أنْ تُبدعَ في مجالٍ ما فأنت إنسان مبدع ومتميز عن الآخرين، أما حين تكون إنساناً مبتكِرا فهذه ميزة أخرى كبيرة، ولكن الميزة الأكبر والأهم حين يكون الابتكار إنسانياً، بكلمةٍ أدقّ حين يأتي ابتكارك في خدمة هدف إنساني، وهذا هو ما حدث بالضبط...
أنْ تُبدعَ في مجالٍ ما فأنت إنسان مبدع ومتميز عن الآخرين، أما حين تكون إنساناً مبتكِرا فهذه ميزة أخرى كبيرة، ولكن الميزة الأكبر والأهم حين يكون الابتكار إنسانياً، بكلمةٍ أدقّ حين يأتي ابتكارك في خدمة هدف إنساني، وهذا هو ما حدث بالضبط، حين بادرت جمعية في تونس لمساعدة مرضى السرطان من الأطفال، فكيف تمَّ ذلك؟
هنا بدأتْ فكرة الابتكار، فقد فكّرت الجمعية بأعضائها من النساء بطريقة (التفكير خارج الصندوق)، أو خارج المتوقَّع، حين قرَّرنَ مساعدة الأطفال المصابين بالسرطان، المعروف أن من أعراض هذا المرض الخبيث هو تساقط شعر رأس المريض أو المريضة، وحتماً أننا سنتّفق على أن شعر الرأس يمنح الإنسان شكلاً مميزا، فكيف إذا كان المصابُ طفلا؟!..
كنتُ أنظرُ إلى وجههِ بحسرة وانكسار وألم، طفل في التاسعة من عمره، هائل الجمال، عيناه فيهما خضرة الحدائق الغنّاء، لكنَّ السرطان أطفأ تلك الخضرة المشعة، وبدا الشحوب يتجوّل في صفحة وجههِ المغمَّس بالاصفرار، جسده النحيل يشي بغطرسة المرض ولعنتهِ، لكنَّ المنظر الأشد وجعاً، فقدان الطفل لشعر رأسه بصورة تامّة، فبدا كالعجوز الأصلع، يإلهي كيف يمكن لطفل بهذا العمر وبهذا الجمال أن يذبل ويشيخ بهذه السرعة؟!
بماذا فكَّرت صبايا الجمعية التي ذكرتها في أعلاه؟؟، الجمعية المبتكِرة، بنسائها وفتياتها وصباياها الإنسانيات، لقد قرّرت الجمعية إطلاق حملة (تبرّعي بشعركِ)، فما هو الهدف من هذه الحملة؟، إنها تهدف إلى محاربة المرض الخبيث، ولكن كيف تتم هذه المحاربة، الأمر بسيط، لكنه فاعل ومؤثر وسوف يُلحِق هزيمة نكراء بسرطان الأطفال ويعيد إليهم ابتسامتهم ونضارة وجوههم وربما عودة الألق والسطوع في اخضرار عيونهم، بل قد يذهب الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد يُشفى الطفل من مرضه!!.
قبل إطلاق الحملة، اتفقت رئيسة الجمعية مع شركة متخصصة في صناعة (باروكة الشعر)، لإنتاج باروكات بشعر بشري، سوف تحصل عليه الجمعية من الصبايا والفتيات، شعر فتات أو صبية أو شابة أو امرأة حي، تقوم كل واحدة من المتبرعات بقص جزء من شعر رأسها وتحوّل الشعر المقصوص إلى ضفيرة، ثم تقوم بالتبرع بها إلى الجمعية.
إنها فكرة بسيطة فعلا، لكنها ترقى إلى درجة الابتكار، وما أن أطلقت الجمعية حملتها، وأوضحت للفتيات بأن القصد من هذا النوع من التبرع مساعدة الأطفال المصابين بالسرطان، حتى هبّت أعداد من الفتيات والصبايا للتبرع بضفائر بالغة الجمال، شَعرٌ حيّ لامع نظِر لدن، تحوَّل في غضون أيام قليلة إلى (فروات شَعر) لا تختلف عمّا يملكهُ الأطفال الأصحّاء.
بدأت الشركة بإنتاج الباروكات من الشَعر الذي تبرّعت به الصبايا والفتيات، وحملت الجمعية أعداداً من الباروكات، وزارت المستشفيات التي يرقد فيها الأطفال المرضى بالسرطان (ذكور وإناث)، وهناك زيارات إلى بيوت المرضى من الأطفال أيضا، انهزم السرطان شر هزيمة!.
طفلة في السابعة من عمرها، ظهرت في شاشة التلفاز، وهي ترتدي باروكة بشعر طبيعي من إحدى المتبرعات، عادت الحياة إلى وجه الطفلة، أشرقت عيونها، تلألأ الفرح في أرجاء وجهها، وشعَّ ثغرها بابتسامة عريضة مشرقة، لقد غاب الصلع، وعادت الحياة إلى شَعرِ رأسها، وعاد جمالها، وانطفأ قلق المرض الخبيث في أعماقها، كأنها شفيَتْ تماما، كيف حدث هذا الشعور بالتغلّب على المرض لدى الطفلة؟
إنها نظرت في المرآة لترى وجهها وقد عاد إلى ما كان عليه قبل أن يصيبها المرض، معافى وشَعر رأسها لم يتساقط، إنها ليست صلعاء، ولا تعاني من نقص أو انكسار أو خذلان، هكذا تحققت هزيمة السرطان.
هذه الطفلةُ المريضة سألت رئيسة الجمعية:
- ألا أبدو بشَعرٍ طبيعي؟
- نعم إنهُ شَعركِ الطبيعي عادَ إليكِ
- وهل أبدو جميلة؟
- بل أنت أجمل من السابق
- هل شفيت، أم ماذا، أشعر إنني شفيت من السرطان؟
ومثلُ هذه الطفلة عشرات الأطفال وربما المئات، عادت إليهم الحياة، عبر فكرة ليست صعبة، لكنها تقارب الابتكار، ولأنهُ عملٌ إنسانيّ بارع، يقارع مرضا خبيثا قاسيا، فهو عمل يستحق أن نُطلق عليه بالابتكار والإبداع، ومن الجدير بمن يهمهم الأمر أن يشيدوا بهذه الجمعية ومديرتها ومن ينتمي لها من النساء، فمن يفكّر بهذه الطريقة يستحق أن ندعمه ونقف معه بقوة كونه يصلح أن يكون نموذجا للجمعيات والمنظمات ولجميع الناس من النساء والرجال.
وأخيرا هذه دعوة لنا جميعا، علينا أن نفكّر دائما بمبادرات (خارج الصندوق) أو (خارج المألوف)، فبمثل هذه المبادرات الإنسانية، يمكننا أن نمنح الحياة معانٍ أخرى جديدة، تجعل منّا مجتمعات إنسانية متعاونة ومتقدمة، بالأفكار والابتكارات ذات الطابع الإنساني البديع.
اضف تعليق