السلام في الأسرة يبدأ بعد أن يحصل السلام بين الإنسان ونفسه وقد أوجب الإسلام هذه المصاحبة وذلك لأن بدن الإنسان وروحه ونفسه وعقله وسائر حواسه وجوارحه كلها أمانة بيده، فاللازم مداراتها جميعا حسب الموازين الصحيحة الواردة شرعا وعقلا، حتى يعيش الإنسان بسلم وسلام في الدنيا والآخرة، وإلا خسر ذاته وكلّ الخير في الدارين...
(إذا أصلح الإنسان بين ذاته ونفسه فإنه يكون قادرا على إصلاح الآخرين)
الإمام الشيرازي
يُقصَد بالسلام الأسري تلك الأجواء السليمة التي تسود بين أفراد العائلة الواحدة، وهي غالبا تتكون من الأب والأم وأولادهم من الذكور والإناث، أما كيف يتم تكوين هذا النوع من أجواء السلام والمحبة والتعاون في الأسرة الواحدة، فهذا يتطلب اتخاذ خطوات مهمة يشارك جميع أفراد الأسرة في إنجازها، ولكن الأدوار هنا لها مراتب في المسؤولية ودرجتها.
مسؤولية الأب هي الأعلى وهي الأولى في ترتيب درجات ومراتب المسؤولية الأسرية، ومسؤولية الأم لا تقل في مستواها عن مرتبة مسؤولية الأب، ثم تأتي بعد ذلك مسؤوليات الأبناء من الجنسين، فالحقيقة هي أن جميع أفراد العائلة تقع عليهم مسؤوليات مهمة في قضية إنجاز السلام الأسري، وهذه مهمة ذات سمة جماعية وفردية في نفس الوقت.
التعاون الجماعي يتعلق بالحفاظ على صلة الرحم، وهي تربية تغرسها الأسرة في سلوكيات الأفراد، لتعمّ بعد ذلك جميع أفراد الجماعة أو المجتمع، ولك بعد أن يتدرب الفرد داخل العائلة على كيفية تطوير علاقاته في المجتمع، كما أن الأسرة لها قصب السبق في بناء شخصية الفرد ذكرا كان أم أنثى، فتزرع فيهما القيم الصالحة، ثم تتكون من الأبناء أمة صالحة، أو مجتمعا متطورا مستقرا وسطيا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يذكر في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه السلم والسلام/ الجزء السابع):
(تبدأ صلة الرحم من الدائرة الصغرى وهي الأسرة، اللبنة الأولى في محيط الأرحام وتعتبر أول وحدة اجتماعية يتدرّب فيها الإنسان على ممارسة علاقاته مع المجتمع، وهي المجال الحيوي الأول الذي تمر فيه الشخصية وتترعرع فيه فضائلها، وتكون أساسا للمجتمع كله، لأنه يتكون منها).
أما كيفية نشر السلام داخل الأسرة، فهذا يتعلق بطبيعة تفكير وسلوكيات قادة العائلات (الآباء والأمهات)، فالأب حتى يكون نموذجا لأبنائه عليه أن يكون في علاقة سلام مع نفسه، وهذا يتعلق بقدرة الفرد على التعامل الجيد والمراعاة المستمرة لبدنه (جسده) وروحه ونفسه وعقله، وكل الحواس الفعلية أو الشعورية التي يمتلكها.
التأثير الأخلاقي خارج نطاق الأسرة
فإذا كان الأب مثلا من الأشخاص الذين يتعاملون بشكل جيد مع الجسد والذات والنفس، فهو سوف يفيد نفسه وكل ما يرتبط به لأنها أمانة في عنقه، وكذلك سوف يكون ذا تأثير قوي وسليم على الأبناء، أو حتى على الأقارب والأصدقاء، وبهذا يمتد تأثيره إلى الآخرين، خارج نطاق الأسرة، فيكون مصدر إشعاع أخلاقي يعلّم الآخرين على الفضائل والسلوكيات الراقية التي ترتقي بالإنسان عاليا.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي على أن:
(السلام في الأسرة يبدأ بعد أن يحصل السلام بين الإنسان ونفسه وقد أوجب الإسلام هذه المصاحبة وذلك لأن بدن الإنسان وروحه ونفسه وعقله وسائر حواسه وجوارحه كلها أمانة بيده، فاللازم مداراتها جميعا حسب الموازين الصحيحة الواردة شرعا وعقلا، حتى يعيش الإنسان بسلم وسلام في الدنيا والآخرة، وإلا خسر ذاته وكلّ الخير في الدارين).
ومن الأركان المهمة للسلام الأسري، أن لا يخسر الإنسان نفسه، وخسارة النفس لها أسباب كثيرة، منها مثلا، حين ينسى الإنسان نفسه ودوره في الحياة، والاستعداد لملاقاة الحساب في الآخرة، فتشغله الدنيا ومغرياتها، فلا يعبأ بنفسه ولا بحقوقه الذاتية، وحتى حقوق الآخرين لا تعنيه من قريب أو بعيد.
وفي هذه الحالة سوف يخسر نفسه أولا، ومن ثم يخسر المزيد، لأن الإنسان إذا كان مستعدا لخسارة نفسه ويقبل بذلك، فإنه سوف يكون مستعدا لخسارة الجميع، وهذا يجعله من المحبين للدنيا، المتمسكين بمغرياتها وملذاتها، وبهذا سوف يخسر نفسه، ويخسر الآخرين، ويخسر فرصة النجاح في مواجهة الحساب الأخروي.
من هنا يقول الإمام الشيرازي:
(إذا أراد الإنسان أن لا يخسر نفسه فعليه أن يلتزم بحقوق نفسه عليه، وقد قال الإمام زين العابدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: اعلم رحمك الله إن لله عليك حقوقا محيطة بك، فبكل حركة تحرَّكْتها أو سكنة سكنتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلبتها أو آلة تصرفت بها، بعضها أكبر من بعض، وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرّع، ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك، فجعل لبصرك عليك حقا، ولسمعك عليك حقا، وللسانك عليك حقا، وليدك عليك حقا، ولرجلك عليك حقا، ولبطنك عليك حقا، ولفرجك عليك حقا، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال، ثم جعل عزوجل عليك حقوقا، فجعل لصلاتك عليك حقا، ولصومك عليك حقا، ولصدقتك عليك حقا، ولهديك عليك حقا، ولأفعالك عليك حقا، ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك).
كيف تصبح الأسرة مصدرا للسلام؟
لذا يجب أن يصدق الإنسان في قضية الإصلاح بين ذاته ونفسه، وأن يكون مصدرا للسلام الذاتي أولا، حتى يكون قادرا على تعميم هذه الحالة من السلام على الآخرين، وإلا لا يمكن للإنسان أن يكون قادرا على إصلاح الناس، ما لم يبدأ ذلك مع نفسه أولا، ويصلحها، ويبعدها عن مسالك الانحراف والانحدار في طرق وأشكال الرذيلة المختلفة.
أما في حال فشل بقضية الإصلاح بين ذاته ونفسه، فإنه لا يمكن أن ينجح في إصلاح الآخرين، لأنه طالما فشل في الإصلاح الذاتي فإنه سوف يفشل أيضا في كل الأنواع الأخرى من الإصلاح، وهناك قول معروف ينص على أن : (فاقد الشيء لا يعطيه)، ومن يفقد القدرة على إصلاح الخلل بين ذاته ونفسه، لا يمكنه أن يساعد الآخرين على الإصلاح.
هذا ما يشير إليه الإمام الشيرازي في قوله:
(إذا صدق الإنسان مع نفسه وأصلح ما بين ذاته ونفسه فيمكنه أن يكون مصلحا للآخرين أيضا، وإلاّ فكيف يكون مصلحاً للآخرين كما قالوا: طبيب يداوي الناس وهو عليل).
أما إذا كان الإنسان، الأب على سبيل المثال، على علاقة طيبة مع نفسه، فإنه سوف ينقل هذه التجربة الجيدة إلى أفراد أسرته، وبهذا سوف يكون عنصرا فاعلا على تنمية البنية الاجتماعية، وتمتين العلاقات السرة، وسوف يكون هو وأسرته مصدر إشعاع للمجتمع كله، يُسهم هو وعائلته في البناء المجتمعي الصالح.
كل هذا سوف يحدث في حال كان الأب صالحا، ومتصالحا مع نفسه أولا، ومراعيا لها ضمن الحدود والأحكام الشرعية التي تدعم مراعاة الإنسان لنفسه وجسده بما يتناسب مع الخطوات الصحيحة في هذا المجال، وهكذا ينعكس ذلك على الأسرة كلها، ومن ثم تصبح هذه الأسرة مؤثرة في نقل السلوكيات الصالحة للمجتمع كله.
الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة:
(إذا كان الإنسان مصاحبا لنفسه صحبة حسنة حسب ما أمر الله تعالى، يكون سالكا بنفسه صراطا مستقيما وطريقا سوّيا سليما إلى الهدف الذي يريده. ومن شأن هذه النتيجة أن تنعكس بالإيجاب على النواة الأولى في المجتمع ألا وهي الأسرة).
وهكذا فإن الخطوات المهمة التي على الأبوين اتخاذها، لكي يحققا السلام داخل أسرتهما، تبدو واضحة المعالم، فهي ليست صعبة ولا غامضة، ولكنها تحتاج إلى نوع من الإيمان، ومن ثم التدريب، والتنوير والتوضيح، والمساعدة على تحقيق الإصلاح الذي يبدأ بالنفس والذات، ومن ثم نقل هذه العملية الإصلاحية التربوية إلى الآخرين، حتى يُبنى المجتمع المتصالح مع نفسه، من خلال نشر ثقافة التصالح والسلام الأسري بين الناس.
اضف تعليق