عندما يكبر الإنسان ويصل ذروة العمر، تتكدس في ذاكرته أحداث لا حصر لها، يرغب دائما أن يستعيدها، لاسيما الجميل والمهم منها، أحيانا يستعيدها بمفرده أثناء خلوته بنفسه، لكن الأفضل حينما يستعيدها في جلساته الليلية مع أصدقائه المقاربين له بالعمر، في زياراتهم المتبادلة أو مقهى تجمعهم وهم...
عندما يكبر الإنسان ويصل ذروة العمر، تتكدس في ذاكرته أحداث لا حصر لها، يرغب دائما أن يستعيدها، لاسيما الجميل والمهم منها، أحيانا يستعيدها بمفرده أثناء خلوته بنفسه، لكن الأفضل حينما يستعيدها في جلساته الليلية مع أصدقائه المقاربين له بالعمر، في زياراتهم المتبادلة أو مقهى تجمعهم وهم يقصّون على بعضهم حكاياتهم وذكرياتهم.
أحد هؤلاء وهو من كبار السن أيضا، قال لصديقه الوحيد الذي واصل اللقاء به حتى في ظل كورونا:
- أتريد الحقيقة، أنا طيلة عمري لم أعش وضعاً استثنائيا كالذي نعيشه الآن، كورونا حوَّلت الأرض كلها إلى سجن، لم على مدى عمري أن أُجبرتُ لأي سبب كان على المكوث في بيتي أسابيع متتالية، ولم يستطع أحد أن يمنعني من زيارة صديق أو مدينة أخرى أو حتى دولا بعيدة، اليوم حتى جارك من الصعب عليك زيارته!
يواصل الرجل المسن استرجاعه لذكرياته فيقول لصديقه الوحيد الذي يجلس مبتعدا عنه مسافة متر ونصف بحسب التعليمات الطبية لمواجهة كورونا:
- في أول زواجي رزقني الله طفلا، وكنتُ أتمنى أن أُرزَق بولد، وها هو حلمي يتحقق، شكرتُ اللهَ كثيرا، وفرحتُ أيّما فرح بهذا الوليد الذي شعرت بأنه سوف يجعل حياتي أكثر سعادة، لاسيما أنني لم أفارق طفلي إلا ساعات العمل القليلة، حيث كنتُ أقضي معه أوقات طويلة أناغيه وأداعبه وأشم عطره وأُسعَد بابتسامته وضحكاته التي تنعش روحي، بلغت سعادتي به حدودا لم أكن أتوقعها، سعادة عارمة تمدني بطاقة هائلة لمواصلة العمل وكسب الرزق المضاعف، لكن الأحداث والأوقات السعيدة لا تدوم طويلا، فسرعان ما تمّ نقلي إلى مكان عمل آخر في مدينة أخرى تبعد عن مدينتي مئات الكيلومترات!، حُرمت من رؤية طفلي اليومية، وضاعت مني تلك السعادة التي غُمِرتُ بها، وبدأت الحياة تصبح أكثر جفاءً وصعوبة وثقلا، وتكدَّر مزاجي، وصرتُ أشتاق إلى رؤية ابني حدّ البكاء، وحين تنتهي مدة العمل التي تستمر أسبوعين أحصل على إجازة يومين فقط، يضيع منهم نهار في السفر إيابا وذهابا، لكن حين أصل البيت في إجازة، أذهب إلى طفلي مباشرة، أحمله بين ذراعيّ أضمه إلى صدري، أشمّ عنقهُ وأستنشق عبيره، وأناغيه ويتبسّم لي فأشعر أن العالم كلّهُ أصبح ملكي، وينطفئ عذاب الفراق وأعيش لحظات سعادة كأنني في الجنة، إذ تحين لحظة العودة إلى العمل في المدينة البعيدة، أشعر كأنني ذاهب إلى سجن بعيد مؤلم لا يمكنني رفضهُ أو التخلص منه، فهذا يعني رفضي لرزقي ورزق عائلتي، فأعود للعمل وتعود ساعات العذاب والشوق لرؤية ابني، وحين أُحلت على التقاعد، كبر أبني وأولادي كلهم كبروا ولم أعد أشعر أنني بحاجة إلى شمّ عبيرهم كما كانوا صغارا.
يواصل الرجل المسنّ كلامه لصديقه الذي ينصت له بإمعان:
- أتدري يا صديقي، عبير الطفولة الذي كنتُ أشمّهُ في طفلي عاد من جديد لي، وبدأت أجدهُ في أحفادي الصغار، وكم حمدتُ الله أنني لم أعد شابّا حتى يبعدني عملي عنهم كما حدث في الابتعاد عن طفلي في بداية زواجي، اليوم لدي أحفاد أعيش معهم سعادتي الغامرة، نلعب معا، نمزح، حتى ألعاب الطفولة رحتُ ألعبها معهم، (عسكر وحرامية، غميضة، جرّ الحبل، توكي البنات، وألعاب أخرى عفوية)، كل هذه ألعبها معهم وأستمتع كثيرا، لهذا ترك أحفادي آباءَهم وحتى أمهاتهم وتعلقوا بي وصاروا يفضلون قضاء أوقاتهم كلها أو معظمها معي، والحقيقة يا صديقي أشعر بنفس ذاك الشعور الذي كان يحدث لي مع طفلي حين كانت السعادة تغمر حياتي، مع أحفادي أيضا تغمرني السعادة، ولكن كما يُقال الأوقات السعيدة لا تدوم، كأن هذا الأمر شيء قدري، لا سعادة تدوم في الحياة؟!.
توقّف الرجل المسن عن الكلام قليلا، سحبَ نفسا طويلا كأنه يحاول أن يتخلص من حالة اختناق دهمتهُ فجأة، ثم واصل كلامه لصديقه المنصت إليه:
- اليوم أيضا فقدتُ سعادتي التي أعيشها مع أحفادي، وأنتَ تعرف لماذا يا صديقي، نحن نعيش اليوم زمن (كورونا)، وهو زمن السجن العالمي الكبير، حتى أحفادي صار ممنوعا عليَّ أن ألامس أجسادهم أو أحتضنهم، بل ممنوع أتقرّب منهم وأقل مسافة مسموح بها متر ونصف وفي الهواء الطلق، فأية محدّدات ظالمة هذه، وأية نقمة هبطت علينا فجأة فراحت تحرمنا من أبسط مستلزمات وممكنات الحياة العاديّة، أمس اشتقت كثيرا إلى أحفادي، ذهبت إلى بيتهم، طرقتُ الباب مرةً وأخرى، خرجت حفيدتي عمرها عشر سنوات، لم تفتح الباب بعد، قالت من يطرق الباب؟، قلتُ لها أنا جدّكِ لكن لا تفتحي الباب، تكلمي معي من وراء الباب، أجابت ببراءة، نعم أعرف أبلغوني ماما وبابا أنا وأخوتي أن لا نختلط بالآخرين حتى لو كانوا أقاربنا، فقلتُ لها نادي على أخوتكِ لكن إياك أن تفتحي الباب، أريد أن أسمع أصواتكم فقط!!!.
النعمة التي كنّا نعيش فيها قبل كورونا لم نكن نعرف قيمتها وثمنها، أليس كذلك؟؟؟؟؟
ولكن سوف تنتهي كورونا في يوم ما، وسوف يعود الناس إلى حياتهم الطبيعية، لكن، هل سيبقى درس كورونا حاضرا معنا، وهل نتعلّم من هذا الدرس، وهل سنؤمن ونقرّ بأن الحياة العادية التي نعيشها لا تُقدَّر بثمن؟؟!!!
اضف تعليق