تبدو الدعوة للقضاء على التناقضات البشرية ضربا من الخيال، لاسيما عندما نطالع تأكيدات علماء النفس والاجتماع وغيرهم، على أن التركيبة التكوينية في خلق الانسان جمعت في ذاته بين النقائض، واختصروا هذه التناقضات الشديدة بوجود قطبين متناقضين بتضاد كامل في نفسية الانسان، ألا وهما الخير والشر، وامتدادا من هذين القطبين المتعاكسين، تتولد حالات الصراع التي لا يمكن القضاء عليها.
لذا على الانسان أن يفهم أنه سوف يعجز عن وأد الصراعات بصورة كلية، كونها أمر واقع ينبثق من وجود الانسان نفسه، ولكن هذا الاستنتاج ليس هو آخر المطاف، فهناك معالجات أخرة تستوعب الصراعات وتجعلها اقل خطرا على البشرية، ونعني بذلك سياسات الاحتواء المتبادل، وهو نوع من القبول بتفاهمات تقلل درجة الصراع من الخطورة الحتمية الى حالة من التنافس السليم الذي يسهم في تطوير الحياة وليس تهديمها.
ولذلك يؤكد العلماء المعنيون بأن جميع الانشطة البشرية، قائمة على التنافس والصراع، ولا سبيل للقضاء على هذه الطبيعة التي تفرزها تركيبة الانسان النفسية، العقلية، والفكرية، وحتى الغريزية منها، بكلمة اخرى، لكي يستمر الانسان في بناء نفسه ومحيطه العائلي ومستقبله، ليس امامه طريق سوى التنافس، الذي يتحول احيانا الى نوع من الصراع بين الارادات والافكار التي قد تتحول بدورها الى صراع مادي ملموس، ولكن من الممكن اعتماد سياسة الاحتواء لتقليل حدّة التناقضات.
علما أن التخفيف من درجة الصراعات وما ينتج عنها ليس عملا فرديا، فطالما يشترك المجتمع العالمي البشري كليا في انتاج هذه الظاهرة، ويتعرض الجميع لمخاطرها على شكل حروب وصدامات وازمات، فينبغي أن يشترك المجتمع الدولي كله في التصدي للصراعات، والعمل الدؤوب والتخطيط الدائم لتحويلها الى نوع من التنافس، كون الصراع لا يتعلق بجهد فردي بل يتعداه الى جهد الجماعة، والمجتمعات والامم، لذلك عندما نحاول قمع التنافس واطفاء الصراع بالقوة، ليس هذا هو الاسلوب الصحيح، لان التنافس أمر يدخل، كما سبق الذكر، في البناء التكويني والنفسي للانسان فردا كان او جماعة، لهذا تفشل الدكتاتوريات في البقاء، لانها قائمة على قمع الاخر وإلغائه.
التنافس وبديل الحرب الباردة
بعد حربين عالميتين أكلت أكثر من اربعين مليون نفس بشرية، أزهقت في هذه الحرب نتيجة لنزق القادة، ورعونة العقول، وسيطرة التعصب عليها، وعجزها عن ايجاد البدائل المناسبة للصراعات البشرية المتراكمة، بات من اللازم على الانسان أن يتوقف مليا عند نتائج الحروب المدمرة، وصار لزما عليه أن يبحث في الكيفية والبدائل المناسبة لامتصاص الطاقات العكسية السالبة التي تدفع باتجاه العنف، وتعمل على ترويضها ومحاصرتها عبر ايجاد السبل التي لا تلغيها بل تسمح لها في التحرك ضمن الاطار اللاعنفي.
من هذه البدائل، الحرب الباردة، التي امتدت الى عدة عقود بين القطبين العالميين، او القوتين المهيمنتين على العالم، (الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي)، وكلاهما تقوده ايدولوجيا مختلفة، (الرأسمالية والاشنراكية)، وقد امتدت الحرب الباردة طويلا حيث كانت بديلا عن الحرب المباشرة، او الصراع الفوري بين القوتين، اذن فهي خير مثال عن بحث الانسان في السبل البديلة لتحويل مجرى الصراعات والتقليل من اضرارها الى أقصى حد ممكن.
لذلك من المهم أن يفهم القادة السياسيون، والمفكرون المعيون والمصلحون، بأن لا يصح إلغاء التنافس او قمع الصراع بالقوة، كونه الطريقة التي تديم التطور والارتقاء والتقدم خطوة جديدة الى امام، أما المعالجة الصحيحة فهي احتواء الصراع باسلوب اللاعنف، واستمرار المواجهات بين الاضداد ضمن هذا المنهج المسالم، فلندع حالة الصراع موجودة، ولنشجع حالة التنافس اكثر فأكثر، في ظل مسار او منهج لا عنفي يقبل الصراع والتنافس السلمي الذي يقود الفرد والجماعة الى الابداع والابتكار والانتاج الافضل دائما، على أن يكون هذا المنحى عالميا وليس محصورا على نطاق اقليمي ضيق.
من الواضح أن قلة الوعي، وضعف دور التوجيه والتثقيف، وتراجع الدبلوماسية الفاعلة او الذكية كما يطلق عليها بعضهم، تقف وراء الصراعات الدولية والاقليمية الخطيرة، لذا ترى أن معظم المواجهات الخطيرة التي حدثت في العالم كانت تحدث بسبب غياب منهج الاحتواء اللاعنفي للصراع او التنافس، واندفاع ارادة الفرد (القائد) والجماعة نحو التصادم واشعال فتيل القوة والحرب كما حدث في حروب طاحنة حدثت في تاريخ الانسان المنظور والبعيد معا، كذلك يحدث هذا على الصعيد الفردي، حيث يتصارع الافراد من اجل الوصول الى اهداف معينة، يمكن تحقيقها للطرفين المتصارعين باسلوب المواجهة اللاعنفية، وهو اسلوب راقي يمكن تحقيقه بالتدريب والتقارب وتعلم كيفية احترام الآخرين والتقرب منهم من دون نوايا او اهداف مسبقة.
اسلوب الكل يحترم الكل
ينصح العلماء المعنيون باعتماد اسلوب الاحترام المتبادل بين الامم والشعوب والدول، كطريقة راقية تقودهم الى السلام، مع البقاء في حالة الصراعات التي يهبط مستواها الى المنافسة، لأن التخلص من الصراع والتناقض والتنافس يكاد يقترب من المستحيل، كونه مزروع في كيان الانسان، وعلينا جميعا أن نفهم ذلك ونعترف به، ونبتعد عن المثالية التي لا ترتقي الى العلمية والحقائق.
إن الاختلاف أمر لا مناص منه، ولكن علينا أن نبذل ما يكفي من الجهود لكي نقلل من درجة الخلاف، وهذا يعني أن الجميع يجب أن يحترم الجميع، مع الاعتراف بوجود حالة التناقض والاختلاف وتضارب الارادات الافراد والجماعات، وليس بالغاء الصراع، علينا جميعا أن نعترف بوجود الاختلاف وصحته، وعلينا أن لا نعتمد اساليب القوة في الغاء الصراع او الفكر الاخر، بل نبقي على حالة التنافس ونرعاها ونتفهم حالة الصراع ولكن لا ندفع بها الى المواجهة الساخنة، لأننا دائما نريد أن نبقي حالة التناقض ضمن الاطار الأفضل وهو بالتأكيد ليس الصراع وانما المنافسة.
علما أننا ازاء هدف كبير جدا، إذ لا يمكن أن تبلغه الانسانية إلا بعد أن تبذلك جهود ضخمة متنوعة، تمتد ربما على عقود او قرون، لأن النجاح في هذا المسعى يعتمد على تطور عقلية الانسان، وقدرته على فهم النتائج الجيدة لنبذ الصراعات، ضمن منهج الارتقاء، وهو منهج لا عنفي يهدف الى تكريس التقارب، وبث روح التعاون والاحترام، مع الابقاء على الافكار ووجهات النظر والمعتقدات كما هي.
من هنا فإن هذا الجهد الضخم في تغيير المسار الفكري البشري وسلوكه، يحتاج الى جهود خارقة، لا تأتي بين ليلة وضحاها، ولا تصنعها التمنيات والاحلام، انه منهج حياة للفرد والجماعة والمجتمع ككل، بمعنى هو نظام حياة كلي، يبدأ من الطفل الى مؤسسة العائلة الى المدرسة ومحيط العمل والشارع وكل المجالات التي يتحرك فيها النشاط الانساني، فبهذا الاسلوب اللاعنفي الذي يتم من خلاله احتواء الصراع وتنمية التنافس السلمي، ويستطيع المجتمع ككل أن يصل الى اهدافه من دون خسائر جانبية، بسبب تضارب الارادات والعقول والافكار.
ويبقى مجال حركة التغيير مفتوحا، فلا ينحصر هذا الاسلوب من التعامل في حيّز محدد، بل يشمل مجالات الحركة والعمل كافة، ولا ينحصر بعلاقة الفرد مع الاخر بل يتعداه الى علاقات الجماعة بجماعة اخرى، هنا سوف تتراك الجهود الفردية والجماعية، الدولية والاقليمية عندما يتعلق الامر بالسياسية وتوجيه العلاقات الدولية، فتكون النتائج الحتمية هي بقاء التناقضات الانسانية موجودة، ولكنها تناقضات تنافسية ايجابية، تخلص الانسان من التصادم وفي نفس الوقت تبقي على خاصية هامة من خواصه النفسية على قيد الوجود ونعني بها حب الاختلاف والتناقض.
اضف تعليق