ما الذي علينا عملهُ وفعله، كيف نحد من ظاهرة التنظير والتثقيف العمودي على حساب الأفقي، وما هي الخطوات العملية التي يمكن أن تنهض بأكثرية الناس، وترتفع في مستوى تفكيرهم وثقافتهم، وكيف نجعل من الطبقة الواسعة من الجماهير مثقفين، فاعلين، محوريين...

في مقالاتنا الثقافية، ومقالات المهتمين الآخرين، تتردد مصطلحات وجمل مثل (الثقافة الأفقية) و (الثقافة العمودية)، ويُقصد بالأخيرة الثقافة الخاصة بالنخب المحدودة، أما الثقافة الأفقية فهي تعني القضايا التثقيفية التي تهتم بالجماهير العريضة، وليس بالنخب القليلة وحدها.

كما يتضح لنا أن الفارق كبير بين النوعين من الثقافة، فالأولى العمودية تسود بين النخب العلمية والأدبية والسياسية وغيرها من هذا النوع الفوقي من الناس، أما الثقافة الأفقية فهي على النقيض تماما من العمودية، لأنها تهتم بالطيف الجماهير الواسع للمجتمع، وتُعنى بتثقيفه وفتح الآفاق الذهنية والتفكيرية الواسعة أمامه.

من الأسئلة التي يتم طرحها دائما، لماذا يوجد اهتمام كبير بالثقافة النخبوية العمودية، ولماذا معظم الكتاب يسعون لنشر هذه الثقافة، وهي تتمدد بالفعل بين الأوساط النخبوية بشكل سريع، ولا تواجه هذا النوع من التثقيف العمودي مشاكل أو معوقات، فغالبا ما نلاحظ تطورا تنظيريا شاسعا في مجالات السياسة والاقتصاد والفلسفة والآداب وسواها، وهذا يدل من خلال المعطيات التي يطرحها واقعنا الثقافي أن هناك انتشارا للثقافة العمودية على حساب الثقافة الأفقية.

لماذا لم يضع المعنيون والمهتمون وأصحاب الشأن الخطط التي تكفل انتشار الثقافة الأفقية بلا عوائق، ولماذا لا يصل الوعي إلى الطبقة الواسعة من الناس، هذه النسبة الأوسع من المجتمع، التي تتكون من الناس البسطاء، غير المتعلمين والكسبة والعمال والفلاحين وسواهم، لماذا لا تصل إليهم العمليات التثقيفية الأفقية المطلوبة.

خطابات الجانب التنظيري

وعندما نتابع ونراقب عمليات التثقيف والكتابات والتصريحات، نلاحظ أن معظم المعنيين يطلقون الخطابات التي توصي بالبسطاء، وتطالب بتثقيفهم، ولكن تبقى هذه الدعوات والتصريحات محبوسة في إطار الجانب التنظيري لا أكثر، وتبقى الخطط العملية لنشر الثقافة الأفقية بين الجمهور الواسع غائبة وغير موجودة ولا يطرحها أحد، لا المعنيون ولا غيرهم، الكل يتخلى عن مهمة عملية التثقيف الأفقي عمليا.

ما هي الحلول المطلوبة أو المقترَحة في هذا المجال، ما الذي علينا عملهُ وفعله، كيف نحد من ظاهرة التنظير والتثقيف العمودي على حساب الأفقي، وما هي الخطوات العملية التي يمكن أن تنهض بأكثرية الناس، وترتفع في مستوى تفكيرهم وثقافتهم، وكيف نجعل من الطبقة الواسعة من الجماهير مثقفين، فاعلين، محوريين، كما يطلق غرامشي تعريفه للمثقف العضوي، أي الإنسان الفاعل في المجتمع. 

وليس المثقف المنعزل في برجه العاجي بعيدا عن هموم الآخرين وقضاياهم الهامة التي تحسّن من حياة العامة وتجعلها أكثر قبولا ورحمة، في الحقيقة المجتمع الناجح يحتاج كثيرا إلى المثقف العضوي، الفاعل، الناجح، الذي يحوّل ثقافته وأفكاره إلى أفعال وأعمال مفيدة للمجتمع، ولنتصوَّر أننا كم نستفيد لو أننا صنعنا عاملا مثقّفا؟

ماذا يستفيد المجتمع من العامل الواعي المثقف الذي يتسلح بالقيم الإنسانية، والأفكار الإيجابية، ويضع حقوق الآخرين إلى جانب حقوقه ويتعامل مع الاثنتين في مسطرة واحدة وفق القول الإيماني العظيم (أحبب لغيرك ما تحب لنفسك)؟

خفايا رموز العالم الرقمي

هذه هي فائدة الثقافة الأفقية باختصار، وهنا تكمن أهمية نشرها، لكن المشكلة الأساسية تتمثل بالجانب العملي لنشر التثقيف الأفقي، كيف يتم ذلك، وما هي الخطوات اللازمة في هذا المجال، بالطبع هذا الهدف كبير جدا وضخم، ويحتاج إلى جهود ضخمة وكبيرة ومنسقة بشكل دقيق علمي يتم وضعه من قبل خبراء مختصين بعيدا عن العشوائية والارتجال.

إذن الخطوات الفعلية للقضاء على العوائق والمشاكل التي تقف أمام نشر الثقافة الأفقية، ممكنة، والوصول إلى هذا الهدف الكبير ممكن أيضا، ولكن قبل أن نبقى ندور في حلقة الحيّز التنظيري علينا الانتقال الجاد (العلمي التطبيقي) إلى خطوات أكثر وضوحا، تقودنا إلى نشر الثقافة الأفقية بين الأوساط الشعبية الواسعة.

يحتاج هذا الهدف إلى آليات عملية واضحة، وهذا يجب أن يخضع إلى دراسات متخصصة، وهذه دعوة جادة لكل من يعنيه هذا الأمر من منظمات ومؤسسات ثقافية مدنية أو حكومية، وكذلك مراكز البحوث المعنية بهذا الجانب، والجهود الرسمية الاستثنائية في هذا المجال، المطلوب هو الشروع في وضع اللمسات العلمية الدقيقة لمشاريع النهوض بالثقافة الأفقية.

كيف سيتم ذلك؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى إجابات جادة عملية من الجهات ذات العلاقة بتطوير ثقافة المجتمع، وخصوصا النسبة الأعظم منه المتمثلة بشرائح البسطاء والكسبة والفقراء الذين فاتتهم فرص التعليم وفرص التثقيف، فباتوا اليوم يخوضون في عالم (علمي ثقافي رقمي) لا يرحم من لا يستطيع فك رموزه وخفاياه.

اضف تعليق