من حيث صفات الخَلق، لا يختلف السلطان عن سواه من عامة الناس، والحاكم لا يمتلك كثيرا من المؤهلات التي ترتفع به الى السلطة وأعني بهذا الكلام في المجتمعات المتأخرة التي يتم الوصول فيها الى السلطة ليس بقوة أصوات الناخبين ونتائج صناديق الاقتراع، وانما بطريقين، أما بقوة السلاح والسيطرة على مقاليد السلطة بالقوة الغاشمة، او عن طريق تزوير الانتخابات والتلاعب بما تفصح عنه صناديق الاقتراع من نتائج.
وقد يصل الحاكم الى السلطة كونه دخل مصادفة في شبابه الى احدى الكليات العسكرية (بسبب معدل علامته المتدني في الامتحانات)، فلا تؤهله علاماته ومعدل درجاته كي ينتمي الى كلية علمية فيدخل الكلية العسكرية لانها الطريق الوحيد المفتوح أمامه، فيصبح ضابطا في القوات المسلحة، وفي العادة يتدرج الضباط في الرتب والمناصب، وفي يوم ما سيجد نفسه في قمة السلطة بعد ان ينتمي الى احد الاحزاب او الجماعات الايدلوجية، كما حدث مثلا لعبد الناصر في مصر، والقذافي في ليبيا، وفي سوريا وفي العراق وفي معظم الدول العربية.
وبعد أن يصبح طالب الكلية العسكرية ضابطا ثم رئيسا او حاكما للدولة، سوف تختلف حياته على نحو تام، ليس شخصه فقط، وانما عائلته وذويه واصدقائه ومعاونيه والمقربين منه، هذه الطبقة سوف تختلف حياتها ونمط عيشها بصورة كلية عن باقي افراد الشعب، يحدث هذا في الدول المتأخرة عن الركب العالمي المتقدم، لذلك في المجتمعات المتأخرة، يمكن أن نلاحظ بسهولة ومن دون عناء، فارقا كبيرا وواسعا يفصل بين الطبقة الحاكمة والطبقة الاوسع، وهي الطبقة الشعبية او الطبقة الفقيرة، وهذا الفارق والتباين يأخذ طابع البذخ والتبذير والتعالي بالنسبة للطبقة الحاكمة، فيما يأخذ طابع الفقر والذل والحرمان بالنسبة للطبقة المحكومة او الطبقة الفقيرة.
نتائج التحوّل غير المتوقَّع
وهكذا يتحول الحاكم وذويه اي الطبقة الحاكمة بصورة آلية الى نمط عيش فيه الكثير من مظاهر البذخ والتركيز على الشكل واهمال الشعب، لذا فإن المسؤول في الحكومة غالبا ما يتعالى في سلوكه مع المواطنين، باستثناء ما يتعلق بالاعلام، حيث يظهر المسؤول او القائد وكأنه حريص على الشعب ومتواضع، حتى الطغاة يتصنعون حب الشعب ومراعاة الفقراء عندما يتعلق الامر بالاعلام، أما الحقيقة فهي تؤكد بما لا يقبل الشك حالة التكبر والبذخ بالنسبة لمن ينتمي من الموظفين والمسؤولين للطبقة الحاكمة، مقابل حالة الفقر المدقع والحرمان والجهل الذي يرتع فيه الفقراء في الدول المتأخرة، ويحدث هذا في المجتمعات الضعيفة والدول التي لا تضبطها دساتير ومعايير في الوصول الى السلطة.
مشكلة اخرى تمت ملاحظتها في الأوضاع السياسية في المجتمعات العربية على نحو عام، وهي تتعلق بالقوى المعارضة للحاكم، فهي خارج الحكم تكون مناضلة وذات منهج كفاحي، وبعد الوصول الى السلطة تثبت التجربة العملية ان معارضة الامس باتت تتصرف كالحاكم السابق بعد ان تسلمت السلطة، والذي يثبت ذلك واقع حال هذه الطبقة التي كانت معارضة بالامس الى جانب الشعب واصبحت ضمن الطبقة الحاكمة.
ضمن هذا الاطار الذي تطرقنا له سريعا ثمة ظاهرة أكدها المراقبون المعنيون بالانظمة السياسية في الدول المتأخرة، ومنها الدول العربية والعراق بطبيعة الحال، هذه الظاهرة تتعلق بالكفاح المدني المعارض للانظمة الجائرة التي تتحكم بثروات الشعوب فتسرقها وتتمتع بها الطبقة الحاكمة، فيما تترك الفقر والحرمان والجهل للطبقة المحكومة، وعندما ينجح المعارضون ويصلون الى دفة الحكم، هؤلاء المعارضون انفسهم يتحولون الى طبقة حاكمة تضطهد الطبقة الفقيرة المحكومة، وينسى المعارضون نضالهم ومبادئهم وكفاحهم، وهم يبذخون ويتنعمون بثروات وأموال الطبقة الفقيرة، حدث هذا الشيء في دول عديدة، سقط فيها الطغاة بقوة المعارضة، لكن المعارضين تحولوا الى حيتان تأكل ثروات الشعب عندما اصبحوا حكاما، وقد حدث هذا في معظم التجارب السياسية الحاكمة في الدول العربية ومنها العراق ايضا.
لا ينحصر التدني في مجال أنماط العيش والبذخ واتساع الفارق بين الطبقة الحاكمة والمحكومة، علما أن الأوضاع لا تتوقف عند سرقة مال وحقوق الفقراء، بل نشأت قيم متخلفة تتملق المسؤول وترفع من شأنه، وتجعله متميزا عن المواطنين الآخرين، في حين ان القانون المعلن لا يفرق بين مواطن فقير ومسؤول غني وقوي، فالصحيح ان الكل سواسية امام القانون، ولكننا نلاحظ ان المسؤول الحكومي، غالبا ما يُحاط بهالة من الترحيب والتكريم والتزلّف المفتعل من لدن الكثير، حتى الفقراء انفسهم يتملقون المسؤول صاحب السلطة او المنصب او المال! وبهذا لم تفقد الطبقة المحكومة حقوقها وعيشها الرغيد بسبب الطبقة الحاكمة، وانما هي نفسها (الطبقة المحكومة) تساعد الحاكم على التفريط والانتقاص من حقوقها.
ظاهرة الاستخفاف بالشعب
هذه الامور التي تدل على استخفاف بالطبقة المحكومة، هي التي أسهمت بطريقة او اخرى في صنع بون حياتي ترفيهي واسع بين الاثنين، وعندما يتعلق الحديث بالعراق، فلا يختلف الامر كثيرا، بمعنى ان ظاهرة الفرق بين الطبقة الحاكمة والمحكومة ليست غائبة، بل على العكس اصبحت واضحة جدا، وتزداد رسوخا مع كل يوم جديد، بمعنى اننا في العراق ازاء صناعة طبقة متعالية متعطشة للثراء والبذخ على حساب الطبقة المحكومة، إذ تشير الارقام الواردة او المثبتة والمعلنة مطلع العام الجاري من وزارة التخطيط الى ان نسبة الفقر في العراق تصل الى 23% من الشعب، وهي نسبة كبيرة في بلد يضم بأراضيه ثروات نفطية ومعدنية هائلة، فضلا عن ان الطبقة الحاكمة فيه تنحدر في الغالب من جذور فلاحية فقيرة، بالاضافة الى آخرين يدّعون أنهم من التكنوقراط، وهكذا يتضح أن ما يحدث من تجاوز على المال العام، وهو امر لا يمكن ان ينكره احد من المسؤولين او غيرهم، يتم بأيدي الفقراء القدماء الذين اصبحوا اليوم اغنياء على حساب الطبقة الفقيرة، بعد أن تسلقوا على اكتاف الشعب نحو سدة الحكم.
وختاما تبقى هناك مواقف مؤلمة، قد لا تعبأ بها السياسة، على الرغم من انها ذات منحى انساني، فالفقير سابقا كان ثائرا، وعندما بلغ سدة الحكم صار حاكما متعجرفا وربما ينطوي سلوكه الى بعض الطيش بسبب انتقاله من طبقة المحكومين الى الحاكمين! والمفارقة المؤلمة ان فقراء الامس ومعارضي الطغاة أنفسهم يشكلون الطبقة الحاكمة اليوم، لهذا قد تبدو صناعة الفجوة الطبقية بين الحاكم والمحكوم غريبة، فضلا عن كونها تحزّ في النفس، إذ كان المأمول من طبقة الحكم في العراق اليوم، ان تردم الفجوة بين الطبقتين الحاكمة والمحكومة لا أن تزيدها بعدا وسعةً، لذلك فإن هذه الفجوة الطبقية تسيء لعراق اليوم، عراق الديمقراطية الجديدة، لذا على الطبقة الحاكمة وخاصة اصحاب الجذور التي تتحدّر من الفقراء، ان يردموا هذه الفجوة، وان لا يتعالى المسؤول على الناس، كذلك على الناس ان يحتفظوا بكرامتهم، ويكفوا عن التملق والتزلف للمسؤول الذي كان بالامس فقيرا مثلهم، واصبح اليوم يتنعّم ويبذخ بأموالهم ونسي انتسابه بالامس لطبقة الفقراء!!، فمن لا يحترم كرامته لا يمكن أن يحترمها غيره، وخاصة اذا كان معارضا ثم تحول الى حاكم او احد مسؤولي الطبقة الحاكمة.
اضف تعليق