لقد تحدث عنه الآخرون الأبعدون، قبل أن يتحدث عنه الأقربون، وتلك ميزة الشخصيات التي اتفق المؤرخون الحياديون المنصفون على تخليدها، إنه الامام علي (ع)، فارس السلم والحلم، هنالك شخصيات تتسم بالشجاعة حتى منتهاها، وهنالك الحلم، والحكمة، والصبر، والإرادة الحديدة، والنزعة الإنسانية في تقدير الأمور والنظر الى مشكلات الناس، وهناك الإنحياز التكويني للخير، ومراعاة حقوق الأيتام، ووضع الفقراء على رأس قائمة إهتمام السلطة.
هذه هي بعض الصفات والسمات التي يتحلى بها فارس الاسلام، (داحي باب خيبر)، والذي هوى بين قدميه (عمرو بن ود عبد العامري)، عملاق الكفار، الذي جندله الامام علي وأسقطه أرضا بطولهِ وعرضهِ وعنجهيته وكبريائه الأجوف، فسقط معه الكفر كله، وكُسرت شوكة المشركين، ومضى الاسلام في طريق القوة والانتصار، وجميعنا نعرف أو سمعنا كيف حدثت قصة مقتل عمرو في معركة الخندق، وكيف أصرّ الامام (ع) ثلاث مرات على مبارزة (العامري)، في وقت صمت الجميع وكأنّ الطير حطّ على رؤوسهم، وعندما أذِنَ الرسول (ص) للإمام بالتقدم الى عمرو لمبارزته، دار بينهما حوار قبل القتال، ثم بدأت المعركة في سجال وقتال، وكان الغبار الكثيف يلف المشهد، ثم بدأ تكبير الامام علي (ع) بصوت عال منبثقا من بين غبار المعركة، فعرف الجميع أن المبارزة انتهت بمقتل عمرو بن ود عبد العامري، حيث ذكر الشبلنجي في كتابه (نور الابصار : 79) أبياتاً لعمرو يقول فيها قبل بدء المبارزة:
(ولقد بححتُ من النداء لجمعكم هل من مبــارز
ووقفت إذ وقف الشجاع مواقف القرن المناجــز
وكذاك إني لـم أزل متدرعـاً قبل الهــــــــــــــــــــــــــــــزاهـز
إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز
فأجابه علي (عليه السلام) :
لا تعجلنَ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نبهة وبصيرة والصـدق منجى كلّ فـائــــــــــــز
إنـي لأرجو أن أقيم عليك نائحـة الجنـائـــــــــــــــــــز
من ضربة نجلاء يبقى ذكرها عند الهزاهـز)
وهذا الذي حدث بالفعل/ حيث انجلى الغبار عن مصر العامري وهروب جيش الشرك كله من ارض المعركة.
كل هذه العزيمة والقوة والإرادة الفولاذية، يتواجد معها حس إنساني فريد، لا نجده إلا عند أئمة أهل البيت عليهم السلام، فمع الشجاعة بأقصى درجاتها، ومع الحرص على مقارعة أعداء الاسلام، لكن تبقى الرأفة والحلم علامة فارقة في سلوك وأفكار أهل بيت النبوّة المطهرة، ومع الايمان والقدرة المادية والمعنوية الهائلة على القتال، لكن يبقى الحلم هو الميزة الأساسية التي نجدها في شخصية الامام علي عليه السلام وصارت من أهم سياسات قائد دولة المسلمين الاعلى، حيث الحرص على العدالة والمساواة.
يقول الامام علي بن ابي طالب عليه السلام: (الْسِّلْمُ ثَمَرَةُ الْحِلْمِ) وتعنى أنّ الناس مع الحليم في مقام صلح وسلم دائمي، لا يصل إليهم منه أذى. أو أنّ ثمرة حلم الحليم أن يزول عمّن تأذّى وانزعج منه أذاه وانزعاجه ويعود إلى سلمه وصُلحه وصفائه.
فثمة دعوة للامام (ع) يدعو فيها الناس جميعا الى التمسك بالسلام والجنوح إليه كما تطالب بذلك تعاليم الاسلام، ومع هذه النصيحة هناك تحديد للطريق الذي يفضّل للانسان أن يسير فيه، ويحدده الامام (ع)، بطريق الرفق (والليونة) أو اللين، والانسانية في أسمى معانيها، فطريق الرحمة والحرص على الناس الآخرين لا يمكن الوصول له إلا بواسطة الرفق واللين والرأفة، وهي من أعظم السمات والخصال التي تتميز بها شخصية القائد الأعلى لدولة المسلمين علي بن ابي طالب (ع)، الذي طالما دعا الآخرين الى السلم وهو في أقوى حالاته وجهوزيته من حيث العدّة والعدد، وقوة الدولة التي تعدل أضعافا من دول اليوم في مساحة الأرض او عدد النفوس.
ومهما يكن الأمر فالتعامل الانساني لا يصح أن يغيب عند الانسان، وهناك معادلة تقول، كلما علا مركز الانسان الوظيفي ومركزه الاجتماعي وتضاعفت قدراته، بات لزاما عليه أن يكون أكثر رفقاً ولينا ورحمة في التعامل مع الآخرين.
هذا هو مبدأ الامام علي (ع) الذي طبقه طيلة حياته، لاسيما في فترة حكمه، وهو منهج أخذه ودرسه في حضرة بيت النبوة، عندما كان الامام (ع) تلميذا عند أخيه وابن عمه رسول الله (ص)، ثم بات منهجا لجميع أئمة أهل البيت عليهم السلام، وانتقل الى أتباعهم الخلّص الصادقين، حيث يلتزم هؤلاء بهذا المنهج الى يوم الدين.
وقد ورد في غرر الحكم، عن الامام علي بن ابي طالب عليه السلام: (الْرِّفْقُ يُؤَدِّي إلى السِّلْمِ). أي أن الرفق واللين مع الناس يؤدّي إلى السلم، أي أنّه يسبّب مسالمة الناس للشخص وعدم تأذّيهم منه، أو أنّ الرفق بمن انزعج وتأذّى يؤدّي به إلى الرضا والصلح، ويبعث على مُسالمته سريعاً، وهو أسلوب حياة عُرف به فارس الاسلام.
فالقوة لا تعني التجاوز على الناس، وسلطة المسؤول لا تخوله حق ظلم الرعية، وما قام به الامام علي (ع) هو عكس القوة والتسلط تماما، فقد كسر شوكة السلطة، واحتقرها، واصطف الى جانب الفقراء والضعفاء والأيتام والأرامل، مقدما بذلك درسا خالدا في الانسانية، للمسلمين أولا وللعالم أجمع، في كيفية تحويل القوة والفروسية الى رحمة وحلم وانسانية.
اضف تعليق