لا توجد معضلة أيّاً كان نوعها أو حجمها إلا وكان حلُّها موجودا معها!، نبدأ بإصلاح (العائلة)، ونعود إلى أستاذ العلوم السياسية الذي درّسنا مادة (النظُم السياسية)، فهو نموذج للقائد والأب المتوازن، لا عنف، لا قهر، لا تكبّر، لا تسلّط من أي نوع كان، حرية في الرأي، في المناقشة...
تعودُ بي الذاكرة إلى أيام دراستي في جامعة بغداد، كلّية القانون والسياسة (هكذا كان أسمها سابقا)، كائنة في منطقة الوزيرية بالعاصمة، أستاذ النُظُم السياسية كان شابّاً متوقّد الذهن، بشوش الوجه، لسانه يقطًرُ عسلاً رغم جفاف المادة التي يدرِّسنا إيّاها، لا زلتُ أتذكّر جمال أسلوبه، وروح الفكاهة التي يتمتع بها، شخصيتهُ من النوع الجذّاب على خلاف أستاذ آخر أفسدت شخصيّتهُ الرغبة بالتسلّط على الطلاب!.
شتّان ما بين هذا وذاك، أستاذ مرح متفائل جميل المظهر، وجوهرهُ محبوب، يعطينا درسه الجامد بمادته في سلاسة وخفّة دم عجيبة، الآخر كان ذا شخصيّة متصنِّعة متبجّحة تريد أن تظهر لنا على غير حقيقتها، إنهُ مهزوز يشعر بالنقص، ويحاول أن يسدّ نقصهُ هذا بفرض سلطته (التعليمية) علينا، لكنه فشل فشلاً ذريعاً!.
لماذا نجح الأستاذ المرِح المتوازن المحبوب؟، ولماذا فشل الآخر الذي كان مصابا بعقدة التكبّر والتسلّط الفارغ؟، وهل يوجد في واقعنا التعليمي اليوم مثل هذين الأستاذين المختلفين؟
بالطبع لا يخلو واقعنا من هذين النموذجين، وربما هنالك شخصيات مختلفة في أدائها التدريسي، ولكن قد يكون أسلوب الأستاذين (التوازن/ التسلّط) هو الأكثر شيوعاً من حيث الشخصيات والأساليب، وإذا قمنا باستبيان ميداني في المؤسسة التعليمية، بدءاً من الجامعة نزولا حتى المرحلة الابتدائية، فإننا سنحصل على نتائج واضحة في هذا الشأن.
أستاذنا المرِح الذي درَّسنا النظُم السياسية كان يكرر علينا دائما، مقولة أو رأي علمي مفاده (إن الشخصيات القيادية غالبا ما تخرج من عائلات ديمقراطية، والعكس صحيح، أي أن العائلات التي تديرها سلطة أبوية متعالية تنتج أناساُ مُنقادين أو تابعين!)، إلى أي مدى يمكن أن يصحّ الرأي العلمي أعلاه على الواقع؟؟
أنا شخصيا لمستُ صحّة هذا الرأي في عائلات كثيرة أعرفها عن قرب، ولمستُ ذلك في أفراد عايشتهم عن قرب أيضا، فالطفل الذي ينشأ ويترعرع في وسط أُسَري غليظ الطبع عنيف ويجعل من التخويف منهجاً تربويا له، فإن الأبناء (ذكور وإناث)، سوف يسيطر عليهم الخوف منذ الطفولة، ويخشون التصريح بأفكارهم وآرائهم، ويبقون تحت رحمة من يقودهم، وإذا جاء (الحظ أو ثقافة المجتمع) لهم بقائد دكتاتور متسلط، سوف يخضعون وينفذّون الأوامر ويُستَعبَدون!.
هل يقودنا هذا إلى القول بأن التدريسي ذو الطبع الغليظ هو نتاج محيط أسري عنيف؟، الوقائع والأسانيد لا تستبعد ذلك، وتثبت بأن الأستاذ الديمقراطي الذي كان يدرّسنا مادة النظُم السياسية هو نتاج عائلة ووسط اجتماعي ديمقراطي، يتيح لأفراده في الأسرة الواحدة حرية التفكير ويسمح له بطرح آرائه ومناقشتها، وله حق الاعتراض على الأب رغم كونه (السلطة الأقوى) في العائلة، لكن الوسط الأسري يمكن أن نصفه بـ الديمقراطي الذي لا يجعل من الأب (سلطة مقدسة) لا يجوز مناقشتها أو معارضتها أو إبداء الرأي في حضرتها.
وإذا انتقلنا من الخلية الأصغر (الأسرة)، إلى خلية أكبر كالصفّ الطلابي مثلا، فإن الأستاذ هنا سوف يأخذ محلّ الأب في العائلة، ويمكن أن يكون الأستاذ متسلّطا أو عكس ذلك ديمقراطيا، هذا يتبع البيئة الأسرية والاجتماعية التي نشأ وترعرع فيها، أما إذا بالغنا بالصعود أكثر وأخذنا المجتمع أو الشعب كلّه، فإن الأب هنا هو (الحاكم أو الرئيس)، فإذا كان الحاكم دكتاتورا فإن شعبه سوف يكون مقهورا تابعاً، ويحتاج إلى عشرات أو مئات السنين كي يتحرر من تسلّط الحاكم كما قرأنا في تاريخ دكتاتوريات أفريقيا وأمريكا اللاتينية وفي الدول العربية.
أساس السلطة إذاً، هي الأسرة، أو سلطة الأب، منها تنبع جميع السلطات الأخرى، الأستاذ يخرج من العائلة، المدير الإداري أو غيره، كذلك الضابط والحاكم، نحن جميعا نتاج سلطة الأب، فإذا وعينا ذلك واتفقنا عليه، سنبدأ بوضع المعالجات السليمة الكفيلة بإضعاف وباء الاستعباد الذي يعصف بمجتمعاتنا!، هل نحن نبالغ في وصف العبودية أو الاستعباد بالوباء؟؟، كلا، ليست هناك مبالغة في هذا، إنه تاريخنا بأبعاده الثلاثة، وأيضا واقعنا السياسي يدلّ بما لا يقبل الشك، بأننا شعوب ومجتمعات تقع تحت طائلة العبودية أو الاستعباد!.
وإذا أردنا دليلا واحدا على ذلك، فبين أيدينا وأمام أنظارنا ومداركنا عشرات الأدلة التي تؤكّد بأن الملايين من أفراد شعوبنا يرزحون تحت (سلطة الأب) التي تفرْعنتْ بدورها وتفرَّعتْ إلى أذرع سلطوية أخطبوطية، خرجت منها سلطة (الأستاذ، المدير، الضابط، الحاكم)، ومئات الأنواع من السلطات الأخرى، هل نحن نبالغ؟؟ أقول مرة أخرى وأخرى، نحن لا نبالغ إنما نسعى إلى كشف الغطاء عن المستور السلطوي الأبوي وسواه.
الحلول، هل هناك حلول، بالطبع لا توجد معضلة أيّاً كان نوعها أو حجمها إلا وكان حلُّها موجودا معها!، نبدأ بإصلاح (العائلة)، ونعود إلى أستاذ العلوم السياسية الذي درّسنا مادة (النظُم السياسية)، فهو نموذج للقائد والأب المتوازن، لا عنف، لا قهر، لا تكبّر، لا تسلّط من أي نوع كان، حرية في الرأي، في المناقشة، في الاعتراض، ضمن قواعد أخلاقية عرفية قانونية علينا العمل على وضعها وتطبيقها ودعمها، لتحقيق الخلاص من وباء الاستعباد.
اضف تعليق