قديما قيل الكثير في محاسن الاختلاف، فثمة من يرى فيه إثراء للرأي وتلاحما للفكر، وتكاملا في وجهات النظر وإن اختلفت، فمن مزايا الجدل أن تكثر الآراء وتختلف وجهات النظر عن بعضها، وقد تتضارب فيما بينها وتذهب مذهبا مختلفا، لكنها بالنتيجة لا تفسد بعضها بعضا، حتى بلغ بأهل الشأن أن يطلقوا المقولة المأثورة التي أعلنت بأن (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)، ولا ينعكس سلبا على طبيعة العلاقات الفردية والجمعية، بل يزيدها تلاحما وتقاربا وجدوى، حينما يجعل من الاختلاف نوعا من التكامل، أي أن الآراء تكمّل بعضها.
ينتج عن الاختلاف رؤى عديدة بعضها ربما يتناقض مع بعض في الهامش أو الجوهر، ولكن يقع هذا النوع من التعدد ضمن مؤشرات النضوج المجتمعي، والتعامل مع الرأي الآخر بطريقة متمدنة، تدل على سعة البال والنفس والعقلية التي يحملها الإنسان، ويزن بها الأفكار والأشياء وأنماط الحياة التي تختلف عن حياته وأفكاره وقناعته، إذاً لا ينبغي لك أن تتقبل الفكر المختلف، لكن لا يصح لك نسفه بأية حال، بل عليك التعامل معه بحيادية من دون أن تعمل به، او تقبل فرضه عليك من لدن الطرف الآخر، مثلما لا يجوز لك أن تفرض رأيك على الآخرين، أو تحسبهم من المخالفين، لأن الخلاف غير الاختلاف، ولابد أن نفهم ونؤمن بأن الرأي لا ينحصر في مسار فكري واحد لذا يأتي التعدد في الرؤى ضمن مشهد الثراء الفكري.
من ناحية أخرى، ثمة رؤية يلتقي فيها المعنيون من مفكرين وسياسيين وغيرهم، وهي تتعلق تحديدا بدرجة التعايش بين مكونات المجتمع، حيث تشكل المعيار الأكثر دقة على مدى تحضّر ذلك المجتمع، بمعنى أوضح، كلما كان المجتمع ومكوماته أكثر استعدادا للتعايش والانسجام والتقارب والتناغم، كلما كان المجتمع أكثر تطورا وتقدما واستقرارا واقترابا من كمال التحضّر، في العيش والتفكير والسلوك على نحو عام، لذلك تعد سمة التعايش من أهم المؤشرات والمزايا التي تصب في صالح التعدد والاختلاف، كونها استطاعت أن توحد المجتمعات، وتجعلها أكثر استقرارا وتناغما، ومن ثم تصبح مجتمعات مستقرة ومنتجة في وقت واحد، وهذا يثبت على نخو قاطع بأن الاختلاف لا يعني الخلاف ولا الاحتراب ولا التعصب، بل كل منا ينظر الى الأمور من زاوية محددة، تتشابه فيها الرؤية للموقف والفكر والمبدأ ولكن زاوية الرؤية تكون مغايرة وهذا يثري المشهد ويجعله ذا مضامين ورؤى متعددة بدلا من الانحسار في طريق أو مسار أو فكر شمولي واحد، يلغي الآخر ويعلن نفسه الصحيح الأوحد.
التدريب على ميزة التعايش
هناك مجتمعات متميزة فكرت بدقة بهذا الأمر، وتفهمت أن الاختلاف يمكن أن يحسن من درجة التعايش شريطة أن يؤمن الإنسان بأن النظر الى الحيات وتفرعاتها لا يمكن أن ينحصر في رؤية فكرية ضيقة وحيدة ترفض أفكار الآخرين، وقد بدأت تلك المجتمعات بتدريب الإنسان طفلا حيث شرعت في نشر ثقافة التعايش بين الأطفال أولا، صعودا الى الفئات العمرية الأعلى، ولكنها تسعى أولا لنشر هذه الثقافة بين الأطفال لكي ينمو الكائن البشري حاملا في تكوينه الفكري والسلوكي، ثقافة التعايش والاندماج في المجتمع، بغض النظر عن الاختلافات الفكرية والعرقية والدينية وما شابه، ومؤمنا بالاختلاف مع عدم الرضوخ الإكراهي للفكر الآخر، لهذا لا تتعرض مثل هذه المجتمعات الى أية أزمة او حالة من حالات التطرف، والتعصب والتكفير، كما يحدث في بعض المجتمعات والدول الإسلامية، حيث يلجأ كثيرون الى تكفير الآخر، لمجرد الاختلاف معه في الرأي، او الفكر او الثقافة او العرق، أو المعتقد، في حين أن المجتمعات المستقرة بلغت من درجة التعايش مبلغا بات يجنبها الفتن والاضطرابات والأحقاد، فليكن التعدد في الفكر والاختلاف في وجهات النظر متمما لطريقة العيش ومهذبا لمسارات الحياة.
بهذه الطريقة تمكنت المجتمعات الراقية أن ترتقي أكثر بعد أن تخلصت من حالات الاحتقان المجتمعي الذي يحدث كنتيجة لاختلاف المكونات من حيث طبيعة الانتماء، ولكن درجة تحضّر تلك المجتمعات وتمدنها، جعلها أكثر قدرة على الاندماج السريع، وفض الخلافات عن طريق القيمة الأرقى من بين قيم التقدم ألا وهي قيمة التعايش التي تمحو حالات الصراع، وتحول حالات التعصب والتطرف الى حالات تناغم وتفاهم وانسجام، مما يخلق حالة من الاستقرار الدائم والقوي وهذا بدوره يشجع على الإبداع وتنمية المواهب والقدرات الكامنة في عمق الإنسان، على العكس فيما لو كانت الأجواء محتقنة ومتشنجة بين مكونات المجتمع، اذ يؤدي هذا الى تحييد المواهب وتبعثر الطاقات واندثارها، بسبب حالات الصراع والأزمات المتلاحقة التي يعاني منها المجتمع الذي لا يؤمن بالتعايش، فيكون عند ذاك لقمة سائغة للتناحر والفتن والاضطراب، مما يؤدي الى فقدان فرص كبيرة على طريق التطور والاستقرار الذي تقطف ثماره المجتمعات الواعية والدول المستقرة.
برمجة الاختلاف وتحييد الخلاف
وهكذا شرعت الدول المتمدنة بوضع البرامج الكفيلة بوأد حالات الخلاف، مع الإبقاء على التعدد في الفكر والرؤية، أما الكيفية التي تم من خلالها نشر التعايش والتعاون والاحترام بين مكونات المجتمع المتعددة، فقد بدأ ذلك بالأطفال، ذلك أن هذا الأمر يستدعي جهدا وتخطيطا دقيقا وتنفيذا مخلصا من لدن الجهات المعنية، لاسيما الجانب الحكومي والجهات التعليمية التربوية المعنية، فضلا عن المؤسسات والمنظمات التي تُعنى بنشر قيم المحبة والسلام والتسامح بين أوساط المجتمع كافة، ولاشك أن الدولة ينبغي عليها أن تدعم هذا الاتجاه وتقدم التسهيلات اللازمة للجهات الفاعلة والناشطة في هذا المجال، اذ يتطلب الأمر نوعا من الدعم الحكومي لاسيما المادي لإقامة النشاطات المختلفة كالندوات وعرض الأعمال الفنية في قاعات عرض جيدة ومناسبة، وإقامة دورات التدريب والترويج الفعلي لقيمة التعايش بين الأطفال وجميع الفئات لضمان انتشارها كمبدأ أخلاقي قيمي اجتماعي يعمل به الجميع إيمانا وقناعة وليس فرضا بالقوة، لتصبح حالة التعايش في آخر المطاف منهجا سلوكيا يوميا معتادا من لدن الجميع، وليس حالة مظهرية شكلية أو كمالية قد يسلكها البعض من اجل التجميل الخارجي او لتمرير أهداف سياسية أو سلطوية أو سواها، لكن بالنتيجة يبقى الأهم هو التفهّم المتبادَل بين الجميع من دون الإكراه أو الفرض ولندع الأمر تسير في مسارها الطبيعي.
من هنا نخلص الى أن الاختلاف لا يؤذي أحدا مثلما يفعل الخلاف، كما أن التعايش ظاهرة اجتماعية لا ينبغي التنازل عنها من أجل بناء مجتمع راقي ودولة متطورة مستقرة منشغلة بتحقيق التقدم ومواكبة ما يحدث في عصرنا السريع وهو يخطو الى أمام بل يقفز قفزات هائلة في مجالات العلم والفكر والسلوك، ضمن إطار تنافسي ينبغي أن نجد لنا مكانا فيه، ولكن هذا الأمر لا يمكن الحصول عليه إلا ضمن إطار التفرغ (للتقدم والتطور) من خلال نشر التعايش وقبول الاختلاف.. ودرء مخاطر الخلاف بكل أنواعها وأشكالها ومصادرها.
اضف تعليق