منذ نعومة أظفاره ظهرت عليه مؤشّرات حب التملّك، هي غريزة موجودة عند البشر جميعا، لكنها عندما تتجاوز المعقول والمقبول، تتحول إلى ظاهرة ممقوتة، لا يحبها الناس وإنْ كانوا جميعا يحبون امتلاك الأشياء، هو إنسان مختلف عن غيره، حتى في عائلته المكوّنة من خمسة أنفار...
منذ نعومة أظفاره ظهرت عليه مؤشّرات حب التملّك، هي غريزة موجودة عند البشر جميعا، لكنها عندما تتجاوز المعقول والمقبول، تتحول إلى ظاهرة ممقوتة، لا يحبها الناس وإنْ كانوا جميعا يحبون امتلاك الأشياء، هو إنسان مختلف عن غيره، حتى في عائلته المكوّنة من خمسة أنفار، كان يتفوّق كثيرا على أشقّائه في التعلّق بأشيائه وممتلكاته لاسيما النقود.
كانوا ثلاثة أخوان، يعيشون في كنف عائلة هادئة مطمئنّة، أبوهم فلاح يكسب قوته من حرث الأرض وزرعها، لكن الزمن يتسارع، والصناعات تتطور، والنزعة المادية تتغوَّل، يفرّ الأب بعائلته الصغيرة إلى المدينة، يترك أرضه التي لم تعد تلبّي الطموحات المالية للأولاد، وفي المدينة تنتعش أكثر رغبة الامتلاك عند ماهر الأخ الأوسط بين الأخوة الثلاثة.
رغبة ماهر للتملّك طوّرت مهاراتهِ بسرعة، فأتقنَ مهنة بناء وطلاء البيوت التي تدرًّ أموالا كبيرة، وبسبب كثرة هجرة سكان الأرياف إلى المدن، تكاثرت أعمال البناء، فكانت مهنة ماهر مطلوبة من الجميع، وكانت أجوره كبيرة قياسا لعمره وجهدهِ أيضا، وكان يحصل على أموال تفوق ما يحتاجهُ بكثير، ومع ذلك كان يرفض أن يساعد عائلته التي تركت الريف حديثا.
أبوه كان يترفّع عن الطلب من ابنه ماهر، والأخير لا يخطر في باله مساعدة العائلة، حتى أمه لم يكن لها نصيب في أموال ابنها ماهر التي يحصل عليها من مهنة البناء المزدهرة، أما أخواه (أحدهما أكبر من ماهر والآخر أصغر منه)، فلم يكن يهتم لهما، ولا تعنيه حاجتهما للملابس أو المصروف اليومي أو حتى الغذاء، ما كان يهم ماهر نفسه فقط، ولم يكن يخجل أو يتردّد من إعلان بخله للجميع.
مرّة واحدة طلبت منه أمهُ أن يعطيها قليلا من المال لأن العائلة بلا خبز ولا طعام، ولأنه لم يستجب لها، لم تكرر الأم هذا الطلب على ابنها حتى الموت، فكانت العائلة تأكل ما يتيسّر لها حتى لو كان قليلا، أو رديئا، أما ماهر فكان يذهب وحدهُ إلى أفخر المطاعم ويتناول أشهى الوجبات، دون أن يخطر في باله أباهُ أو أمه أو أخويْه.
العادات البائسة التي اعتاد عليها ماهر، لم تقتصر على البخل وحب الامتلاك، فهناك حالة أخرى أسوأ بكثير من البخل، إنه كان يعمل بشكل يومي ويجني أموالا جيدة، لكنه لا يستمر بالعمل، فحين يجمع أموالا جيدة خلال شهر من العمل المتواصل، كان يتوقف عن العمل، ويبدأ بشراء ما يحلو له من الملابس غالية الثمن، والساعات، والدراجات الهوائية، ويسافر إلى أماكن سياحية متميزة، ويدخل دور السينما والمسارح، وحين تنتهي نقودهُ يعود إلى البيت.
يبدأ العمل من جديد لمدة شهر أيضا، ويجمع النقود، ليبدأ بصرفها على نفسه فقط، وحين تنتهي بسبب حبه لامتلاك الملابس الفاخرة والساعات والدراجات وغيرها، يعود للعمل مجدَّدا، وبهذا فإنه لم يصبح غنيّا مطلقا، لأنه لم يسمح للأموال أن تتراكم عندهُ، بسبب صرفها الدوري المنتظم، كما أنه لم يفكّر مطلقا بتأسيس مشروع استثماري، مثلا شركة مقاولات لبناء الدور، ولذلك بقي يراوح في دوّامة حب الامتلاك والأنانية، وأمسكت به النزعة المادية الاستهلاكية من تلابيبه، فجعلت من أمواله هباءً منثورا.
هناك خسائر كثيرة تعرَّض لها ماهر، ولم يتعرّض لها شقيقاه الآخران، منها على سبيل المثال، أنه بسبب أنانيته وجمعه للنقود بشكل متناوب (شهر عمل/ يليه شهر استهلاك وصرف على ملذاتهِ)، خسر دراسته، فيما واصل أخواه دراستهما بتفوّق ونجاح، واستطاع أبوه أن يعثر على وظيفة متوسطة الدخل، فكان الأب يدعم ولديْه الأصغر والأكبر ويحثهما على التفوق بالدراسة، ويهتم بزوجته كثيرا، ولا يعبأ بولده ماهر بل كان ينظر إليه كولد عاق.
دخل ماهر في الثلاثين ولم يتزّوج بسبب أنانيته وصرفِهِ كل ما يكسب على ملذاته، في حين تزوَّج شقيقاه الأكبر والأصغر، واستقلّا في بيتين منفردين، وأصبح لديهما أبناء ذكور وإناث، كانت أمّ ماهر تحثُّ ولده ماهر على الزواج، وتحذرهُ من المستقبل، ثم ترجوه أن لا يستمر بتدمير حياته، تنصحه أن يتعلّم من أخويْه، لكنه كان يسمع كلامها بالأذن اليسرى ليخرج من الأذن اليمنى، دونما فائدة تُذكَر بسبب نمط حياته الخاطئ وأنانيته المفرطة.
مات أبوه، ثم التحقتْ به الأم، بقيَ ماهر وحيدا في هذا العالم، إنه في الخمسين من العمر، فقد قوّة الشباب، ولم يعد قادرا على أداء مهنة البناء المضنية، ليس له زوجة ولا عائلة، فقدَ أباه وأمّه، حاول العيش في بيت أخيه الأكبر لكنّ الزوجة رفضتهُ بسبب خوفها على أبنائها من سلوكياته الخاطئة، وحين جرّب العيش مع عائلة أخيه الأصغر تعرّض للطرد أيضا.
هو الآن على أعتاب الستين، وحيدا، محطّما، لا أهل، لا زوجة، لا أبناء، والكارثة أنه بلا دارٍ ولا أموال، الأموال التي شقيَ كثيرا في جمعها، وكان يبذّرها دونما وجع قلب، أو تفكير في المستقبل، إنه الآن يسكن في دار العجزة بلا حول ولا قوة، يستعيد في كل لحظة شريط حياته، ويحصي خساراته، ويلعن أنانيته التي أوصلته إلى هذا المصير....
اضف تعليق