q

اختلف العلماء والمفكرون على كون المظلومية عامل قوة أم مدعاة للضعف؟، الذين تناولوا القضية من الناحية العلمية وواقعية، توصلوا الى أن المظلوم قرين الخاسر والمهزوم، فلا نصيب له من القوة بشيء، بل ان مصيره الفناء او الرضوخ للأقوى في أفضل الحالات، كما ذهب الى ذلك فلاسفة ومفكرون، قالوا بأن "البقاء للأقوى" وأن القيادة والرئاسة تكون للأقوى مالاً وأعزّ نفراً، أما الاقل شأناً فانه يكون في الدرجات السفلى من هيكلية الدولة، لانه يعجز أن يكون العقل المفكر او الرأس المدبّر...!، وذهب المفكر الصهيوني من أصل بولندي "فلاديمير جابوتنسكي" أبعد من ذلك عندما قال: "العالم لا يشفق على المذبوحين لكنه يحترم المحاربين".

بينما اذا قرأنا المفهوم (المظلومية) رسالياً – إن صح التعبير- وجدناه مصنعاً منتجاً لعوامل القوة الانفجارية من شأنها تغيير أحوال شعوب وأمم، ورسم خارطة طريق حضارية، وهذا ما كشف عنه سماحة الفقيه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- من خلال قراءته الدقيقة لسيرة الصديقة الزهراء، عليها السلام، حيث تتزامن ذكراهما في وقت واحد، فقد وجد في مظلومية الصديقة الطاهرة، وقضيتها المدوية، عامل قوة هائلة لمواجهة الاعتداءات السافرة التي تعرضت لها من قبل السلطات الحاكمة آنذاك.

فالقوة هنا، لم تكن مالية او عسكرية او مخابراتية ولا حتى في المكانة الاجتماعية، لأن الذي حدث بعد وفاة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله- تجاوز حدود قرابة النبي، التي أوصى بها القرآن الكريم، لأهل بيته، إنما كانت القوة في حالة المظلومية التي كانت عليها الزهراء عندما اجتمعت عليها تجاوزات عديدة، أبرزها الهجوم على دار أمير المؤمنين، عليه السلام، بغية إجباره على البيعة، والتطاول على الصديقة الطاهرة، ثم سلب حقها في أرض فدك الزراعية.

ولمن يراجع الخطبة الفدكية يجد أن هنالك إضاءات شديدة لمن ألقى السمع وهو شهيد، على مر الاجيال، بأن أولئك النفر من طلاب السلطة لا علاقة لهم بالاسلام ومبادئه وقيمه التي جاء بهار سول الله، وضحى وجاهد من أجلها، إنما هنالك مبادئ خاصة بهم. فهم "لا يمثلون الاسلام ولا النبي الأكرم". ونقل سماحة الفقيه الشيرازي، عن أشخاص استبصروا بسبب هذه الخطبة المدوية.

لنفترض أن هنالك خطة عسكرية او مخابراتية او أي شيء آخر يفضي مواجهة أولئك المدعين الاسلام أو حسب وصفهم "الخلافة" هل كانوا قادرين على إماطة اللثام وكشف زيف تلك الادعاءات؟، وقبل الاجابة؛ حضرتني التفاتة عجيبة من المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في إحدى مؤلفاته يوصي بعدم استخدام سلاح العدو في المواجهة، لانه "سلاح لا يقودك الى الانتصار"، والسبب واضح جداً وبسيط، فاذا كنت تطلق الرصاص وتلقي بالقنابل وتفعل ما تفعل بهذا السلاح، بالتأكيد الطرف المقابل الذي صنع هذا السلاح سيكون أقدر وأسبق على استخدامه، اذا لم نقل باستخدام أسلحة اكثر تطوراً وفتكاً، نعم؛ يتقبل البعض القضية، من منطلق الدفاع عن النفس وهذا وارد عقلاً ومنطقاً.

إذاً استخدمت الصديقة الطاهرة سلاحاً غير معهود في التاريخ، فقد كان خروجها من البيت، بتلك الهيئة الشجية، ودخولها مسجد رسول الله، وأنينها المفجع، وخطبتها الصاعقة ومواقفها البطولية الاخرى التي استمرت حتى الرمق الاخير، شكلت أدوات مواجهة ما تزال القوى الاخرى في الساحة في حيرة قاتلة من أمرها كيف تواجهها وتخرج بسلام.

هذه المظلومية لم تكن صفحة في التاريخ، إنما هي أصداء مدوية مع الزمن، والى ذلك يشير سماحة الفقيه الشيرازي عندما يشير الى مسألة مرقد الصديقة الطاهرة، والحكمة البالغة في إبقائه مجهولاً بوصية منها، عليها السلام، وما يزال، والى يوم القيامة. هذه المجهولية بحد ذاتها – يشير سماحته- تؤشر الى وجود جمرٌ مستعر تحت الرماد، مع وجود مقابر معلومة لمعظم الشخصيات البارزة في صدر الاسلام، بيد أن العالم يقف حائراً أمام عدم وجود أثر لمرقد ابنة رسول الله.

ليس هذا وحسب، إنما تحولت هذه المظلومية الى مدرسة متكاملة، كان أول من تخرج منها، الامام الحسين، عليه السلام، وما صنعه في وادي الطف، ثم جاء من بعده الامام الكاظم، عليه السلام، فما حصل في كربلاء، صنعته سيوف البغي والانحراف الأموي، وما حصل في بغداد، صنعته السجون والاضطهاد العباسي.

هذه المظلومية واجهت قوة ليست من نوع قوة الحكومات اليوم، إنما قوة استثنائية مترامية الاطراف، حيث الرقعة الجغرافية والثروات الهائلة والقوة العسكرية، والأهم من كل شيء، "الشرعية" فكانت تساق لهم الرقاب طوعاً وكرهاً. ولكن كل تلك القدرات تلاشت واضمحلت أمام مظلومية من نوع خاص تصحح ما يعلق في أذهان البعض بأنه مدعاة للضعف والهشاشة في ساحة المواجهة.

وهذا تحديداً ما تسعى اليه الدوائر الاجنبية ترويجه في الساحة الاسلامية ونشره في الاذهان، بأن من يريد الغلبة والانتصار عليه أن "ذئباً قبل ان تأكله الذئاب"، وفي هذه الحالة لن يكون هنالك حق ولا باطل، ولا ظالم ولا مظلوم، إنما الجميع متساوون في تقاسم أوزار المعركة من دمار ودماء. بينما المظلومية التي تعلمنا إياه الصديقة الطاهرة، واهل البيت، عليهم السلام، هي التي تعطي الانسان القوة والثبات على مبادئه وقيمه ولا يخسرها لمجرد ضغوط سياسية او اقتصادية او غير ذلك.

اضف تعليق