ونحن نعيش أيام شهر رمضان، نتغلغل يوما بعد آخر في أجوائه الإيمانية، ونشعر بنوع من النقاء والاستقرار الداخلي، مبعثه الاطمئنان النفسي والروحي، والاندماج التام مع أجواء السلام لهذا الشهر المبارك، حتى حركة الناس تكون محسوبة، وغالبا ما تبدأ بعد أن يفطر الصائمون...
ونحن نعيش أيام شهر رمضان، نتغلغل يوما بعد آخر في أجوائه الإيمانية، ونشعر بنوع من النقاء والاستقرار الداخلي، مبعثه الاطمئنان النفسي والروحي، والاندماج التام مع أجواء السلام لهذا الشهر المبارك.
حتى حركة الناس تكون محسوبة، وغالبا ما تبدأ بعد أن يفطر الصائمون، وينطلق معظمهم في جلسات جماعية أو زيارات تبادلية تسودها أحاديث مختلفة المضامين والأهداف، لكنها في الغالب تكون مفيدة وتعالج ما يقلق الناس من تساؤلات.
بعض هذه التساؤلات تتعلق بتحصيل الرزق، وهذه مهمة يومية مستمرة طيلة عمر الإنسان، إلى أن يعجز عن القيام بسبب المرض أو التقاعد أو سواه، وخلال رحلة البحث اليومية عن الرزق يواجه الموظف أو العامل أو الكسبة بأنواعهم، مواقف بعضها فيه صعوبة كبيرة.
لكن في كل الأحوال عليه أن يتحملها ويتعامل معها دون ضجر أو جزع، حتى لو تكررت أو استعصت على الحل، فالرزق لا يمكن التخلي عنه بسبب هذه الصعوبة أو تلك، أو بسبب المشاكل التي تعترض رزق العامل والموظف والكاسب.
ثقافة الرزق الحلال
في محاضرة دينية كان حديثها عن الرزق، ومن مضمونها الاتي: (لو تعلم المرأة والأبناء بما يتعرض له الأب من مشاكل ومصاعب كبيرة أثناء عمله، ولمواقف فيها الكثير من الإذلال، كي يجلب لهم رغيف الخبز الذي يسد رمقهم، لعرفوا كم هي مكانته عظيمة، لاسيما أنه يتعرض لمثل هذه المواقف بشكل يومي، لكنه يتحملها ويتعامل معها بصبر حتى لو مسَّت كرامته، من أجل أفراد عائلته).
ترى ما الذي يجعل الرجل الأب ولي الأمر أن يتحمل كل هذه المصاعب؟، الجواب واضح، حتى يجلب رغيف الخبز لأبنائه وعائلته؟، والسؤال هنا، لماذا يحرص أغلب الكسبة البسطاء على أن يكسبوا رزقهم بالحلال؟
هناك ثقافة سائدة بين معظم الناس تعلّمهم على أن الرزق لابد أن يتم تحصيله بأساليب صحيحة ومشروعة، وأن أي فلس أو دينار نحصل عليه بأسلوب الغش والخداع سوف يكون رزقا حراما، وليس صحيحا أن يُطعم الأب أولاده طعاما من أموال الحرام.
لقد سمعتُ من أمي رحمها الله حين كنت صغيرا، أن الطعام الحرام إذا دخل إلى البطن يتحوّل إلى نار تحرق الجسد كله، وهذه الصورة لازمتني سنوات عمري كله، ومن المهم أن يتعلّم صغارنا أن ليس هناك أفضل وأعظم من رغيف الخبز الحلال...
هل يعني هذا أن الجميع مقتنعون بأن الكسب الحرام يتحول إلى نار في البطون؟
كلا بالطبع، هناك من يستهزئ بك حين تخبره بهذا الأمر، وبعضهم ينظر إليك على أنك إنسان غبي وخامل وغير عصري ولا شاطر، وتراه يركض ليل نهار ويلهث بصوت عال لكي يحصل على المال بأية طريقة كانت، ولا يكتفي بمقدار معين، بل كلما يزداد ماله يزداد ركضا ولهاثا ولا يعنيه في ذلك لا الحلال ولا الحرام، وإنما ما يعنيه كيف يصل للمال!!
حفظ الرزق من أموال السحت
تحصيل الرزق عملية صعبة وقد تكون معقدة أحيانا، لهذا السبب تم وضع قواعد للعمل، منها قانونية وأخرى شرعية، وثالثة أخلاقية، كل هذه الضوابط مهمتها تنقية رزق الانسان اليومي من الحرام، وهي مهمة صعبة ولكنها ممكنة، حيث يكون الدافع الذاتي صاحب القدح المعلى في حفظ الرزق من الحرام.
يأتي بعد ذلك مباشرة، القوانين ودرجة الحزم التي تُطبَّق فيها كي تحد من الزلل، وهنالك الجانب الاخلاقي الذي تدخل ضمنه منظومة الأعراف وقدرتها على حماية الانسان من السقوط في فخ المال الحرام.
وفق هذا المنظور، لا يمكن أن يكون الرزق الحلال رهن المزاج، أو المنفعة خارج الضوابط والشرع والقوانين، فالموظف يعمل بأجر معروف كي يحصل على رزق شريف لأسرته، وأي خلل في هذا الجانب، قد يدفع هذا الرزق نحو حافة الحرام، ليس في الجانب المادي فحسب، فالرشوة مثلا محرَّمة وتجعل من راتب الموظف كله ممزوجا بالحرام.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حتى طريقة تعامل الموظف مع المواطن، بالكلام والجانب الاخلاقي قد يجعل من رزقه تحت الشكوك، فعندما يقوم الموظف بإذلال المواطن وتأخيره، وأحيانا حتى تعنيفه والتنمّر عليه فهو لا يختلف كثيرا عمَّن يطلب الرشوة من المراجعين.
لهذا تقع مهمة الوظيفة ضمن ضوابط واضحة يفهمها الموظفون، كذلك يعرّف المعنيون الموظف بأنه عامل حكومي يؤدي عملا خدميا متنوعا يصب في الصالح العام، مقابل اجر تدفعه له الدولة، وبهذا يحصل على المال ومصدر الرزق له ولعائلته، مقابل خدمات معروفة يجب أن يؤديها.
أما الموظف الذي يعطّل عمل واستحقاقات الناس، ولا ينجزها في الوقت المحدد، فهو لا يستحق الاجر الذي يحصل عليه من خزينة الدولة مقابل خدماته، وفقا للقوانين الوضعية والشرعية والاخلاقية أيضا، لذلك ينبغي مراعاة هذا الجانب بدقة. هناك أساليب عديدة يلجأ إليها بعض الموظفين، يمكن أن تحمل سمة الابتزاز، فقد يذهب الموظف الى اسلوب التعطيل المقصود للمعاملة، وهو تعطيل اعتاد عليه الموظف الحكومي الذي لا يهمه أن يكون رزقه حلالا، وهي عملية ابتزاز واضحة للحصول على المال.
مثل هذا الموظف لا يؤمن ولا يصدّق ولا يتخيل أن الحرام الذي يدخل بطون أطفاله سيتحول إلى نار تحرقها، والنار هنا ليست نار حقيقية، بل قد تكون على شكل مرض خبيث، أو اعتلال ووهن مستمر يجعل ولي الأمر (يصرف) أضعاف ما حصل عليه بالابتزاز أو أشكال الحرام الأخرى، بالختام أليس مطلوبا ممن يتقبّل الحرام أن يراجع نفسه، خصوصا في هذا الشهر الذي يتبارى فيه الجميع كي يتقربوا إلى الله؟
اضف تعليق