كثيرا ما كنتُ أفكّرُ بالموت، مع أنني لم أشترك في الحرب كما هو الحال مع أخي، ولم أكن عرضة للرصاص والقذائف، كما أنني لستُ مضطرا للسفر الطويل بين المدن، ولم أعانِ من مخاطر حوادث الطرق التي كانت ولا تزال تُزهق أرواح العراقيين وغيرهم أكثر مما فعلته الحروب...
كثيرا ما كنتُ أفكّرُ بالموت، مع أنني لم أشترك في الحرب كما هو الحال مع أخي، ولم أكن عرضة للرصاص والقذائف، كما أنني لستُ مضطرا للسفر الطويل بين المدن، ولم أعانِ من مخاطر حوادث الطرق التي كانت ولا تزال تُزهق أرواح العراقيين وغيرهم أكثر مما فعلته الحروب، أما أخي الذي دخل الحرب مرغما، فقد خرج منها سالماً، ولم يُصَب جسده بعاهة مرئية، لكنَّ ما خفيَ كان أعظم.
الإصابات أو العاهات غير المرئية قد تكون أشد فتكا بالبشر، لأنها أفدح من تلك التي تصيب الجسد، وأعني بها إصابة العقل و الروح، فمن ينظر إلى أخي يراه سالما من الخارج، لكنه معطوب نفسياً بسبب كثرة مشاهد الموت التي عاشها أو تعرَّض لها، أو تلك التي رأى فيها جنودا يلفظون أنفاسهم بمشاهِد تفوق الخيال.
إحدى حوادث الموت كان يرددها أخي دائما، وكان يحكيها لكل من يلتقيه، وفي كثير من الأحيان يعيد هذه الحكاية مرة أخرى على أناس قصّها لهم، لأنه ينسى الوجوه التي يحكي لها حكاية الموت، يقول أخي ذات يوم انتهت معركة محتدمة بيننا وبين الطرف الآخر، هدأ القصف وصمتت أصوات القذائف، عدنا أدراجنا إلى مواقعنا، كنا أنا وصديقي سيد ناظم، نسير إلى ملجئنا، كان يحمل مدفع الهاون على كتفه، ويحكي لي عن أحلامه وعمّا خطط له من مشاريع، كان سعيدا لأنه لم يمت في هذا الهجوم الصاعق.
عدنا نتمشى بهدوء إلى مواضعنا، وكان كتفه يكاد يلتصق بكتفي، مسافة قليلة جدا تفصل بين كتفينا، وفي لحظة خاطفة رأيت صديقي سيد ناظم جسداً بلا رأس، جاءت قذيفة أو شظية حادة ساخنة وقطفت رأسه بسرعة البرق، ظل جسده واقفا في مكانه لحظات كأنه لا يزال حيّاً، وبقي مدفع الهاون معلّقا على كتفه بغياب الرأس، ثم بعد لحظات هوى إلى الأرض، لم تكن هناك علامة لقرب الموت منه، كنا نسير بهدوء إلى ملجئنا، لكن الموت قد يزورك في أية لحظة ودونما سابق إنذار، هذا ما حدث أمام عيني لسيد ناظم.
إذاً الموت قد يداهم الإنسان في أية لحظة، ويجب أن يؤمن بأنه رهن الموت في أي وقت، وعليه أن يتحسّب لهذا الأمر، حتى يخرج من هذه الدنيا بأقلّ ما يمكن من الأثقال، ذات يوم قصَّ أحد سائقي سيارات الأجرة هذه القصة الغريبة عن الموت، قال:
كنت أقف بسيارتي في كراج السيارات الذاهبة من بغداد إلى البصرة، كنّا ننتظر دورنا كي نحصل على خمسة ركاب وننطلق بهم إلى البصرة، وفجأة دخل رجل قوي البنية صحيح الجسد معافى تماما، وكان في عجلة من أمره، يريد السفر إلى البصرة فورا، فطلب سيارة على حسابه الخاص حديثة وسريعة توصلهُ إلى البصرة في ثلاث ساعات فقط، وتعهد بدفع أجر مضاعف للسائق الذي يوافق على طلبه الغريب هذا.
بدا هذا الطلب شبه محال أو صعب جدا، وتردَّد جميع السواق عن تلبية هذا العرض المغري لأن الثلاث ساعات التي اشترطها الرجل قليلة ولا يمكن لسائق أن يقطع المسافة بين بغداد والبصرة بثلاث ساعات إلا إذا سار بسرعة قاتلة تتجاوز مئتي (200) كم في الساعة، وأخيرا وافق أحد السواق على إيصال الرجل للبصرة بثلاث ساعات فقط، واتفقا وصعد الرجل في صدر السيارة التي انطلقت به كالبرق إلى البصرة.
قاد السائق سيارته بسرعة لم يسبق له أن جربّها مطلقاً، ولم يسأل الرجل المسافر عن سبب إصراره على هذه السرعة والتوقيت الغريب، كان الصمت هو الجامع المشترك بين الاثنين، فالسائق وضع كل تركيزه على الطريق، والرجل المسافر كل همّه الوصول إلى البصرة بثلاث ساعات حتما.
بالفعل وصلت السيارة بالرجل قوي البني صحيح الجسد في أقل من ثلاث ساعات بعشر دقائق، وتوقفت السيارة عند باب كراج سيارات البصرة، استلك السائق أجره، ونزل الرجل من السيارة التي انطلق بها سائقها إلى أمام واستدار حول (الفلكة/ الاستدارة) وعاد إلى باب كراج السيارات ليرى جمعا كبيرا من الناس تجمعوا وأغلقوا باب الكراج، وحين سأل السائق أحدهم عن سبب هذا التجمع والزحام الشديد، قال له: إن رجلا عبر الشارع مسرعا فصدمتهُ سيارة مسرعة وحين ألقى نظرة على المدهوس وإذا به الرجل الذي اشترط عليه الوصول إلى البصرة بثلاث ساعات!!، إذن هذا الرجل كان على موعد مع الموت الذي أجبره أن يؤجّر سيارة خاصة حديثة سريعة تجلبه من بغداد إلى البصرة في أقل من ثلاث ساعات كي يلقى حتفه.
لحظة الموت لا تأجيل فيها، حتى لو كانت تفصل بين الإنسان وبين موته مئات الكيلومترات، فلنعملْ على هذا الأساس، ونستعد للرحيل عن هذا الدنيا في كل لحظة، يجب أن لا نظلم، لا نؤذي، لا نقهر، لا نتجاوز، ونراعي الناس في حقوقهم وفي كل شيء، على أمل مغادرة هذه الدنيا وملاقاة الموت بقلب سليم وروح نقية.
اضف تعليق