تعتمد آلية العنف كما قلنا سابقاً على إثارة الخوف والرعب لدى المعسكر الآخر عادة ومن ثم تفتيته والقضاء عليه. ولكن الرعب الذي يثيره العنف لا يحقّق الأهداف المرجوّة غالباً لأنه لا يقضي عليه بل يستفزه نحو اتخاذ رد فعل أعنف يدافع فيه عن كيانه لأنه صراع بين البقاء والزوال، خصوصاً وأن الجانب الآخر قد يملك امكانيات أكبر تعطيه القدرة على القضاء عليهم، بالإضافة إلى أن السلطات تستفيد من عنف الجماعات في تحشيد الشرعية والقانونية لقمعها والقضاء عليها.
وما أكثر الجماعات التي تحطمت تحت مطرقة العنف الذي تحوّل إلى سلاح ضدها استثمره الطرف الآخر لتصفيتها. وعندما يتحوّل الصراع السياسي والاجتماعي إلى لعبة بين السلطة والمعارضة فإنّ هذا الأمر يقود نحو تصعيد عنيف لا يمكن إيقافه بسهولة، لأن العنف يثير قسوة الانتقام على أرض يسيطر عليها الرعب ولا تعرف للثقة والسلام معنى. فالعنف «وجه مخدّر سريع الزوال يحتوي على بذور تفجّر النظام السياسي والاجتماعي في أقرب فرصة ممكنة فالعنف يدعو إلى العنف المضاد»(1).
وفي بعض الأحيان يعمد النظام الحاكم إلى إثارة العنف لاصطياد المعارضة في لعبة العنف المضاد من أجل القضاء عليها وتصفيتها بصورة قانونية أو تشويه صورتها ومبادئها بعد أن تلطخها بالدماء. وهناك «ثمة مقولة شائعة مفادها أن (العنف يولّد العنف) فأي نظام سياسي لا يمكن أن يتهاون كثيراً بشأن أعمال العنف غير الرسمية التي تشكّل تحدياً له وفي ظل هذه الحالة يكون النظام مستعداً للانخراط في ممارسة العنف الرسمي إلى نطاق واسع»(2).
إن أكبر خسارة تتكبدها الجماعات ذات الطابع العنيف هو دخولها في لعبة العنف والعنف المضاد المتصاعد بوتيرة حادّة مما يعجل بانتهائها وتصفية وجودها التنظيمي والسياسي والرسمي. لذلك فقدت إحدى الحركات قائدها المؤسِّس في عملية عنف مضاد قام بها النظام الحاكم رداً على عمليات اغتيال قام بها الجهاز السري الخاص بها، لذلك فإن «الضربات المتتالية التي تعرض لها النظام الخاص بسبب عمليات العنف التي قام بها من قبل السلطة السياسية في مراحل تاريخية مختلفة قد عرّضت الحركة إلى كثير من المحن والأزمات»(3).
العنف أولاً وأخيراً
إنّ الاتجاه المتصاعد للعنف حسب خصائصه الذاتية لا يترك مجالاً لأي استراحة يمكن أن تكون منفذاً لدخول السلم وحصوله على فرصة لإحلال الهدوء وحل المشاكل بالطرق السلمية. لذلك فان الجماعة التي تستخدم العنف كتكتيك مؤقت في حركة التغيير لا تستطيع عادة أن تتخلّص من عقدة العنف الذي تغلغل بنيوياً -كما ذكرنا ذلك سابقاً- فالأفعال الإنسانية تبقى آثارها وتنطبع ملامحها بحيث تحفر مميزاتها على السلوك الفردي والعام، فليس هناك انفصام فعلي بل هو تداخل ينفذ إلى أعماق النظام السلوكي الفردي والاجتماعي، ومن هنا فإن «ممارسة العنف مثل كل فعل آخر من شأنها أن تغير العالم لكن التبدّل الأكثر رجحاناً سيكون تبدلاً في إتجاه عالم أكثر عنفاً»(4) فالعنف يصبح ممارسة يومية لاغنى عنها يسيطر على كافة نشاطات الجماعة، وبما أن العنف والسلم فعلان متضادان فإنهما لا يجتمعان على صعيد فعلين منفصلين ولا على صعيد التجزء والتركيب حيث لا حالة ثالثة تتشكّل بينهما أو من كلاهما -على سبيل المثال ليس هناك حالة ثالثة بين الصدق والكذب- وفي حديث عن الإمام أمير المؤمنين (ع): «لا يجتمع العنف والرفق»(5).
إن «خطر العنف يتمثّل أولاً: في خطر الاستعمال الواسع للعنف المؤدّي في النهاية إلى تغليظ قلوب الذين يستعملونه وإصابتهم بالتلبّد الحسي أزاء بعض الظروف والحالات التي يمكن حسمها باللطف واللباقة بدلاً من القوّة»(6). ومن هنا فإن استخدام العنف يترك أثراً سلبياً على الحركة التغييرية وهو عدم قدرتها على استبدال العنف بالسلم في الوقت المناسب، إذ «أن القبول بحتمية العنف يقود إلى إستعمال العنف حتى في الحالات التي يمكن أن تفلح في حلّها الوسائل السلمية»(7).
المكاسب والخسائر
إذا كان استعمال العنف هو استعمال قائم على كونه مجرّد تكتيك وأداة للوصول إلى الهدف وليس هو الهدف بحدِّ ذاته، فإنه يجب حساب المكاسب التي يحصدها العنف وهل أنها أكثر من الخسائر التي يجنيها..!
عملية المحاسبة يجب أن لا تتم على ضوء المنافع الشخصية للجماعة أو قادتها، إذ المفروض أن الكلام في أثر العنف على الحركة التغييرية ذات الأبعاد الحضارية أو الدينية أو الاجتماعية. إن نظرة على واقع ما خلفه العنف من آثار يوحي بوجود خسائر كبيرة نالت تلك الجماعات تفوق بكثير ما يتوهّم أنه مكاسب، أهمها أنها تخسر وجودها الرسمي واعتبارها العرفي والجماهيري. نعم «إن بإمكان العنف أن يدمّر السلطة دائماً فمن فوهة البندقية تنبع أكثر القيادات فاعلية مسفرة عن أكثر أشكال الطاعة كمالاً، أما ما لا يمكنه أن ينبع من فوهة البندقية فهو السلطة. إن إحلال العنف محل السلطة قد يحقق النصر لكن الثمن يكون مرتفعاً جداً لأن من يدفعه لا يكون المهزوم وحده بل يدفعه كذلك الطرف المنتصر وعلى حساب سلطته الخاصة»(8).
فالعنف ليس إلا استنزاف غير مجدي يشلُّ الحركة ويقضي على إمكانياتها ويزعزع الروح المعنوية للأفراد إنْ لم يقضِ على وجودها الخارجي. وفي بعض الأحيان فإن ما يخلّفه العنف أكبر من أن يعد من الخسائر فكلمة عنيفة أو موقف حاد أو عملية مسلحة كفيلة بإشعال أزمة سياسية أو اجتماعية أو حرب ضروس، «إن منظمة الكف الأسود الصربية قد قتلت ولي عهد النمسا وزوجته في سيراييفو فكان لهذا العمل نتائج رهيبة وفائقة الحد، أن جرّ الويل على أكثر دول العالم وأدّى إلى عشرة ملايين قتيل»(9).
إنّ من خواص العنف أنه لا يخضع إلى حسابات الربح والخسارة أو النجاح والفشل، لأنه موقف انفعالي خاضع لظروف نفسية تحرّكها دوافع الانتقام أو الاحباط أو أنه موقف آيديولوجي يعتمد على تقديس الفكرة لنفسها. ومع هذه الأرضية في استخدام العنف فإنه يمثّل الخسارة من الوهلة الأولى إذ أنه ليس عملاً منظّماً خاضعاً لحسابات منطقية في أغلب الأحيان وليس مناورة سياسية قادرة على استثمار الظروف لخدمة القضية، والحال أن «النصر الحقيقي هو إجبار العدو على التخلّي عن مخططاته بأقل تكاليف ممكنة»(10).
وقد قال أمير المؤمنين (ع): «لا عيشَ لمن لا رفق له»، ويقول الإمام الشيرازي: «إن السّلام أحمد عاقبة وأسرع في الوصول إلى الهدف، السلم والسلام والمسالمة أصول توجب تقدّم المسالم بينما غير المسالم والعنيف دائماً يظل متأخراً»(11).
اضف تعليق