q

رغم الازمات والمشاكل التي يعيشها المسلمون في شتى أنحاء العالم، إلا أنهم يشعرون بالفخر والاعتزاز كونهم مسلمين، يلتزمون بالاحكام والآداب والقيم، ومردّ هذا، الى ما يوفره الاسلام من استقرار نفسي وحالة من الرضا في الحياة، لاسيما عندما يلاحظون الظروف التي تعيشها الأمم الاخرى، حيث الازمات والمشاكل، ليس في ظاهر الحياة، إنما تضرب في أعماق جذور البناء الاجتماعي والعقائدي، حيث لا يخرجون من أزمة الصحة وانتشار الأوبئة، حتى يدخلوا في أزمة الاقتصاد والانهيارات المدمرة، فضلاً عن مظاهر الانحراف في النظام الاجتماعي الاكثر شيوعاً وظهوراً على ساحة الاحداث. لذا نلاحظ الالتزام بالحجاب، كما هو في بلاد الشرق الاوسط، فانه موجود في قرى افريقية لم يسمع بها أحد، كما أن الالتزام باللحم الحلال في أسواقنا، فهو كذلك موجود في أقصى القرى الاندونيسية وهكذا...

واذا تصفحنا المنجزات الحضارية وما يمكن ان يستفيد منه الانسان في حياته، ويجعله على سكة التقدم والتطور، نجد هنالك العديد من المفردات والعناصر غائبة عن سكان العالم، فقيم مثل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الآخرين وغيرها، لا تنصرف الى الاحاديث النظرية، بقدر ما تمثل قواعد لنظام متكامل في الحياة، وهو ما يقرّه المفكرون والفلاسفة الغربيون انفسهم، بيد أن المشكلة في وجود هذه القيم ضمن أطر محدودة بالزمان والمكان، ولم تتبلور وتجد لها مصاديق عملية وتطبيق صحيح.

وربما ينصرف الذهن هنا الى الدعوة لمزيد من حملات التبليغ والنشر حول العالم، وبذل المؤسسات والهيئات المزيد من الجهد في هذا الطريق. وهو صحيح، بيد أن الاستحقاق الحضاري لا يتم بهذه الطريقة وحسب، اذا قارنا الجهود الموجودة مع حجم التحديات والتنافس المحموم على التأثير ثقافياً في أرجاء المعمورة. فالتأثيرات الثقافية والفكرية وما تحمله من تصدير للأذواق والسلوك والعادات التي نلاحظ هطولها علينا، لا تأتي من منظمات وجمعيات محددة في العالم، إنما نلاحظها من على آلاف القنوات الفضائية، وآلاف المواقع على "النت"، كما نجدها في مختلف أنواع السلع والمنتوجات القادمة من شتى انحاء العالم. فكل هذه تشكل اليوم عناصر مكونة للشخصية الانسانية، فهي تصوغ السلوك والأخلاق والذوق وكل شيء... تبقى نسبة التأثير متفاوتة بين مكان وآخر، ومجتمع وآخر.

وهذا يعني - مما يعنيه- أننا امام مهمة واستحقاق لا مفر منه، وهو أن يتحمل المسلمون في كل مكان، مسؤولية تصدير عناصر التقدم والتطور الانساني، فالقضية لا تتعلق بالضرورة بعالم دين، او بمؤسسة ثقافية او غير ذلك، إنما الانسان المسلم، رجلاً كان أو امرأة او حتى شاب يقضي فترة الدراسة في بلاد الغرب او الشرق، عليه أن يقدم صورة مشرقة تحمل المضامين الانسانية والعناصر البناءة. وكلما كانت الظروف مؤاتية والامكانات متوفرة، كانت المسؤولية أكبر، وهو ما يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الى العالم" بأن المسلمين في الغرب يتمتعون بالحرية وبالامكانات المالية الجيدة، حيث يعيشون ضمن قوانين تحمي حرية التعبير والعقيدة، وهذا يشكل فرصة للعمل المنظم والمؤسسي لتأسيس تجرية اسلامية حقيقية في أي بلد غربي، يكون مثالاً يُحتذى به.

ورب سائل يستفهم الوضع الراهن في العالم، وسبب تحول الاسلام من قيم ومبادئ انسانية واخلاقية، الى "ارهاب" و"رعب اسلامي" (إسلام فوبيا)...؟

هنالك اسباب عديدة لا نخوض فيها، منها اعتماد المسلمين في العالم وتحديداً في الغرب على المشاريع الجاهزة القادمة من دول الشرق الاوسط، وهي دول مليئة بالأزمات والفتن في الفكر والعقيدة، مثل التطرف الديني والكبت، فيما كانت بلاد الغرب، تعيش ازمات من نوع آخر في عالم السياسة والاقتصاد، حيث الشعوب تعيش وطأة سباق التسلح والحرب الباردة وما بعدها من أزمات اقتصادية شدت الخناق على الشعوب، كان آخرها الازمة الاقتصادية العالمية. فبدلاً من ان نصدر الى الغرب المفاهيم الانسانية والقيم الاخلاقية ونعرض الحلول والخيارات المنطقية لحياة افضل، وضعنا كل هذا جانباً ثم نقلنا تلك الازمات الى واقعنا وحياتنا، سواءً في بلاد الغرب او في بلادنا الاسلامية، فأزمة الامن والاستقرار التي كانت تعاني منها اوربا خلال اكثر من نصف قرن بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين، انتقلت الى الاسلام، واصبح هو الذي يمثل ويجسد اللااستقرار والاضطراب ليس في الغرب، وإنما في جميع انحاء العالم.

وهذا ما تنبأ به سماحة الامام الراحل منذ تسعينات القرن الماضي في مؤلفه القيّم، حيث دعا الى اعتماد أسس رصينة تنقل الصورة الحقيقية عن الاسلام، يسميها سماحته "الآيات الأربع" وهي: الشورى والحرية والأمة والأخوة. إن التزام هذه القواعد والأسس هو الذي يمنح القوة والمنعة للمسلمين في كل أنحاء العالم، لأن العالم حينها سيتعرف ويكتشف حقيقة الاسلام ومبادئه وقيمه التي تتطابق مع الفطرة الانسانية ويجيب عن كل التساؤلات والاستفهامات. وهذا بحاجة الى انتاج معرفي وعمل ثقافي يشترك فيه الجميع، كلٌ حسب مقدرته كفاءته العلمية والمهنية والفنية. فحتى الطفل الصغير في أي بلد بالعالم، قادرٌ على تقديم صورة مشرقة وحسنة عن القيم والمبادئ التي يتربى عليها، مثل الشفقة والتسامح والتآخي وغيرها.

اضف تعليق