من المفارقات الكثيرة والمثيرة التي أفرزتها التظاهرات الاخيرة في بغداد والمحافظات، والتي طالبت فيها الجماهير اتخاذ تدابير اصلاحية في السياسة والاقتصاد والخدمات وما شابه، من هذه المفارقات أن الجميع (حاكم ومحكوم)، هبَّ لتأييد موجة المظاهرات الجديدة، ليس هذا فحسب، وانما الجميع ايضا، دعا لاتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق الاصلاح ومقارعة بؤر الفساد والمفسدين، وكأن الجميع يريد أن يبرّئ نفسه من النتائج التي تسبب بها الفساد.
وإلا ما معنى ان تدخل الكتل الكبيرة والاحزاب السياسية في مشهد الاحتجاجات، لتعلن مطالبتها بأهمية الاصلاحات الفورية لما آل إليه حال البلد؟، وما معنى أن يدعو الشخصيات السياسية الكبيرة المسؤولة عن ادارة البلد منذ اكثر من عشر سنوات، الحكومة العراقية الى اجراء الخطوات العملية اللازمة لاصلاح مؤسسات الدولة ودوائرها الرسمية الخدمية وسواها، وكأنهم في معزل عمّا يجري في العراق!.
إن هذه الدعوات التي تصدر من كتل واحزاب وقادة شاركوا في العملية السياسية منذ انطلاقها فبل أكثر من عشر سنوات، تدل على أن هؤلاء يحاولون ان يبعثوا رسالة للشعب وللعالم أجمع، بأنهم غير مسؤولين عن حالة التردّي التي يعاني منها العراق، والتي قد تضعه على حافة الانهيار، ولكن إذا كان من يقود العراق (احزاب وكتل وشخصيات) ويشارك في صنع القرار السياسي والاقتصادي وسواه، هو الذي يدعو للاصلاح، تُرى من هو المسؤول عن الاوضاع التي يعاني منها الشعب والدولة ومؤسساتها؟.
اذاً نحن امام ظاهرة مزدوجة خطيرة، وهي محاولة الرؤوس السياسية الكبيرة والصغيرة للتنصل من مسؤوليتها في إيصال البلد الى حافة الانهيار، وهنا ينطبق مضمون (الاعتراف بالخطأ فضيلة) على كل من يحاول التنصل من اخطائه ومسؤولياته من الساسة العراقيين، إن المحاولات المستميتة لهؤلاء السياسيين للتهرب من مسؤوليتهم ليست هي الحل.
وانما ينبغي مواجهة الامور بشجاعة والاعتراف بالاخطاء الجسيمة التي اقترفتها الكتل والاحزاب والشخصيات السياسية، بحق الشعب والبلد وبحق نفسها ايضا، وأن تبدأ بالعمل الفوري على التخطيط والاعلان عن خطة عملية لاصلاح الذات، تساعد الدولة والحكومة على انجاز مهام التصحيح بأسرع وقت وأفضل طريقة.
تزايد الضغط الجماهيري
إننا نلاحظ منذ بداية الضغط الجماهيري على الحكومة ومركز صنع القرار، ومع تزايد هذا الضغط، بدأ صناع القرار بمحاولات واضحة لخلط الاوراق، فالكل بات يدعو لتعديل الاوضاع وتصحيحها، مع انه هو اول المسؤولين عن خلايا الفساد التي تأسست وتنامت في النسيج المجتمعي والسياسي، ويتضح من هذا السلوك أن هنالك إيغالا واصرارا على التهرب من مواجهة الاخطاء والمشكلات القديمة.
فالاصلاح كما يؤكد اصحاب الشأن من مفكرين وعلماء وفلاسفة، ينبغي أن يبدأ بالنفس أولا، أي لا يجوز لشخص او جهة او حزب ان يدعو للاصلاح وهو لم يصلح نفسه، فبداية التصحيح ينبغي أن تبدأ بالذات، وعندما يعالج الانسان او الجماعة مكامن الخلل في ذاته، قد يكون بإمكانه توجيه الدعوة للاخرين كي يصلحوا أنفسهم، وهذا يستند الى القول المعروف (أن فاقد الشيء لا يعطيه)، فإذ كان الانسان الفرد والجماعة غير صالح، ففي هذه الحالة لا يمكن أن يساعد على تحقيق الاصلاح في ذوات الآخرين.
فمثلا اذا كان السياسي الفلاني، او الحزب او الكتلة السياسية الفلانية، تدعو الى تقويم الجهاز الاداري وسواه في الدولة، او تدعو الى اصلاح نفوس القادة وذوي المناصب الحساسة وما شابه، فإن الأولى أن تبدأ هذه الدعوة من الحزب والكتلة نفسها، فمثلا عندما تبادر بعض الاحزاب والكتل الكبيرة بإخلاء ممتلكات الدولة التي سيطرت عليها بالنفوذ والقوة خارج القانون، فهذه خطوة من الخطوات التي تساعد الحكومة والدولة على اعادة الامور لنصابها.
ولكن عندما يتمسك كل حزب وكتلة وشخصية سياسية متنفذة وكبيرة، بالممتلكات العامة، تحت هذه الحجة او تلك، فإن هذا (الفساد)، يجعلهم في خانة (عدم التشجيع الفعلي للاصلاح)، أما اذا حدث العكس، وتخلّت هذه الجهات والكتل والشخصيات عن مقراتها وقصورها وبناياتها العائدة للدولة، فإن هذه الخطوة سوف تدل على التزامها قولا وفعلا بخطوات التصحيح التي تدعو إليها.
ولذلك لابد أن تبدأ عملية الاصلاح من الذات، لأن الفاسد لن يكون قادرا على تحقيق التصحيح الفعلي للأمور كافة، نعم هو يمكن أن يرّح ويدعو ويقول في اللقاءات ووسائل الاعلام كافة، بأنه مع الاصلاح ويدعو له وما شابه من تصريحات وخطب، ولكن الواقع غير ذلك تماما، فمن يتمسك بالفساد ويدعمه بالفعل، لا يمكن أن يدعو للخلاص منه بالقول فقط.
ملاحقة الفاسدين والمفسدين
ولذلك نحن نحتاج الى خطوات فعلية للاصلاح، يبدأ بها المسؤولون السياسيون أنفسهم، وكل من يشترك بالعملية السياسية وله نفوذ بها، أي ينبغي أن يبدأ الاصلاح بالطبقة السياسية نفسها، حتى تكون نموذجا للشعب كله، فالاحزاب والكتل التي تدعو الى الاصلاح هي نفسها تسيطر على ممتلكات عامة كما سبق القول، مثل المقرات والقصور وما شابه، وعندما تتم مطالبتها بالخضوع للقانون وتسليم تلك الممتلكات، ترفض ذلك، وفي الوقت نفسه تدعو الاخرين لتطبيق الاصلاح، هذا التناقض بين القول والفعل هو اساس المشكلة في العراق الآن.
لذلك فإن جميع الامور الخاطئة التي يرتكبها المسؤولون ينبغي أن يتم تصحيحها واصلاحها قبل مطالبة الاخر بالاصلاح، كذلك ينبغي أن يبدأ الاصلاح بتعقّب الفاسدين والمفسدين ممن عبثوا بموارد الشعب والدولة، وينبغي ان توضع خطة واضحة لاعادة الاموال التي سُرقَت او أهدرت او تم اختلاسها في صفقات وهمية، وقد اكدت المرجعية الدينية في خطب سابقة وفي خطبة الجمعة الاخيرة، على أهمية وضع خطة واضحة للاصلاح.
إن الاصلاح يبدأ من هذه النقطة بالذات، أي من ملاحقة الفاسدين واعادة الاموال العامة المنهوبة الى خزينة الدولة، حتى القديمة منها، فهناك صفقات فاسدة وعمليات اختلاس واسعة جرت منذ بداية العملية السياسية بعد نيسان 2003، وقد سرقت فيها عشرات المليارات، وهي معروفة للجميع، فكيف بالجهات الحكومية والقضائية المختصة، انها لا شك تمتلك الوثاق التي تدين هذه الرؤوس، بالأدلة القاطعة.
لذلك ينبغي وضع خطة اصلاحية عملية، تقتص من هؤلاء الفاسدين، وتعيد اموال الشعب العراقي إليه، خاصة اننا نمر اليوم في ظرف مالي واقتصادي خطير، قد يضع مستقبل البلاد والشعب في مفترق طرق، ونعود لنؤكد ان الاصلاح لا يمكن أن يكون له التأثير الفعال ما لم يبدأ السياسيون والقادة والاحزاب وغيرهم، بمعالجة أنفسهم وذواتهم أولا، هذا هو الطريق الواضح والسليم والناجع للاصلاح، وإلا فإنه سوف يبقى ضرب من الكلام والتصريحات التي تذهب كالهواء في شبك.
اضف تعليق