فاجأني أبي اليوم حين قال لي، سوف نذهب أنا وأنت إلى مركز المدينة عصراً، عندي مفاجأة ستسرّ قلبكَ، لم أعتد من أبي على المفاجآت، لذلك لم أشعر بالسرور، ولم أترقَّب ما هي هذه المفاجأة، فالأب الذي يعيل عائلة من ثمانية أنفار وراتبه يطير في الأيام السبعة الأوائل من الشهر، لا يمكن أن تتوقع منه مفاجآت من النوع السارّ، ولكنه في الحقيقة فعلها....
فاجأني أبي اليوم حين قال لي، سوف نذهب أنا وأنت إلى مركز المدينة عصراً، عندي مفاجأة ستسرّ قلبكَ، لم أعتد من أبي على المفاجآت، لذلك لم أشعر بالسرور، ولم أترقَّب ما هي هذه المفاجأة، فالأب الذي يعيل عائلة من ثمانية أنفار وراتبه يطير في الأيام السبعة الأوائل من الشهر، لا يمكن أن تتوقع منه مفاجآت من النوع السارّ، ولكنه في الحقيقة فعلها.
عند حلول العصر، رأيت أبي يرتدي ملابسه الرسمية التي يذهب بها إلى الوظيفة في مديرية مصلحة نقل الركاب، كانت عنده بدلة رمادية قماشها انكليزي، كانت الجاكيت ضيّقة عليه وأردانها فيها قُصْر، أما البنطلون فيبدو طويلا أكثر من اللازم.
كانت دائرته (مديرية نقل الركاب) تمنح موظفيها (قاط، بَدْلة) في فصل الشتاء، أحيانا كنتُ أضطر إلى لبس (قاطهُ) هذا، أو الجاكيت أو البنطلون على حدة، ويمكنكم أن تتخيلوا كيفَ أبدو بهما، وكيف تتراكم الأحزان في أعماقي.....
لكن في عصر هذا اليوم سوف يُنهي أبي بعض معاناتي وأحزاني، خرجنا معا من البيت، بدأتْ أقدامُنا تنهبُ الشارع نهبا، كانت خطوات أبي عريضة ومتسارعة، وكنت أتخلّف عنه، فأضطر إلى الهرولة، لم يكن الطريق إلى مركز المدينة سهلا ولا قصيرا، كان أبي سريعا في مشيته كأنه في سباق، وكان يحثني على اللحاق به دون أن يلتفت إليّ...
خطر في بالي نوع المفاجأة، قد يفكر أبي بشراء دراجة هوائية لي كي أتخلص من معاناة الطريق الطويل إلى المدرسة، لكن هذا الحلم مستحيل يتحقق، فسعر الدراجة يعادل راتبه لأكثر من شهرين، لذا فإن شراءها محال، أسقطْتُ هذا الاحتمال وبدأت أفكر بآخر وثالث ورابع، وكانت كلها تبدو من المستحيلات...
على جانبيّ الطريق الفقير المؤدي إلى مركز المدينة، كانت هناك أشجار شبه يتيمة، أغصانها صفراء عجفاء، وأوراقها ذابلة، والأرض تحت أقدامنا فيها هشيم يابس ويائس، كنتُ أدوس على بعض الأوراق الجافّة وأرفع رأسي إلى أعالي الأشجار، هنالك بعض الطيور والعصافير، بعض الفواخت التي تُطلِق أنشودتها المعروفة (يا كوكتي وين أختي) كانت الطيور فقيرة أيضا، ولكنها أفضل حالا منّا.
دخلنا الشارع الرئيس في مركز المدينة، أخذت الأجساد تتزايد، ولون الغروب بدأ ينتشر ويطلي المكان، الأضواء صارت تلصفُ أمام عيوني، رأيت جسد أبي الطويل يُسرِع أمامي، كان ظلّهُ أطول بكثير من جسمه...
وعدتُ أفكرّ بالمفاجأة، رأيت محلّا صغيرا يعرض دراجات هوائية للبيع، وقفتُ في محاذاة دراجة حمراء، كان لونها يلمع رغم دكنة الغروب، تفحّصتها ببصري، ثم مددتُ يدي إلى (السكّان/ المقْوَد)، وحرَّكتُ ابهامي فوق زر الجرس، دقَّ برنين عالٍ وجميل يشبه جرس المدارس الذي يفصل بين الدروس، خرج صاحب المحل راكضا، صرخ بصوت حازم، اغربْ أيها الصبي، لا تلمسْ الدرّاجة...
وما أن تركتُ محلّ الدرّاجات الهوائية، حتى فاجأتني امرأة عجوز، وجهها مغضّن، وفمها بلا أسنان، وأنفها كبير جدا، كانت تبيع الشاي، فقد احتلت مكانها فوق الرصيف، بانتظار من يأتي إليها طالبا منها الشاي، وحين مررتُ بجانبها، قدمّت لي (استكان الشاي) على عجالة دون أن أطلبه منها، لم يكن معي ثمن الشاي، لا أستطيع آخذه منها..
بقيتُ مصلوبا في مكاني على الرصيف، لا أبي بالقرب مني لينقذني، ولا أمتلك ثمن استكان الشاي، فصرتُ أنظر إلى وجه العجوز بأسف.. ثم قلتُ لها ليس معي نقود، في هذه اللحظة أصرَّت أكثر، وأقسمت عليَّ أن اشرب الشاي من يدها.....
وحين أكملتُ شرب الشاي وأعدتُ لها الاستكان، كنتُ خجلا لأنني لا أستطيع دفع الثمن، لكنها مدّت يدها لي بشيء لا أعرفه، كانت تخفي في قبضة يدها شيئا ما، حين سألتها ما هذا؟، قالت خذ لا تتردد فأنت ابني، ثم بسطَتْ راحة كفّها فإذا بها قطعة نقود (عشرة فلوس) وهي تعادل قيمة استكان الشاي الذي شربته منها، بدتْ مصرّة بشكل عجيب على إعطائي قطعة النقود، لكنني رفضتُ ذلك.
كان جسد أبي الطويل النحيف يتقدّمني كثيرا، لم يكن يلتفت إلى الوراء، قلّما يفعل ذلك، كان يعرف بأنني سأتبعه حيثما يسير وأينما يتجّه، لمحته يستدير يمينا، هرعتُ إليه، دخلنا في زقاق فرعي، تصطف على جانبيه مجموعة من دكاكين الخياطة الصغيرة، ثم توقّف أبي عند دكان بالغ الصِغَر، عرض واجهته متر ونصف لا أكثر، فيه ماكنة خياطة وحيدة، وهناك رفّ خشب صغير عليه قطع من القماش بألوان مختلفة.
سلّم أبي على صديقه الخياط، هو يقارب أبي في العمر، وكلاهما عند عتبة الأربعين، قال أبي للخياط: هذا ابني علي، طالب في الصف الثاني متوسط، أريد أن تفصّل له (قاط/ بدلة) من الدرجة الأولى، وأريد أن تأخذ مقاساته بدقة، لا أريد طولا في البنطلون ولا قُصْرا في أردان الجاكيت، لا تنسَ أريد القماش من النوع الفاخر...
وأضاف أبي قائلا للخياط: لا تفكّر كم مبلغ الخياطة، ولا كم ثمن هذه البدلة، أريدها من الدرجة الأولى، ومن النوع الفاخر...
كنتُ أراقب ما يحدث برهبة غريبة، لأول مرة أعيش حالة ترف من هذا النوع، لقد وصلَ عمري (14) سنة ولم أحصل على بنطلون جديد يتم تسجيله باسمي، طيلة السنوات التي مرّت من عمري وأنا أرتدي بنطلونات أولاد أقاربي الأكبر مني، أو بعض ملابس أبي، أشعر أن ما يحدث أمامي الآن صدمة حقيقية.
قدّم الخياط أكثر من قطعة قماش لأبي، ثم خيَّرني بين الألوان، كنتُ لا زلت أعيش الصدمة، يأكلني التردّد، لمستُ قطعة القماش برفق وخجل شديد، رأى أبي أصابع كفّي تهتزّ بتسارع، لا أستطيع أن أمسك القماش الانكليزي الناعم، وضع أبي يده على كتفي وقال:
(اهدأْ واخترْ ما يروق لك وما يليق بك).
فاخترتُ اللون البني الغامق، عندها التفتَ أبي نحو الخياط وسأله، ما نوع هذا القماش، وهل هو من الدرجة الأولى، فأجاب الخياط: هذا القماش صناعة انكليزية عريقة، وهو مرغوب جدا عند الأساتذة والمعلمين، وكبار موظفي الدولة، كلهم يرتدون هذا النوع من القماش، لهذا فإن سعر المتر الواحد يبلغ (ثلاثة دنانير)، أي نصف راتب والدي تقريبا.
هذه هي المفاجأة، قاط انكليزي على مقاسي الدقيق، سعره كلَّف أبي (راتب شهر أو أكثر من ذلك)، واتفق مع الخياط على أن يدفعه في أقساط شهرية متعاقبة.
أغرقتني سعادة مباغِتة، فرح من نوع غريب، لم أعش سابقا مثل هذه المفاجآت الغريبة، كان أبي يتابع ما يحدث لي، وكان سعيدا بسعادتي، وحين رأى طيفا من الدمع في عيني، ضمّني إلى صدره، وقال: (لا شيء يغلا عليك أبدًا)...
لا زلتُ حتى اللحظة أتذكر رائحة ذلك القماش الانكليزي البني، إنها في الحقيقة رائحة مختلفة، لا استطيع تفسيرها، لأنني لم أشمّ مثيلا لها، ولا يمكن نسيانها، والشيء الآخر، أصابع كفّ الخياط التي فصّلت قطعة القماش على مقاسات جسمي.
كانت أصابعه بيضاء دقيقة، وفيها خاتم بشذرة زرقاء يسطعُ منها ضوء داخلي يبهج القلب، كانت أصابع الخياط تتحرك برشاقة، تشبه رشاقة رائحة القماش، أما أنا فكنتُ أعيش هذه الأجواء وكأنني في حلم، أجواء لم أعش مثلها حتى اللحظة، إنها ابنة زمنها البعيد، أحداث نعيشها بعمق وألم، ثم تمضي بعيدا عنّا، نتمنى عودتها بيْدَ أنّ هذا ضربا من المحال، لذا فهيَ لها نكهتها الخاصة ولونها وطعمها وشكلها وأيامها التي لا يمكن أن تتكرر.
اضف تعليق