نفس الإنسان كجسمه، فكما أن الجسم يحتاج للتمارين لترويضه فكذا النفس. فينبغي على الإنسان أن يفكر في كل خطوة يتخذها، فإذا كانت صحيحة وفيها رضا اللّه فليفعلها، وإلّا فليتركها، وأن يستمر على النية الصحيحة لأنه قد يكون عمله صحيحاً ولكنه يبطله بعد ذلك، إن الطريقة...
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إنّما الأعمال بالنيات، ولكلّ امرئ ما نوى»(1).
المحرّك الأساسي للإنسان
إن المحرّك الأساسي للإنسان هو طريقة تفكيره، فالبعض يذهب لزيارة بيت اللّه الحرام مثلاً، بينما يذهب البعض الآخر لأماكن توجد فيها معصية اللّه سبحانه وتعالى، فطريقة تفكير كل إنسان هي التي تتحكم في عمله؛ ولذا كانت مهمة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الأساسية هي تصحيح طريقة تفكير الإنسان.
وإذا كان تفكير الإنسان صحيحاً فسوف يكون عمله صحيحاً، فقد نرى بعض الناس يلبس حزاماً ناسفاً ويقتل نفسه ويقتل الآخرين لأنه تعرض لغسيل دماغه، فيتصوّر أنه بهذه الطريقة ينال رضا اللّه سبحانه وتعالى، وهو لا يعلم أنه يكون من الأخسرين أعمالاً: {ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا}(2)، فهو يخسر الدنيا والآخرة حينما يقتل نفسه ويقتل الآخرين، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا}(3).
إن سبب مشكلة الخوارج هو أن طريقة تفكيرهم كانت خاطئة، فأدت بهم إلى نار جهنم، فهم لم يتّبعوا أمير المؤمنين (عليه السلام) باعتباره إمام الحق ومنصوباً من قبل اللّه سبحانه وتعالى، بل تبعوه لأنه الحاكم. وهكذا الحال لبعض ممن أسلم بعد الفتح: {إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ * وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا}(4)، فلماذا لم يتبعوه قبل الفتح؟ والجواب: لأنه (صلى الله عليه وآله) صار بعد الفتح حاكماً، فكانوا يرغبون بالمناصب، وغير ذلك، ولذا نراهم في أوّل امتحان خرجوا من دين اللّه.
فإذا كانت طريقة التفكير خاطئة فسوف يسقط الإنسان في أوّل امتحان.
أقسام العبادة
إن المسلمين يعبدون اللّه، حيث يصلون ويصومون ويزكون، ويؤدون باقي الواجبات، ولكنهم مختلفين في الداعي والمحرك لذلك العمل، فيمكن أن يقول الإنسان في لسانه شيئاً لكن في قلبه شيء آخر: {بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ * وَلَوۡ أَلۡقَىٰ مَعَاذِيرَهُۥ}(5).
1- فالبعض يعبد اللّه سبحانه وتعالى خوفاً من نار جهنم، وهذه عبادة صحيحة لكنها أنزل درجات العبادة، كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «وإن قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد»(6)، فالعبد يعمل لأنه يخاف من المولى، ومَن يعبد اللّه من الخوف من نار جهنم من الممكن أن يترك العبادة إذا خاف من شيء آخر.
2- وهناك مَن يعبد اللّه سبحانه وتعالى طمعاً في الجنة، وهذا ما أشار له الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «إن قوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار»(7)، والتجار إنّما يذهب لمحل عمله لكي يحصل على الربح، وهكذا الذي يعبد اللّه طمعاً في الجنة، وهذه العبادة صحيحة أيضاً، وهي أحسن من عبادة الخوف، لكنها ليست أعلى الدرجات.
3- وهناك مَن يعبد اللّه سبحانه وتعالى حياءً، فهو يستحيي من اللّه، وهذه أيضاً عبادة صحيحة لكن توجد عبادة أحسن منها.
وهذه نظير من يخدم أباه لأنه يضربه لو ترك خدمته مثلاً، وهناك من يخدمه لأنه يطمع في إعطائه مالاً، وهناك من يفعل ذلك حياءً وخجلاً.
4- وأمّا القسم الآخر من العبادة فهو عبادة اللّه شكراً، فلأن اللّه سبحانه وتعالى أنعم على الإنسان هذه النعم الجسام العظيمة، فهو يعبده عبادة شكر له، وهذه درجة عالية من العبادة، كمن يخدم أبويه شكراً لهما، قال تعالى: {أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ}(8).
إن الذي يعبد اللّه سبحانه وتعالى شكراً لا يذهب خلف المصالح عندما تتعارض مع العبادة. نعم، ذلك التاجر قد يذهب خلف المصالح، وكذلك ذلك العبد.
هناك الكثير ممن كتب رسائل للإمام الحسين (عليه السلام)، فلماذا كتبوا للإمام (عليه السلام)؟ إن أكثرهم كتبوا الرسائل ليس لأنهم يريدون أن يحكم الحق، بل إن بعضهم كان قد تضرر من حكم بني أمية، فكان يريد أن يرفع الإمام الحسين (عليه السلام) عنه هذا الضرر، ولم تكن نيته أن يقيم الإمام الحسين (عليه السلام) العدل ويدحض الباطل؛ ولذا عندما سيطر ابن زياد على الكوفة ذهبوا معه، لأن بعضهم كان يفكر أنه لو لم يذهب إليه فسوف يصبح ضرره أعظم، لأنه كان يبطش بالناس.
5- وهناك قسم أعلى من عبادة الشكر، وهو أن يعبد اللّه سبحانه وتعالى حباً له: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِ}(9)، وهي أعلى درجات العبادة، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) لذلك بقوله: «ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»(10). فمن يعبد اللّه بهذه الطريقة لا يبيع الآخرة بثمن بخس.
إن الذين صمدوا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا فئة قليلة، وهكذا الذين جاهدوا مع الإمام الحسين (عليه السلام)، وكذا من كان مع الأئمة (عليهم السلام)، وخواص أصحاب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) ثلاثمائة وثلاثة عشر فرداً، مع أن المؤمنين بالآلاف، بل بالملايين.
إن المؤمنين كثيرون، إلّا أن القليل منهم من يصل إلى درجة يكون منطلقه حب الإمام (عليه السلام) وليس خوفاً من شيء دنيوي أو لمصلحة. فهناك من الناس من يقول: (اللّهم عجل لوليك الفرج) وذلك لأن عنده مشاكل يريد أن يحلها الإمام (عليه السلام)، فمنطلقه نفسه وليس اللّه سبحانه وتعالى.
وأمّا من يقول: إني أريد إقامة الحق، وأن يكون هو الحاكم على العالم، وأنا أحب أهل البيت (عليه السلام)، وأريد أن يرتفع الظلم، فهو قليل. وعندما يصل الإنسان إلى هذه المرحلة فسوف لا يبيع دينه بأي ثمن من الأثمان، حتى لو كانت فيه نفسه.
إن الكفار والمنافقين في نار جهنم يدعون اللّه سبحانه وتعالى أن أخرجنا منها وأرجعنا إلى الدنيا لكي نصلح ما فاتنا، لكن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ}(11)، فهو تعالى يعلم أنهم يكذبون ويريدون الخلاص من هذا العذاب، وأن نياتهم ليست سليمة، لذا يستغيثون: {وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَ لَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ}(12)، {وَنَادَوۡاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقۡضِ عَلَيۡنَا رَبُّكَۖ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ}(13)، ولو كانوا صادقين فربما رحمهم اللّه سبحانه وتعالى، لكنهم كاذبون فلذا ليست لهم قابلية للرحمة مع أن اللّه رحمان رحيم، يرحم الجميع، إلّا أن إعطاء الرحمة لمن لا يستحقها خلاف الحكمة.
إذن، يلزم على الإنسان أن يصحح طريقة تفكيره، وهذا يحتاج إلى الالتجاء إلى اللّه سبحانه وتعالى، ويحتاج إلى المعرفة والعلم، من خلال القراءة أو الاستماع للعلماء والخطباء والمؤمنين، فليحاول الإنسان أن يهذب نفسه ويروضها، وهذا ما أشار له أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق»(14)، لأن نفس الإنسان كجسمه، فكما أن الجسم يحتاج للتمارين لترويضه فكذا النفس.
فينبغي على الإنسان أن يفكر في كل خطوة يتخذها، فإذا كانت صحيحة وفيها رضا اللّه فليفعلها، وإلّا فليتركها، وأن يستمر على النية الصحيحة لأنه قد يكون عمله صحيحاً ولكنه يبطله بعد ذلك، قال تعالى: {لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ}(15)، وقال عزّ وجلّ: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلَا تُبۡطِلُوٓاْ أَعۡمَٰلَكُمۡ}(16).
والحاصل: إن الطريقة الصحيحة في التفكير هي التي تؤدّي بالإنسان إلى أن لا ينحرف عن الطريق الصحيح في الأزمات، لأن اللّه سبحانه وتعالى يمتحن الإنسان دائماً، قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوۡنَ أَنَّهُمۡ يُفۡتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٖ مَّرَّةً أَوۡ مَرَّتَيۡنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمۡ يَذَّكَّرُونَ}(17)، فإذا ربّى الإنسان نفسه فسوف يخرج من الامتحان ناجحاً، وينال رضا اللّه سبحانه وتعالى والجنة.
اضف تعليق