اللاعنف فلسفة.. أو طريقة حياة.. أشاد بها العلماء والفلاسفة الإنسانيون.. وأشبعوها بحثا وتفصيلا.. فأخذها عنهم ساسة.. رؤساء دول وحكومات وأحزاب ومؤسسات ورجال سلطات متباينة.. وطبقوها من ضمن أساليبهم في تطويع السلطة وتحريكها وتوجيهها.. بما يحصد نتائج مثمرة ذات طابع مزدوج.. ذاتي وعام.. الأول لتدعيم السلطة وحمايتها وتقويتها.. الثاني لصالح الوسط المستهدّف.. ربما هو الشعب.. أو شريحة منه.. أو مجموعة موظفين وقد يكونوا طلبة في جامعة أو مدرسة.. حتى الأسرة مشمولة بهذه المنفعة.
وجاء في تعريف اللاعنف أنه يمكن أن يكون إستراتيجية سياسية أو فلسفة أخلاقية.. تنبذ استخدام العنف في سبيل أهداف اجتماعية أو من أجل تحقيق تغيير سياسي.. وينظر إليه على أنه بديل لموقفين آخرين هما الرضوخ والانصياع السلبي من جهة.. أو النضال والصدام المسلح من جهة أخرى.
أما تعريف التربية.. ونبدأ بالتعريف اللغوي.. فقد عَرَّف اللُغَويُّون وأصحاب المعاجم لفظة التربية بأنها إنشاءُ الشيءِ حالاً فحالاً إلى حَدِّ التمام.. وفي التعريف الاصطلاحي تعني التربية مجموعة العمليات التي بها يستطيع المجتمع أن ينقل معارفه وأهدافه المكتسبة ليحافظ على بقائه.. فيما تنعني التربية الأسرية كل ما يخص المؤسسة العائلية وطرائق إدارة أفرادها بسلطة الأبوين بعيدا عن استعمال العنف.
وسوف نحصر مقالنا هذا في نوع واحد من أنواع العنف.. ونعني به ذلك الأسلوب الخشن في تعامل الآباء والأمهات أو بديليهما من الأخوان الذكور والإناث في حالة غياب الأب أو الأم لأي سبب كان.. إن السلطة الأبوية ظاهرة للعيان في مجتمعنا العراقي.. وهو يكاد يرسم لنا مشهدا عنيفا مستمرا.. فتوجد مئات العائلات يعاني أفرادها.. أطفالها والمراهقون منهم وحتى الشباب.. من خشونة في التعامل الأسري يصل حد الضرب أو القمع وإلحاق الأذى بهم من خلال استخدام السلطة الأبوية الآمرة.
قد لا يعي الأب أو الأم ماذا يعني العنف مع الأطفال.. وقد لا يخطر في بالهم نتائج أفعالهم.. فالعنف التربوي منقول لهم من الأب والجد والأسلاف عبر سلوك جاهل.. وإن كان غير مقصود.. بيد أن الجهل يقف وراءه.. فنجد إصرارا غريبا للآباء والأمهات على إلحاق الأذى بفلذات أكبادهم.. فيتطور الكلام الجارح الى الضرب.. ثم الى الضرب المبرح وقد يصل الى الحبس في زاوية ما من البيت.. ولا نستغرب تلك الأخبار التي تنقل لنا تعذيب بعض الآباء والأمهات لأطفالهم تحت مبررات لا تسوّغ العنف في أي حال.
لا مناص من المعرفة القطعية بأن العنف ممنوع بكل أنواعه.. قد لا يتصور بعض الآباء والأمهات تلك النتائج والعواقب الوخيمة التي يصنعها العنف الأسري.. ربما عن جهل أو عن تعمّد.. ولكن من المهم أو اللازم قطعيا أن يفهم الأرباب التربويون بأن العنف التربوي بجانبيْه (اللفظي والمادي أو الجسدي).. يدفع نحو نتائج نفسية لا تقل خطورة وأذى عن الأمراض الجسدية.. السارية منها.. والمعدية التي تصيب أعضاء الجسد عبر الجراثيم والفايروسات بأنواعها.
إننا نقف في مواجهة مرض خطير قد يصل درجة الوباء.. هو الوباء التربوي العنيف.. وهو ينتقل أسرع أو بسرعة الأوبئة الأخرى.. لذلك حذر العلماء الأجلّاء من هذا الوباء الفتاك.. فنشروا البحوث والمجلدات.. والنظريات التي تقد اللاعنف كبديل عن الأذى الذي يمكن أن يلحق بالجيل الناشئ.. هذا ما نعثر عليه في النظرية التي وضعها الإمام الشيرازي الراحل في كتبه الفكرية والتربوية والأخلاقية.. خاصة في كتابه (نظرية اللاعنف).. حيث يقترح بالنتيجة حلولا نافذة الى الصميم لمعالجة هذه الظاهرة.. بعد أن يطرح ويفسر أسباب هذا الوباء والنتائج المريعة التي تؤذي الشباب والأطفال على نحو الخصوص.. وفي الآخر يقترح الحلول البنّاءة التي تُنشئ الأسوار والحواجز الكفيلة بوقف هذا الوباء عند حده.
يحذر الإمام الشيرازي من مرض العنف الأسري.. ويدعو الى مكافحة أنواع العنف الأخرى.. ويضع لهما بديلا سهلا ونبيلا هو اعتماد الاحتواء ونبذ التناقض الحدّي.. وترويج أساليب غير عنيفة.. لامتصاص التصادمات أياً كان منشؤها.. ويضع فلاسفة آخرون خطوات مقاربة من هذا المنهج.. عندما يطالبون برصد مسببات العنف.. ومقارعة كل من وما يشجّع عليه في الأسر والمدارس ومحيطات العمل المختلفة.
على أن يكون البديل هو الاحتواء والتفهّم والتلويح بما ستؤول إليه الأوضاع الأسرية والاجتماعية.. في كنف العنف ونشر أساليبه التي تضاعف من اضطرابات المجتمع.. وتنشر الخوف والقلق والاضطراب بين فئاته وشرائحه من دون تفريق بين هذا وذاك.. ويرى مختصون آخرون أن الجهل له حصة كبرى في التشجيع على العنف.. بالمقابل يحد العلم والفهم والوعي من اعتماد العنف تربويا.. فالجهل بحسب هؤلاء له حصة الأسد في تنمّر العنف وتعدد مصادره وتوسعه في المحيط الأسري.
من حسن الصدف أن جميع من كتب عن العنف الأسري.. أو معظمهم.. قدموا مقترحات فعالة لمكافحة العنف الأسري.. وبدؤوا أو بإيضاحات دقيقة عن ما ستؤول له نتائج العنف.. وبهذا يطالب الفلاسفة الرافضون للعنف مثل الإمام الشيرازي.. بفهم أسباب العنف أولا.. حتى يمكن محاصرته في خانة ضيقة والبدء برصده نفسيا وعمليا.. لا نجد دينا من الأديان يحث على العنف.. العلماء الأجلاء يدعون الى نبذه.. ويدعو الإمام الشيرازي في نظريته عن اللاعنف الى وجوب نبذ الترهيب والإكراه وكل ما له علاقة بالأساليب العنيفة.
ضمن هذا الإطار الرافض للعنف الأسري نجد أقوالا وآراءً حاسمة للإمام، فيشير بقوة الى تحريم العنف دينيا، حينما يؤكد الإمام الشيرازي.. بأن الإسلام يحرّم الغدر والاغتيال والإرعاب وكل ما يسمى اليوم بالعنف والإرهاب.. فإنه لا عنف في الإسلام.. ولا يجوز أي نوع من أعمال العنف والإرهاب الذي يوجب إيذاء الناس وإرعابهم، والغدر بهم وبحياتهم، أو يؤدي إلى تشويه سمعة الإسلام والمسلمين.. ولا ريب أن الغدر والإرعاب والترهيب والبطش بأنواعه.. وإلحاق الأذى المتعمَّد.. كل هذه الأساليب مرفوضة لأنها تصبح دليلا على استخدام العنف وتقديمه على سواه.
حتى بات اللاعنف أسلوب حياة.. على كل من يعتنق الإسلام أن يلتزم به.. فالأب غير مسموح له باللجوء الى الضرب والصفع .. ولا يسمح له بالتعذيب النفسي.. كذا هو الحال بالنسبة للأم.. في حالة جهل كليهما أو أحدهما.. تنتقل القضية الى ذوي الشأن من المسؤولين عن تركيز الوعي ونشره.. وتوضيح غوامض الأمور للآباء والأمهات.. وتوسعة عقولهم ومداركهم.. فلا يصح أن يكون الأب جاهلا والأم جاهلة وهما مسؤولان عن جيل من الذكور والإناث سوف يصبحون تشكيلة أساسية للمجتمع مستقبلا.
وختاما يسهم اللاعنف في تعزيز أواصر العلاقات الأسرية.. يضاعف من أجواء الاستقرار.. ينشر المحبة والوئام.. يكون التفهم سائدا بين الجميع.. تسود علاقات حميمة بين أفراد الأسرة.. تنتقل هذه العلاقات المستقرة الى الأوساط المجتمعية.. يغدو المجتمع مثاليا كارها للعنف.. مفضّلا للهدوء والتقارب.. حينها سوف نكون أمام مجتمع ذي سلوك أسريّ نموذجي.
اضف تعليق