كي يصل العميل أو المسترشد إلى مرحلة الاستبصار بأسباب مشكلته، فانه يحاول أن يفهم ذاته الحقيقية، ويتقرب في التعرف عليها أثناء الجلسات الإرشادية من خلال الإمكانيات والقدرات والظروف التي يتحدث عنها في الجلسات الإرشادية، لان المشكلة ببساطة حسب ما تراه هذه النظرية هو الصراع بين تحقيق...
بقلم: د. غالب محمد رشيد الأسدي
تؤكد هذه النظرية على تجارب وخبرات الإنسان والمشكلات التي تواجهه في حياته اليومية. وقد ظهرت كردة فعل على هيمنة وسيطرة نظرية التحليل النفسي والنظرية السلوكية منذ بدايات القرن الماضي على نظريات الشخصية.
إذ تؤكد نظرية التحليل النفسي على الجانب اللاشعوري من حياة الإنسان في الإرشاد والعلاج النفسي، بما يحويه من خبرات مؤلمة أو سارة وعقد تكونت خلال مراحل الحياة السابقة له، وتعده المنطلق الأساس في العلاج، بينما أكدت النظرية السلوكية على المثيرات والاستجابات لها وما يرافق ذلك من عمليات تعلم غير صحيحة تؤدي إلى ظهور مظاهر سلوكية غير مرغوبة تحتاج إلى معالجة شعورية من اجل تعديل السلوك وإبداله بسلوكيات مرغوبة.
فاختلفت النظرية الإنسانية عن نظرية التحليل النفسي في أساس هو أن الإنسان خير بطبعه، بينما اختلفت عن النظرية السلوكية في أساس أن السلوك الإنساني واع وعقلي وليس سلوكا آليا، فكانت النظرية الإنسانية وفقا لذلك فكرا ونهجا جديدا يختلف في أسسه الفلسفية عن فكري النظريتين العتيدتين.
من اشهر منظري هذه النظرية هما كارل روجرز 1902-1987 و ابراهام ماسلو1908-1970 الذي اهتم في دراساته بالأفراد الذين يعملون في مجالات حياتيه مختلفة ويعانون من مشكلات نتيجة لهذا العمل. كما حرص في دراسات أخرى على دراسة الشخصيات المشهورة والمبدعة، وذلك لمعرفة الكيفية التي يحققون بها الإنجازات في مجالات أعمالهم. ومن خلال جملة الدراسات التي أجراها توصل إلى أن الذي يتحكم أو الذي يلعب الدور الأساسي هو السعي لتحقيق الذات Self- actualization. إذ يرى ماسلو أن الشخص الذي يحقق ذاته هو الشخص الذي لديه دافع للإبداع واستخدام جميع إمكانياته في عمله أو مهنته أو وظيفته.
ويتفق معه على ذلك كارل روجرز، الذي يرى أن الإنسان لديه دافع فطري لتحقيق ذاته، وان الفشل أو الاحباطات التي تعترض طريق تحقيق ذاته هو الذي يؤدي إلى ظهور الأعراض أو المشكلات المرضية لديه.
يرى أصحاب النظرية الإنسانية من القدماء والمحدثين أن حل المشكلات والاستبصار بأسبابها والكيفية التي يمكن من خلالها الوصول إلى حلول أو معالجات يعتمد بشكل رئيس على العميل Client أو المسترشد، فهو الذي يضع الحلول لمشكلاته عندما يصل إلى مرحلة الاستبصار بأسبابها، لذلك تسمى الطريقة العلاجية أو الإرشادية لديهم بالإرشاد المتمركز حول العميل Clint-centered therapy or counseling.
تؤكد النظرية الإنسانية في العملية الإرشادية على سعي المرشد إلى الارتقاء بالمسترشد كي يحقق ذاته في أي مجال من مجالات الحياة. فإذا تمكن أو بلغ هذا المستوى من الإنجاز في العلاقة الإرشادية بين المرشد والمسترشد، فإن شعور المرشد سيتمركز أو يتمحور حول تحقيق هذا الهدف، أي بمعنى آخر يعد نقطة الشروع في تحقيق الذات، والتي سيكون لها معنى وليست روتينية أو هامشية، ومن ثم يشعر بالراحة والسعادة والرضى عن النفس، على الرغم من ذلك يجب على المرشد أن يوضح جميع الإمكانيات والظروف التي يمكن له أن يستخدمها للتغلب على المشكلات أو الاحباطات التي تعترض سير تحقيقه لذاته.
ويمكن أن تكون عملية التوضيح في ستراتيجية تحقيق الذات تتبع المتطلبات الآتية:
1- امتلاك الرغبة في التغيير.
2- اختبار الدوافع والتأكد منها.
3- الاختبار الصادق والصريح وبطرق مباشرة للحاجات او الرغبات.
4- الاستعداد لتحمل المسؤوليات وعدم التهرب منها.
5- استخدام وتوظيف التجارب الايجابية في الحياة.
6- الاستعداد النفسي لتقبل التغيير.
7- المرونة في تقبل الأفكار المخالفة.
8- تقويم التقدم الحاصل بشكل مستمر ومتواصل.
تعني هذه المتطلبات أن الإرشاد عند الإنسانيين يستهدف مساعدة العميل أو المسترشد على النمو النفسي السوي، ومحاولة لإحداث التطابق بين الذات الواقعية والذات المدركة (الذات عند الفرد كما يدركها هو) ومفهوم الذات للفرد كما يدركها الآخرون فيه. ويعني أيضا أن الإرشاد يركز على محاولة تغيير الذات للفرد كي تكون متطابقة مع الواقع، أو تحويل الذات المثالية عند الفرد (مثاليات الفرد في الحياة) إلى ذات واقعية (واقع الفرد كما هو عليه في الحياة). فإذا حصل هذا التحويل، حدث التوافق لدى الفرد، وهو دلالة على الصحة النفسية.
تنقسم الطريقة الإرشادية وفقاً للنظرية الإنسانية إلى قسمين: الأول هو التلقائية Spontaneity، وهي جعل العميل أو المسترشد يستبصر بالأمور والمشكلات التي يعاني منها، والتي من خلالها تظهر له نتيجة مفهومه عن ذاته ومفهوم الآخرين عنه، ومن خلال هذا الاستبصار Insight يلمس مدى الاختلاف بين مفهوم ذاته وممارساته الفعلية وخبراته.
والثاني هو التعاطف Empathy الذي يعني تلقي العميل أو المسترشد التشجيع على الاستمرار في الجلسات الإرشادية والقبول، ويعني هنا القبول، تقبل المرشد للمسترشد بكل عيوبه وسيئاته فضلا عن استشفاف مشاعر العميل أو المرشد لحظة بلحظة ومشاركته فيها، وإحساسه بالاهتمام في حل مشكلته.
كي يصل العميل أو المسترشد إلى مرحلة الاستبصار بأسباب مشكلته، فانه يحاول أن يفهم ذاته الحقيقية، ويتقرب في التعرف عليها أثناء الجلسات الإرشادية من خلال الإمكانيات والقدرات والظروف التي يتحدث عنها في الجلسات الإرشادية، لان المشكلة ببساطة حسب ما تراه هذه النظرية هو الصراع بين تحقيق الذات (بوصفها حاجة غريزية) والتحقيق الإيجابي للذات (أي تحقيق الذات وفقاً للمعايير الاجتماعية والأخلاقية السائدة في المجتمع).
يمكن أن نستخلص من توظيف النظرية الإنسانية في العملية الإرشادية إلى أن مسارها يتخذ الخطوات الآتية:-
1- العلاقة الإرشادية بين المرشد والمسترشد يسودها جو التعاطف والتقبل للمسترشد كما هو.
2- يحاول المرشد أن يعطي التوضيحات والتفسيرات ويجيب على أسئلة المسترشد المباشرة إثناء سير العملية الإرشادية بصورة هادئة ومناسبة، مع تعزيز المسترشد ورفع معنوياته بشكل متواصل على أنه قادر على حل مشكلته، لكن بشرط أن لا يعطيه حلول جاهزة، بل يترك أمر الوصول إلى حل المشكلة للمسترشد نفسه (يحل مشكلته بنفسه بعد الوصول إلى مرحلة الاستبصار بأسبابها).
3- بعد مرور عدة جلسات إرشادية، يحاول المرشد أن يعطي تأويلات لمشاعر المسترشد المتدفقة لاسيما المشاعر الهائمة أو المكبوتة، على الرغم من أن المسترشد يحاول أن يخفي بعض هذه المشاعر، لكن على المرشد أن لا يهتم بذلك تاركاً المجال لزيادة الثقة والاطمئنان بالعلاقة الإرشادية والمرشد إن تمكن المسترشد من البوح والكشف عن أسرار أو خفايا أدق عن أسباب المشكلة، وهو كثيرا ما يحث بعد مرور عدة جلسات إرشادية والتزام المرشد بمتطلبات العملية الإرشادية وشعور المسترشد أن الهدف العام للعملية الإرشادية هو الحل الجدي لمشكلته.
4- لابد في نهاية الجلسات الإرشادية مهما كان عددها من إجراء تقويم شامل لسير العملية الإرشادية (يقوم بها المرشد نفسه أو بينه وبين المسترشد مباشرة) لرؤية مدى التطور أو التغيير الحاصل على مفهوم الذات لدى المسترشد، فضلا عن معرفة الرؤية المستقبلية التي تكونت لدى المسترشد عن تحقيق ذاته.
اضف تعليق