوات مع الحقبة التي عاش فيها إنسان لوسي، وهي أنثى من نوع اوسترالوبيثيكوس افارينسيس احد أسلاف البشر عثر على بقاياها في اثيوبيا وتبين إنها تعود إلى 3,2 مليون سنة. وقالت تريسي كيفل "ترتبط القبضة القوية والدقيقة بشكل أساسي باستعمال الأدوات الحجرية وصنع الأدوات لذا فمن الممكن أن يكون اوسترالوبثكوس افريكانوس قد استخدم الأدوات الحجرية أيضا." ويبدو أن هذا النوع ظهر قبل نحو مليون سنة من الأدلة المبكرة على الأدوات الحجرية. وكان التصور التقليدي للعلماء هو أن النوع (هومو هابيليس) أي الإنسان الماهر الذي ظهر منذ نحو 2.4 مليون سنة هو رائد استخدام الأدوات الحجرية في سلسال الأنساب البشرية.
بريطانيا استوردت القمح في العصر الحجري
أشارت نتائج دراسة نشرت يوم الخميس إلى أن سكان بريطانيا في العصر الحجري استوردوا القمح منذ نحو ثمانية آلاف عام في مؤشر مدهش على مدى حنكة هؤلاء الصيادين البدائيين ممن كان ينظر إليهم منذ زمن طويل عن إنهم يعيشون بمعزل عن الزراعة الأوروبية. وعثر علماء بريطانيون على آثار للحمض النووي الريبوزي (DNA) الخاص بالقمح في موقع خاص بالعصر الحجري قبالة الساحل الجنوبي لانجلترا قرب جزيرة وايت في علامة مفاجئة على التواصل بين هؤلاء القدماء الذين كانوا يعيشون على الصيد وجمع الغذاء ومزارعين حلوا محلهم فيما بعد.
وقال العلماء: إن تاريخ المادة الوراثية للقمح يرجع إلى ثمانية آلاف عام أي قبل ألفى عام من بداية قيام البريطانيين إبان العصر الحجري بزرع الحبوب و400 عام قبل ظهور الزراعة في أراض تقع بها شمال ألمانيا أو فرنسا حاليا. وقال روبين ألأبي عن الاكتشاف الذي عثر عليه بمنطقة بولدنور كليف "أصبنا بالدهشة عندما وجدنا القمح". وقال "يدل ذلك على التفاعل الحضاري" بين الإنسان البدائي في بريطانيا الذي يهتم بالصيد وجمع الطعام ومزارعين في اوروبا. وأضاف "سيربك ذلك حسابات علماء الآثار إذ أن الرأي السائد عن بريطانيا في تلك الحقبة كان يؤكد انعزالها. ليس بوسعنا سوى أن نخمن كيف حصلوا على القمح.. ربما كانت تجارة أو هبة أو سرقة" بحسب رويترز.
وعثر العلماء أيضا على المادة الوراثية الخاصة بالشوفان وأشجار الجوز والزان والوعول وطيور القطا والقنابر وحيوانات شبيهة بالابقار. لم يعثر على أي أثر حبوب اللقاح الخاصة بالقمح في العينات المكتشفة بما في ذلك تلك التي لم تزرع محليا. وعثر العلماء على المادة الوراثية في موقع يبدو انه خاص بحقبة ما قبل التاريخ وكان مخصصا أصلا لصنع القوارب وتقع هذه الأشياء حاليا تحت مستوى سطح البحر على عمق 11.5 متر. وكانت بريطانيا متصلة برا بقارة أوروبا خلال العصر الجليدي لكن ذوبان جبال الجليد أدى إلى ارتفاع منسوب سطح البحر منذ نحو عشرة آلاف عام وربما ظل هذا الجسر البري ثمانية آلاف عام. ووصلت الزراعة إلى منطقة البلقان منذ ثمانية إلى تسعة آلاف عام من منطقة الشرق الأوسط قبل أن تنتشر إلى بقية أرجاء أوروبا.
الإنسان القديم وعوامل الانتخاب الطبيعي
من جهة اخرى يعد الهولنديون أطول الشعوب في العالم، وهي ظاهرة تفسر بالظروف المناخية وأيضا بمبدأ "الانتخاب الطبيعي"، بحسب ما جاء في دراسة نشرتها مجلة رويال سوسايتي العلمية البريطانية. ويبلغ معدل طول النساء في هولندا 1,71 مترا، والرجال 1,84، لكن يبدو إن الوضع لم يكن هكذا على الدوام، بل إن "هولندا لديها قصة مميزة مع مسألة الطول. ففي القرن الثامن عشر، كان الهولنديون اقصر الشعوب في أوروبا، إذ لم يكن يزيد متوسط الطول بينهم حينها عن 1,65 مترا. وعلى ذلك، يكون متوسط الطول لدى الهولنديين قفز 20 سنتيمترا في السنوات المائة والخمسين الأخيرة، فيما لم يزد هذا المتوسط عند الأميركيين مثلا أكثر من ستة سنتيمترات. وقال الباحثون "إن ارتفاع معدل الطول بين الهولنديين سببه عوامل بيئية"، منها التغذية السليمة، ولا سيما من مشتقات الحليب، والتطور في مجال الصحة.
لكن العوامل البيئية لا تفسر كل شيء، "ومن الممكن أن يكون مبدأ الانتخاب الطبيعي ساهم في ظل هذه الظروف البيئية في زيادة الطول بين الهولنديين". ومبدأ الانتخاب الطبيعي، بحسب مبادئ التطور، هو بقاء الأصلح والأقدر على التعايش مع الظروف المحيطة، في مقابل اختفاء الأقل قدرة على تحمل هذه الظروف، على مدى أجيال ولفهم العلاقة بين الطول ومبدأ الانتخاب الطبيعي، حلل العلماء معطيات عدة، منها الوضع العائلي، وعدد الأطفال، والعمر لدى أول إنجاب، من خلال عينة من 94 ألفا و500 شخص عاشوا في شمال هولندا بين العامين 1935 و1967. وتبين في هذه العقود الثلاثة أن الأشخاص الذين كان لديهم اكبر عدد من الأطفال، هم الأشخاص الأكثر طولا والنساء المعتدلات في القامة.
وكان الرجال الأكثر خصوبة أطول من المعدل بسبعة سنتيمترات، وكان لديهم أطفال أكثر بمرة وربع المرة ممن كانوا اقصر من المعدل بأربعة عشر سنتيمترا. وقال خيرت ستولب "الأشخاص الأطول كانوا الأكثر قدرة على الإنجاب، وأولادهم طوال القامة مثلهم، ولذا فان الفرص تكبر لان تكون الأجيال اللاحقة أطول". أما في الولايات المتحدة، فان النساء القصيرات القامة، والرجال ذوي الطول المتوسط، هم الأكثر خصوبة.
اضف تعليق