شبكة النبأ: قضية بهذا الحجم والمدى، مثل قضية الامام الحسين، عليه السلام، ونهضته ومأساته وأصداءه المدوية عبر التاريخ والاجيال، هل يمكن ان تنحصر في أجواء الحزن والعزاء، حيث نستذكر المأساة ثم نسكب العبرات في مجالس الذكر والوعظ، وبعدها تقوم الهيئات والمواكب الخدمية بتقديم ما يلزم من الخدمات للزائر من طعام ودواء وسكن وغيرها...؟
عندما يتحدث العلماء والخطباء عن أبعاد النهضة الحسينية، و انها نهضة دينية – انسانية بامتياز، علينا التفكير في نفس الوقت بالارضية التي تحمل هذه الابعاد، فالحديث عن قيم ومبادئ تحملها النهضة الحسينية، مثل الحرية والعدالة والكرامة والفضائل الاخلاقية، ليست هي من المثاليات والافكار المجردة او الاحلام التي يتمناها البعض، كما هي التصورات والاستنتاجات التي توصل اليها مفكرون فيما مضى من الزمن، لوضع أطر ومنهاج لحياة الانسان. إنما هي من صميم واقع الانسان، وتعكس حاجاته ومتطلباته.
من اجل ذلك نحن نبحث خلال شهري محرم وصفر، عن هذه الارضية علّنا نتوصل الى الفائدة الممكنة من هذه النهضة العظيمة، في وقت يبحث الكثير خلال الاشهر العشر الاخرى من السنة، عن البدائل للواقع الفاسد والمرير الذي تعيشه الامة على اكثر من صعيد. فكان أن رسينا الى مرفأ الفكر النيّر لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- لنجد كتاباً تحت عنوان "الاستفادة من عاشوراء"، وقد ألفه سماحته في وقت متأخر، وتحديداً في عقد التسعينات من القرن الماضي، مما يعني أنه استشرف مستقبل الامة مع الشعائر الحسينية والطريقة الفضلى للتعامل مع هذه الذكرى العظيمة.
وفي هذا الكتاب يبين سماحته جملة من التوصيات تفيد الامة في حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، يمكن تحديد جانبين مهمين: الاول اجتماعي والآخر ثقافي.
مكافحة الفقر
ففي الجانب الاجتماعي يضع سماحته يده على جرحٍ عميق طالما عانى منه المجتمع دون ان يجد له علاجاً شافياً، ألا وهو الفقر والحاجة المادية لدى فئة لا بأس بها لسبب او لآخر. وإقامة مجالس العزاء والمواكب الخدمية على الطريق وغيرها من الفعاليات الحسينية خلال شهري محرم وصفر، تعد فرصة ذهبية للإسهام في مكافحة هذه الآفة الاجتماعية – الاقتصادية التي طالما شكلت عقبة كأداء في طريق تقدم وتطور البلاد الاسلامية. وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الشيرازي، بأن على الخطباء ومسؤولي الهيئات والمواكب الاستفادة من هذه الفرصة وتوجيه المجتمع لجمع التبرعات للمعوزين والمحتاجين، بل ان سماحته يذهب الى أبعد من ذلك، بأن يشمل العطاء الى غير المسلمين ايضاً، مقتدياً في ذلك بالنبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما سمح للكفار بالارتواء من ماء "بدر"، وفعل الشيء نفسه، أمير المؤمنين، عليه السلام، مع جنود معاوية في معركة صفين، وايضاً الامام الحسين، عليه السلام، - صاحب الذكرى- مع جنود ابن زياد، وقصته الشهيرة مع الحر والفرسان الذين كان يقودهم. وامامنا خطّة عملية واضحة المعالم لتنفيذ هذا البرنامج، حيث يوضح سماحته بأن جمع التبرعات، لا يكون بالطريقة التقليدية، بنشر الصناديق ثم جمع الاوراق النقدية وتوزيعها... إنما العمل وفق برنامج علمي يأخذ بنظر الاعتبار الحاجات الآنية والمستقبلية. يقول سماحته: "من الامور المهمة التي يجب ملاحظتها في صرف التبرعات، قانون "الأهم والمهم" و"الحسن والأحسن"، فالتبرعات يمكن ان تقدم الى المحتاجين والفقراء بصورة نقدية مباشرة، وقد يُعطى نماؤه بعد ان يوضع رأس المال في المضاربة، بأن يشترى برأس المال أملاكاً – مثلاً- ويستفاد من إيجارها لسد حاجات الفقراء، او حتى منحها للفقراء بالإيجار وحل مشكلة السكن المستعصية لديهم...".
طبعاً؛ هذا المثل يورده سماحته في مجال السكن، وهناك مجالات عديدة يمكن تفيد الفقراء في المجتمع وترفع عنهم وصمة الحاجة والعوز وتحل لديهم مشاكل نفسية وأسرية عديدة تعود بالنفع الكبير على المجتمع بأسره، أهمها توفير فرص العمل ومكافحة البطالة وايضاً التشجيع على التعليم ومواصلة الدراسة حتى المراحل العليا.
الظمأ الثقافي والفكري
أما الجانب الآخر، فان أجواء العزاء على مصاب الإمام الحسين، عليه السلام، تعكس في كثير من الاحيان الحاجة الماسّة الى البناء الثقافي والفكري، استناداً الى ان النهضة الحسينية بالاساس، هي نهضة الضمير والوجدان والعقل، فالامام الحسين، عليه الاسلام، وقبل ان يقع بين الجانبين السيف، استنهض في أهل الكوفة ضمائرهم وعقولهم في وقت واحد، لكن يبدو ان الاثنين كانا في إجازة...! فقد تحدث لهم بلغة الوثائق والأدلة بأنه الأجدر بالوفاء والطاعة من الأمويين الذين تسلطوا على رقابهم، فرموه بالسهام، كما تحدث لهم بلغة العاطفة عندما قدم لهم الطفل الرضيع وسألهم ان يسقوه الماء، فكان الجواب سهمٌ في في رقبة هذا الطفل ليطفئوا آخر ومضة ضمير وشعور انساني.
نعم؛ ربما تكون المنابر والمواكب وغيرها خلال شهري محرم وصفر، مؤدية لدورها في ترسيخ معادلة "العِبرة والعَبرة"، و"العقل والعاطفة" في النفوس، بيد أن الناس بحاجة الى ترسيخ هذه المعادلة لما يفيدهم في حياتهم على طول الخط. وهذا ما تقوم به المؤسسات الثقافية في الوقت الحاضر، من كتابة وتأليف ونشر، مستفيدين من آخر تقنيات وسائل الاتصال. والقضية لا تنحصر في وجود هذه المؤسسات إنما المهم في التحقق من مسألتين أساس في العملية الثقافية، وهي "الكمّ والكيف"، حيث يصف سماحته الحالة بأن "المؤسسات الاسلامية تعيش أزمة في الجانب الكمّي والجانب الكيفي". ويؤشر سماحته الى "النقص الكبير في عدد المؤسسات الاسلامية والثقافية والعبادية والاجتماعية للمسلمين في العالم الاسلامي ولدى الجاليات الاسلامية في البلاد الاخرى...".
ولسماحة الامام الراحل طموحٌ كبير في هذا المجال، وهو يحرص على أن تكون للمسلمين الخطوات السريعة للحاق بالمسيحيين الذين أغرقوا العالم بالمؤسسات والهيئات الاجتماعية والثقافية والانسانية وحتى جمعيات الرفق بالحيوان وغيرها. لذا فهو يدعو من خلال موسم محرم وصفر، الى حثّ الناس على المشاركة والمساهمة في تهيئة الوسائل والمقدمات لإقامة هكذا مؤسسات تخدم الفكر والثقافة التي لا يوجد نظير لها في القرب من الانسان والمطابقة مع حاجاته وتطلعاته وفطرته. ويطمح سماحته بأن يكون للمسلمين (100)ألف مؤسسة في العالم في كل عام، من خلال إحياء ذكرى الامام الحسين، عليه السلام، ومنتهى طموحه، بأن يكون خلال خمسة عشر سنة، للمسلمين ما يقارب العدد الذي لدى المسيحيين من المؤسسات حول العالم، وعددها – يقول سماحته- مليون ونصف المليون مؤسسة في العالم"!
من هنا يمكن القول إن العمل الثقافي الفكري خلال هذين الشهرين، يعد بالحقيقة استحقاقاً أكيداً، وليس من باب كسب الأجر والثواب عندما يكون الامر متعلق بالمآتم والفعاليات الحسينية الاخرى. فالزيارة الاربعينية، بل جميع الزيارات المليونية الخاصة بالإمام الحسين، عليه السلام، سيكون لها مفهوماً جديداً ومعاني ودروس تفيد المعزين والمؤمنين، بل المسلمين جميعاً في حياتهم وما يعيشونه من أزمات ومحن لا تعد، ثم تجعلهم على الطريق الذي يستشرفون فيه آفاق التقدم والتطور.
اضف تعليق