من الأقوال الشهيرة التي نرددها دائما في جلساتنا او حواراتنا، قول يتعلق بقدرة الإنسان على العطاء، لأنه ليس بمقدورنا أن نعطي كل شيء يطلبه الآخرون منا، فإذا كنا لا نملك القدرة على أن نعطي، كيف سنلبّي ما يُطلَب منّا، لذلك ينص هذا القول على أن (فاقد الشيء لا يعطيه)، وهو قول يشبه القانون الحسابي غير القابل للخطأ، فالمنطق يؤكد على أن الانسان لا يمكنه أن يقدم للآخرين شيئا لا يملكه، بمعنى كيف يمكنك أن تعطي شيئا هو غير موجود لديك أصلا؟؟.
تقودنا هذه المقدمة الى المثقف، فالمعروف أن المثقف والثقافة تسهم في بناء المجتمع، وتساعد الدولة على المضي الى امام، ولكن اذا كان المثقف نفسه ليس مكتمل البناء، هل يمكنه أن يسهم في عملية بناء المجتمع؟ لذلك هناك من يعتقد أن الثقافة لدينا تعاني من مشكلات حقيقية، وربما يصح الرأي الذي يرى بأن ثقافتنا تعاني من عيوب، كونها تنحو الى الشكلية على حساب الجوهر.
ولا تهتم في قضية البناء السليم للمثقف نفسه، بل هي نفسها ثقافة تبدو غير راكزة أو انها تعاني من جملة نواقص، فتبدو وكأنها ذات ميول تنزع الى التقليد، وتهجر الابتكار أو تتحاشاه لأسباب عديدة، أولها أن أداة الثقافة الاولى - ونعني بهم المثقفين- يعانون من كيفية بناء أنفسهم، وبالتالي طالما يوجد خلل في البناء الصحيح للمثقف، فإن الثقافة تبقى تعاني من أزمات ونواقص في هذا المسار أو ذاك، لهذا تكون عاجزة عن بناء الدولة والمجتمع.
لذلك من البديهي أنك اذا اردت أن تمنح شيئا للآخر، عليك ان تمتلكه أولا ثم تعطيه لغيرك، وهذا يعني ان المطلوب من المثقفين أن يبنوا قدراتهم أولا، كما أن المعني ببناء المثقف لنفسه، هو البحث الجدي في قضية تجديد الفكر وتحديثه، والمواكبة الفعلية للمستجدات الثقافية على مستوى العالم، إبتداءا، وصعودا من المحلية، الى العربية، ثم العالمية.
علما أن هذا البناء الثقافي المنهجي، سوف يُسهم في صنع مثقف متكامل ينهل ثقافته وسعة آفاقه من سعة إطلاعه وسعيه نحو التجديد دائما، ولا شك أن مثل هذا المثقف سوف يتحصَّل على رؤية واضحة لمفهوم الثقافة، ودورها وقدراتها الكبيرة في تطوير حركة المجتمع، وبهذه الطريقة سوف يكون في المجتمع مثقف قادر على الاسهام بعملية البناء، ليس الثقافي فقط، وانما تطوير الوعي المجتمعي بشكل عام.
ولا شك أن هذا البناء المنهجي للمثقف، فكراً وشخصيةً، سيمنح الثقافة فرصا أفضل للتحول من طابعها التقليدي الشكلي، الى الجوهرية التي توفر للثقافة، دورا فعليا في تنظيم أنساق الفكر والتطبيق معا، ما يؤدي بالنتيجة الى دور ثقافي فاعل ومؤثر في الواقع المجتمعي، وقد بدأ هذا الدور في اللحظة التي قرر فيها المثقف، أن يبني نفسه بالطرائق الصحيحة التي تنقله من الشكلية الفارغة المدّعية، الى الجوهرية الممتلئة الفاعلة.
بهذا المعنى نحن نحتاج الى مثقف مكتمل وثقافة جوهرية، ولكنها لا يمكن أن تتحقق من دون أن يسعى المثقفون بجدية نحو الانتقال من مرحلة الادّعاء الثقافي، وهي مرحلة لا تزال تعيشها الآن - ثقافتنا العراقية والعربية عموما- الى مرحلة الفكر والفعل الثقافي الجوهري، وهي مرحلة لم تصل إليها ثقافتنا بعد، والدليل قصور الثقافة العربية عن التأثير الفعلي في الأنشطة المجتمعية الفعلية المتنوعة، مع حضورها وتأثيرها الجزئي في هذا الجانب أو ذاك.
لهذا فإن المطلوب هو قدرة الثقافة على تجديد أنماط السلوك، وقبل ذلك تحديث الأفكار وتطوير القيم التي يستفيد منها المجتمع بعد أن يؤمن بها، لكننا كما هو واضح، لم نصل بعد الى الثقافة المكتملة، التي سيكون بمقدورها فرض طابعها الكلي على الحراك المجتمعي أجمع، ويرجع هذا – كما هو واضح- الى ضعف الاداة الاولى للثقافة، وأعني به المثقف الذي لا يزال يفتقر للعمق والجوهر بسبب ميوله الى الشكلي البسيط، الذي لا يتطلب جهدا بحثيا معمّقا، وسعيا عمليا ممنهجا، ومواكبة متواصلة لما يستجد في ثقافات العالم والحواضن الادنى.
لذا فإن هذا التداخل بين خمول المثقفين وبين ثقافة التقليد وغياب الابتكار، يشكل العقبة الكبرى التي تقف في طريقنا نحو التطور، وبناء ثقافة الجوهر، وإشاعة نمط وحضور المثقف الجوهري الفاعل، لهذا ليس غريبا أن يتمثل ويتعلّق الشارع العربي بسرعة مذهلة بشكليات الثقافات الوافدة، من دون الغوص في مضامينها، والافادة من مضامينها الانسانية إن وجدت، إذ سرعان ما تظهر الشكليات الوافدة على مظهر المواطن العربي وسلوكه بحجة عصرنة اللفظ والسلوك معا.
وهذا بطبيعة الحال تبرير لا يستند الى دعامة حقيقية، لأن الثقافة الغربية على سبيل المثال، لم تكتف قط بانتاج الغرائب الشكلية في السلوك البشري، بل تصدرت الجوهرية الكثير مما انتجته هذه الثقافة وقدمته لنفسها وللآخر على حد سواء، لذلك فإن تآزر شكلية الثقافة والمثقف، والانبهار بالآخر حد التقليد الشكلي الاعمى، يؤدي بدوره الى موت الابتكار، أو اللباث في السكونية، والاكتفاء بما تدرّه علينا الثقافات الاخرى من سلوكيات سطحية معيبة.
وخلاصة الكلام إننا بحاجة الى مثقف عميق يسهم اولا في بناء نفسه، وبناء ثقافته التي تعتمد الجوهر والشكل معا، حتى يكون بمقدوره العطاء الثقافي الذي يمتلكه، وهذا لن يتحقق بوجود مثقفين يعجزون عن بناء أنفسهم، اما كيف تتم عملية البناء الثقافي، فهذا يعود الى المثقفين أنفسهم قبل غيرهم، ومن ثم الشروع في صنع ثقافة مجتمعية تعتمد العمق والأصالة وتنبذ السطحية والتقليد.
اضف تعليق