عندما ساءت الأمور في العراق في حزيران من العام الماضي، وبلغ الخطر حد تهديد الوجود، بعد ان اجتاحت العصابات الارهابية لما يسمى بداعش العراق، واحتلت مدنا من شماله وغربه، وصارت على مشارف بغداد، وسامراء، وبدأت تهدد وجود الوطن والشعب العراقي بالكامل، لم يعد هناك من سد يوقف هذه السيول الإجرامية المتوحشة، سوى قوة تمتلك (القول الفصل) في مواجهة التحديات الخطيرة التي باتت تهدد الوجود الوطني والشعبي، وهكذا كان الموقف الشجاع الذي اتخذته الحوزة العلمية، عندما أعلنت المرجعية الدينية في فتوى معروفة طالبة من ابناء الشعب، الجهاد (الكفائي) ضد المجرمين الارهابيين الدواعش، واهمية حمل السلاح والالتحاق في ساحات القتال، لكل شخص يمكنه حمل السلاح لمواجهة الارهاب.
ونظرا لمكانة المرجعية بين الناس، وقاعدتها الشعبية الواسعة، تدفقت حشود المتطوعين آلافا بعد آلاف، وغصت ساحات القتال بالمقاتلين، واطلقت فيما بعد تسمية (الحشد الشعبي) على جموع الرجال الذين لبوا نداء المرجعية، وتم تهيئة مستلزمات هذه القوات من اسلحة وذخيرة ومؤن ومعدات قتال وتدريب وما شابه، وبرز دور هذه القوة الضاربة، عندما تم فك الحصار عن (آمرلي) البطلة، وهي التي شكلت بداية الانتصار على الدواعش، واعلان هزيمتهم، إذ تبعت ذلك تحرير ديالى وتوابعها بالكامل، وبوشر بوضع الاستعدادات اللازمة لتحرير تكريت من دنس العصابات الارهابية، وتم ذلك بدور فاعل وأساسي لقوات المتطوعين من (الحشد الشعبي)، ثم تم تأمين بغداد بصورة كلية، وتحرير جرف الصخر وإبعاد التهديد عن بابل وكربلاء المقدسة، وتم تأمين سامراء ومراقدها المقدسة بشكل كامل.
كل هذا يعود في الحقيقة للكلمة الفصل التي اطلقتها المرجعية الشريفة، وهذا يدل بصورة قاطعة، على ان دور الحوزات العلمية في ضبط إيقاع الدولة والمجتمع، لا يتحدد بالحراك الديني حصرا، إنما يتعداه الى ما هو ابعد من ذلك بكثير، لاسيما أننا نجتاز مرحلة بالغة التعقيد، تنطوي على الكثير من المخاطر المصيرية المتداخلة، اقليميا ودوليا ومحليا، الامر الذي يستدعي دورا اساسيا للحوزات العلمية في هذه المرحلة بالذات، وهذا تحديدا ما ينبغي أن يفهمه القادة السياسيين في العراق من جميع الكتل والاحزاب والشخصيات السياسية الفاعلة، ولابد من اللجوء الى رؤية سياسية جديدة لطريقة التعامل مع المرجعية الدينية، ودورها في توجيه مسارات صناعة القرار، فلا يمكن أن يبتعد السياسيون عن هذه المسؤولية، ولا يمكن التغاضي عن أن (القول الفصل) يبقى في يد الحوزات العلمية ومرجعياتها الشريفة، ولابد من القول هنا، ان اي تصور او رؤية سياسية قيادية تحاول أن تتجاهل هذا الدور الرئيس، سوف يقود الدولة والشعب الى تراجع كبير في الامور المصيرية التي تتعلق بالوجود الوطني والشعبي.
وتذكيرا بهذا الدور الكبير، فقد دأبت المرجعيات الشريفة والحوزات العلمية، على توجيه النصح للسياسيين العراقيين، بصورة متواصلة، ومنتظمة عبر الخطب الاسبوعية التي تبث على نحو اسبوعي في كل يوم جمعة ظهرا بعد الصلاة في (خطبة الجمعة)، وقد خصص الخطباء من ممثلي المرجعيات الشريفة مساحات واضحة وكبيرة، تقترح على السياسيين كثيرا من التعاملات الواضحة مع الاحداث والظروف التي يمر بها البلد، ومن هذه المقترحات يحمل الاسباب والحلول ويتدخل في ادق التفاصيل، ويرسم خرائط العمل ويقدمها على طبق من ذهب للسياسيين العراقيين من اجل المباشرة الفورية في تصحيح ما هو خاطئ ومن المعالجات والمناهج والمسارات في ادارة الدولة وشؤون الرعية بصورة عامة.
ولكن لابد من وضع النقاط على حروفها في هذا المجال، ولابد من الصراحة التي ينبغي ان نحلل فيها هذه النقطة المهمة، ونعني بها، مدى تفاعل القادة السياسيين والمسؤولين مع توجيهات المرجعيات والحوزات العلمية، بخصوص الجوانب الادارية والسياسية وسواها، إننا في حقيقة الامر لاحظنا نوعا من غض الطرف من لدن السياسيين لملاحظات وتوجيهات المرجعيات والخطباء الأجلاء في الحوزات العلمية، وربما يحتاج قادتنا أن نذكرهم بوقفة المرجعية العظيمة، ازاء التهديد المصيري لوجود الشعب والوطن، ارضا وتاريخا وبشراً، وكلنا نتذكر بصورة دقيقة ما الذي حدث في حزيران من العام الماضي؟، وكيف تم معالجة الامور، ومن هي الجهة التي وضعت حدا للتداعيات الخطيرة التي افرزتها هجمات داعش الارهابية على مدن العراق، ولا يمكن لأي سياسي مهما بلغت به مكانته في الدولة او نوعية انتمائه أن يتنكر لهذا الدور الحاسم للحوزات العلمية في تعديل ميزان القوى والحاق الهزيمة بالدواعش وعصاباتهم، وحفظ ماء وجه الساسة العراقيين وصيانة الارض والعرض والبشر.
لذلك مطلوب من السياسيين، بعد مؤشرات تدل ان بعضهم يسعى الى العودة للمربع الاول، من خلال انشغالهم بمصالحهم مناصبهم وامتيازاتهم، وانشغالهم بالصراعات الأنانية الذاتية المصلحية فيما بينهم، مطلوب منهم أن يتذكروا ما حدث من اخطاء سياسية قبل وقت ليس بالبعيد، وعليهم أن يستمعوا لما تطرحه الحوزات والمرجعيات الشريفة من توجيها ومقترحات بناءة، لمعالجة الامور المتدهورة للبلد، لذلك لابد أن يؤمن جميع الساسة والعاملين في الحقل السياسي العراقي، بأن من يمتلك (القول الفصل) هو الحوزات العلمية، وأن نسيان مواقفها القريبة من لدن الساسة ليس في صالحهم على الاطلاق، ولذلك من باب اولى أن يتنبّهوا جيدا للحلول والبدائل المدروسة التي تقدمها لهم المرجعية والحوزات العلمية، وعليهم أن يلتزموا بها الى اقصى حد ممكن، حفاظا على الوطن والشعب والممتلكات، وحماية للطبقة السياسية نفسها من الانهيار.
اضف تعليق