مجتمع مدني
منذ فجر الإسلام، في مطلع القرن السابع الميلادي، وتبلور المجتمع الإسلامي في يثرب ثم مكة، وانتشار الإسلام إلى سائر المناطق الأخرى، كان أتباع الأديان اليهودية والمسيحية وغيرها، يعيشون في البلاد الإسلامية إلى جانب المسلمين، ولم يشعر الإسلام بحاجة إلى تهجيرهم أو فرض الانتماء إليه فـ(لا إكراه في الدين)، فكان التعايش بين الجميع تعايشاً سلمياً، بل عيشاً سلمياً، وكأن الجميع على دين واحد.
يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): "كان المسلمون، واليهود، والنصارى، والمجوس، والمشركون، بل كل البشر يعيشون في ظل الإسلام عيشة محترمة هانئة، في عزة ورفاه في عصر علي (عليه السلام)، وقد أثر عنه (عليه السلام) في هذا المجال: (الناس إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)، وهذه الكلمة الفذة العظيمة الخالدة التي تفسح المجال لاحترام البشر بما هو بشر، لكي ينظر إليه الناس من هذا المنظار فتجمعهم جميعاً كلمة العدل وحق الإنسانية".
وقد تحقق الوئام والسلام لجميع أفراد المجتمع في حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام)، بفضل مرتكزات الإسلام الإنسانية القائمة على احترام حقوق الجميع، ومنها حقوق الآخر وحقوق الأقليات.
يقول الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده) في موسوعته الفقهية، كتاب (السياسة): "إن الأقليات غير الإسلامية محترمون نفساً ومالاً وعِرضاً، إذ أن الإسلام لا يتعرض لهم بسوء ويدافع عنهم، فالإسلام لا يجبر أحداً على اعتناقه، ولذا قال (عز وجل): (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين)". وهو ما يتماهى مع مستحدثات العصر في المجتمع المدني وحقوق الإنسان وما إلى ذلك مما يعدُّها بعض أنها من مبتكرات القرن العشرين.
مشروع إنساني
وكان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يحترم إنسانية الكفّار والمشركين ويحفظ لهم كرامتهم وحقوقهم، مع أنهم كانوا يؤذونه كثيراً، ويقول (صلى الله عليه وآله): (من آذى ذميّاً فقد آذاني). وقوله (صلى الله عليه وآله) هذا، عنوان كبير لدولة الإنسان التي تحترم الإنسان.
يقول الإمام الشيرازي (قده) في كتابه احترام الإنسان في الإسلام: من أهم الأمور التي أكد عليها الإسلام تأكيداً بالغاً، هو احترام الإنسان بما هو إنسان، مع قطع النظر عن لونه ولغته وقوميته ودينه ورأيه، فالإسلام يؤكد على احترام كل الناس حتى إذا كانوا كفاراً غير مسلمين، لأن الإنسان بما هو إنسان محترم، والقرآن الكريم يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).
يقول المرجع الشيرازي (دا ظله): "رغم كل ما فعله المشركون من أهل مكة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا أن التاريخ لم يسجّل ولا حالة واحدة أجبر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذمياً على اعتناق الإسلام".
ولقد سار الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على سيرة أستاذه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فدعا (عليه السلام) لمشروع إنساني قيمي، يقوم على مبادئ، قد جاء بها الإسلام، فكان (الآخر) في منهج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، هو أخ في الدين أو أخ في الإنسانية، ويذهب أبعد من ذلك، فهو يقبل بالعدو، ويعامله بالحسنى والعطف، والإعراض عن الإزدراء به، وسلبه مكانته الاعتبارية.
وكان العدل أساس حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن ذلك ما أوصى به ولاته في أهل الكتاب، ومنهم اليهود الذين وصفهم القرآن الحكيم بأنهم (أشد الناس عداوة للذين آمنوا).
أخرج الكليني في (الكافي) بسنده عن رجل من ثقيف، وكان من عمال أمير المؤمنين، قال: استعملني علي بن أبي طالب على بانقيا وسواد من سواد الكوفة، فقال (عليه السلام) لي: (إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج أو تبيع دابة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو).
وجاء في كتاب (وسائل الشيعة): إن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يمشي في سكك الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس، فوجه الإمام السؤال إلى من حوله من الناس قائلاً: ما هذا؟ فقالوا: إنه نصراني كبر وشاخ ولم يقدر على العمل، وليس له مال يستعيش به، فيكتنف الناس. فقال الإمام في غضب: استعملتموه على شبابه حتى إذا كبر تركتموه؟ ثم جعل الإمام لذاك النصراني من بيت مال المسلمين مرتباً خاصاً ليعيش به حتى يأتيه الموت).
حريات كاملة
كان عصر علي بن أبي طالب (عليه السلام) عصر الحرية الواسعة، وقد جاء بعد عهد عثمان، وكان عهداً مليئاً بالقمع والقسوة، فلم يجد فيه الصحابي الجليل أبي ذر (رضوان الله عليه) الذي أطراه رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) في أحاديث يرويها السنة والشيعة، كان لا يجد متسعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): "الحرية الإسلامية التي فسح لها المجال أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت أشبه شيء بالحريات التي منحها رسول الله (صلى الله عليه وآله) للناس في مفتتح الإسلام، فكان يعيش في المدينة المنورة وحواليها بجنب المسلمين المشركون، واليهود، والنصارى، والمنافقون، مختلطين في دورهم وأسواقهم يتعاملون ويمارسون حرياتهم المتبادلة في ظل الإسلام العظيم".
اضف تعليق