عندما نتصفح السيرة المشرقة للإمام نكتشف حبه الشديد للعمل التطوعي، وتمسكه بأخلاقيات العمل التطوعي في أعلى مراتبه ودرجاته؛ وهو القدوة الحسنة في عمل التطوع، وفعل الخيرات، ومساعدة المحتاجين والفقراء والأيتام والمساكين، وقضاء حوائجهم، وحل مشاكلهم. وقد عُرف الإمام بين الخاصة والعامة بالكرم والجود والسخاء والعطاء، والبرِّ والإحسان إلى الفقراء...
العمل التطوعي ركيزة مهمة في تنمية المجتمع وتطويره، والارتقاء به في مختلف الأصعدة والمجالات، لأنه يساهم في توليد الأجواء الإيجابية والمحفزة عند أفراد المجتمع للمساهمة الفاعلة في دفع عجلة التقدم والنهوض الحضاري بالمجتمع.
ويعزز العمل التطوعي من القيم الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة كقيم التراحم والتماسك والتكافل الاجتماعي، وكقيم العطاء والإيثار والبذل والكرم والسخاء من أجل إسعاد الآخرين، وإشاعة البهجة والسعادة في المجتمع.
وكلما ازدادت مؤسسات ومراكز وجمعيات العمل التطوعي، وتنوعت مجالاتها واهتماماتها، واستقطبت أكبر عدد من المتطوعين والمتطوعات؛ استطاعت أن ترتقي بالمجتمع، وتلبي احتياجاته، وتعالج نقاط الضعف فيه، وتعزز نقاط القوة التي تخلق من المجتمع مجتمعًا فاعلًا ومتقدمًا ومعطاءً.
وللعمل التطوعي أخلاق وآداب ينبغي على العاملين فيه أن يتحلوا بها حتى تتحقق الأهداف المرجوة منه، وينمو ويستمر ويدوم؛ وأما إذا غابت القيم الأخلاقية عنه فيؤدي إلى ضعفه، وربما أدى إلى نتائج سلبية وإفرازات سيئة.
أخلاق التطوع عند الإمام زين العابدين (عليه السلام)
عندما نتصفح السيرة المشرقة للإمام زين العابدين (عليه السلام) نكتشف حبه الشديد للعمل التطوعي، وتمسكه بأخلاقيات العمل التطوعي في أعلى مراتبه ودرجاته؛ وهو القدوة الحسنة في عمل التطوع، وفعل الخيرات، ومساعدة المحتاجين والفقراء والأيتام والمساكين، وقضاء حوائجهم، وحل مشاكلهم.
وقد عُرف الإمام (عليه السلام) بين الخاصة والعامة بالكرم والجود والسخاء والعطاء، والبرِّ والإحسان إلى الفقراء والأيتام والمعوزين والمحتاجين؛ فكان (عليه السلام) من أسخى الناس وأكرمهم، وأنداهم كفًّا، وأكثرهم جودًا، وأشدهم برًّا ورحمة بالفقراء واليتامى والمساكين، وكان يحب مجالستهم ومصاحبتهم، ويقضي حوائجهم بقدر المستطاع.
وسجَّل لنا التاريخ نماذج مضيئة من كرمه وجوده وسخائه مع أخلاق راقية، فجسَّد (عليه السلام) في سيرته الأخلاقية أروع الأمثلة في الكرم والجود والعطاء، والتعامل برفق وعطف وحنان مع الفقراء والمساكين.
وكان (عليه السلام) المثل الأعلى في التمسك بأخلاقيات العمل التطوعي وآدابه، ونذكر أبرزها ضمن النقاط الآتية:
1-احترام كرامة الفقير
تعامل الإمام زين العابدين (عليه السلام) بأجلى صور الإنسانية التي قلَّ نظيرها مع الفقراء والأيتام والمساكين والمحتاجين، وجسَّد مفهوم الإنسانية عمليًّا في سيرته الأخلاقية الرفيعة معهم، وحافظ على كرامتهم الإنسانية، ومراعاة مشاعرهم وعواطفهم، واحترام شخصيتهم
لقد كان الإمام (عليه السلام) يحتفي بالفقراء كثيرًا، ويتعامل معهم بلطف ورفق وعطف وحنان، ويراعي مشاعرهم وعواطفهم؛ فكان إذا أعطى سائلًا قبَّله لئلا يرى عليه أثر الذل والحاجة. قَالَ الطَّائِيُ: «إِنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) كَانَ إِذَا نَاوَلَ الصَّدَقَةَ السَّائِلَ قَبَّلَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ»[1] .
وكان (عليه السلام) يرحب بالفقراء ويكرمهم، فقد روي: «كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ يَقُولُ: مَرْحَبًا بِمَنْ يَحْمِلُ زَادِي إِلَى الْآخِرَةِ»[2] .
لقد جسَّد الإمام (عليه السلام) الإنسانية في أعلى صورها في تعامله الأخلاقي والإنساني مع الفقراء والضعفاء؛ فلم نقرأ ولم نسمع أن كريمًا أو جوادًا كان يُقبِّل السائل قبل أن يناوله شيئًا من المال، ويرحب به للحفاظ على كرامته الإنسانية، وحتى لا يشعر بالذل والمسكنة، وكي يعزز ثقة السائل بنفسه عبر احترامه وإكرامه.
2-التواضع
من أخلاقيات العمل التطوعي: التواضع، وهو يعبر عن سمو النفس ورفعتها، فالتواضع -كما عرَّفه علماء الأخلاق- هو اللين مع حسن الخلق، والخضوع للحق، وخفض الجناح. وهو يعني أيضًا احترام الناس وتقديرهم حسب أقدارهم، وعدم الترفع عليهم.
وقد جسّد الإمام (عليه السلام) هذا الخُلُق النبيل في سيرته المباركة، وفي تعامله مع كافة الناس، وخصوصًا الفقراء، فقد كان يحب مجالستهم ومصاحبتهم، لما روي عنه (عليه السلام) في دعائه: «اللَّهُمَّ حَبِّب إلَيَّ صُحبَةَ الفُقَراءِ، وأعِنِّي عَلى صُحبَتِهِم بِحُسنِ الصَّبرِ، وما زَوَيتَ عَنِّي مِن مَتاعِ الدُّنيَا الفانِيَةِ فَاذخَرهُ لي في خَزائِنِكَ الباقِيَةِ»[3] .
وكان (عليه السلام) يسرُّه أن يحضر على مائدة طعامه اليتامى والفقراء والمرضى الذين لا حيلة لهم، ويناولهم الطعام بيده المباركة، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: «وكانَ يُعجِبُهُ أن يَحضُرَ طَعامَهُ اليَتامى وَالأَضِرّاءُ وَالزَّمنى[4] وَالمَساكينُ الَّذينَ لا حيلَةَ لَهُم، وكانَ يُناوِلُهُم بِيَدِهِ، ومَن كانَ لَهُ مِنهُم عِيالٌ حَمَلَ له إلى عِيالِهِ مِن طَعامِهِ»[5] ويدل هذا على شدة تواضعه للفقراء والمساكين والضعفاء وغيرهم.
3-الرحمة
من أخلاقيات العمل التطوعي: الرحمة والعطف والرأفة بالفقراء والمحتاجين، وعدم التعامل معهم بقسوة وشدة وغلظة.
وقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) عظيم الرحمة والعطف، وكثير الرأفة والحنان على الفقراء والمساكين والضعفاء، وبلغ من رأفته بالفقراء والمحتاجين، والعطف عليهم، أنه كره جذاذ النخل في الليل[6] ؛ لأن الفقراء لا يحضرون في هذا الوقت فيحرمون من العطاء، فقد روي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (عليهم السلام): أَنَّهُ قَالَ لِقَهْرَمَانِهِ -وَوَجَدَهُ قَدْ جَذَّ نَخْلًا لَهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ-: «لَا تَفْعَلْ، أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) نَهَى عَنِ الْحَصَادِ وَالْجَذَاذِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ يَقُولُ: الضِّغْثُ تُعْطِيهِ مَنْ يَسْأَلُ، فَذَلِكَ حَقُّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ»[7] .
وبلغ من رحمته ورأفته بالفقراء أيضًا: أنه كان لا يرد سائلًا مهما كان حاله، فقد روى سَعِيد بْن الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَضَرْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) يَوْمًا حِينَ صَلَّى الْغَدَاةَ، فَإِذَا سَائِلٌ بِالْبَابِ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: «أُعْطُوا السَّائِلَ، وَلَا تَرُدُّوا سَائِلًا»[8] .
وروي عنه (عليه السلام) أنه قال: «أخافُ أن يَكونَ بَعضُ مَن يَسألُنا مُحِقًّا فلا نُطعِمُهُ ونَرُدُّهُ فَيَنزِلُ بِنا أهلَ البيتِ ما نَزَلَ بِيَعقوبَ وآلِهِ (عليه السلام).... »[9] .
وقد طبَّق الإمام ما أرشد إليه القرآن الكريم من الدعوة إلى التعامل بلين ورفق مع السائل، والنهي عن نهره ورده كما في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾[10] .
ومن الشواهد على رحمته وعطفه ورأفته بالفقراء أيضًا: أن الإمام (عليه السلام) لم يكتفِ بإعطاء الصدقات والصلات إلى الفقراء والمحتاجين، بل كان يتصدق عليهم بأفضل الطعام، والإنفاق مما يحب، فقد ورد عَنْ أَبِي عبدالله الدَّامْغَانِيِ قال: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِالسُّكَّرِ وَاللَّوْزِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[11] وَكَانَ (عليه السلام) يُحِبُّهُ»[12] .
وروي: «أنه كَانَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا حَتَّى يَبْدَأَ فَيَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ»[13] على الفقراء والأيتام والمعوزين والمحتاجين والضعفاء وغيرهم.
4-الإخلاص في العمل
من أخلاقيات العمل التطوعي: الإخلاص في العمل، بأن يكون الدافع للتطوع هو القربة إلى الله تعالى، حتى ينال المتطوع الأجر والثواب الجزيل؛ وأما إذا كان هدف المتطوع السمعة والرياء والتباهي والتفاخر أمام الناس فهذا يحبط العمل ويفسده.
وقد ضرب الإمام زين العابدين (عليه السلام) أروع الأمثلة في الإخلاص، فكان يغطي وجهه عندما يوزع عطاياه للفقراء حتى لا يعرفه أحد، فقد تحدث الإمام الباقر (عليه السلام) عن أبيه قائلاً: «إنّهُ كانَ يَخرُجُ في اللَّيلةِ الظَّلماءِ، فَيَحمِلُ الجِرابَ على ظَهرِهِ حتّى يَأتِيَ بابًا بابًا، فَيَقرَعَهُ ثمّ يُناوِلَ مَن كانَ يَخرُجُ إلَيهِ، وكانَ يُغَطِّي وَجهَهُ إذا ناوَلَ فَقيرًا لِئلَّا يَعرِفَهُ»[14] .
وَفِي خَبَرٍ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَنَّهُ اللَّيْلُ وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ قَامَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَجَمَعَ مَا يَبْقَى فِيهِ عَنْ قُوتِ أَهْلِهِ وَجَعَلَهُ فِي جِرَابٍ وَرَمَى بِهِ عَلَى عَاتِقِهِ، وَخَرَجَ إِلَى دُورِ الْفُقَرَاءِ وَهُوَ مُتَلَثِّمٌ وَيُفَرِّقُ عَلَيْهِمْ وَكَثِيرًا مَا كَانُوا قِيَامًا عَلَى أَبْوَابِهِمْ يَنْتَظِرُونَهُ، فَإِذَا رَأَوْهُ تَبَاشَرُوا بِهِ وَقَالُوا: جَاءَ صَاحِبُ الْجِرَابِ»[15] .
إن من أعظم صور الإخلاص في التطوع، والإحسان والبِّر بالفقراء والأيتام والمحتاجين هو توفير مستلزماتهم الحياتية من مأكل ومشرب وغيرها من دون إظهار الشخص المتبرع نفسه لهم، بل كان يعمل جاهدًا على عدم معرفتهم له، فكان يحمل أكياس المواد الغذائية على كتفه ليلًا، ويطرق أبواب الفقراء، ويضعها وينصرف، ولم يعرفوا الشخص الذي كان يهتم بهم ويساعدهم إلا بعد أن مضى إلى ربه؛ إنه الإمام زين العابدين (عليه السلام).
ويدل على ذلك: ما ورد عن محمّد بن إسحاق قال: «إنَّهُ كانَ ناسٌ مِن أهلِ المَدينةِ يَعِيشُونَ لا يَدرُونَ مِن أينَ مَعاشُهُم، فلمَّا ماتَ عليُّ بنُ الحسينِ فَقَدُوا ما كانُوا يُؤتَونَ بهِ بالليلِ»[16] .
وعن محمد بن زكريا قال: سمعت ابن عَائِشَةَ يقول: قال أبي: سَمِعَتْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ: «مَا فَقَدْنَا صَدَقَةَ السِّرِّ حَتَّى مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام)»[17] .
وذكر الذهبي عن بعضهم أنهم كانوا يقولون: «مَا فَقَدْنَا صَدَقَةَ السِّرِّ حَتَّى توفي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ»[18] .
وفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: «أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا بَيْتًا يَأْتِيهِمْ رِزْقُهُمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ لَا يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ فَقَدُوا ذَلِكَ، فَصَرَخُوا صَرْخَةً وَاحِدَةً»[19] ..
ونقل الذهبي عن ابن عيينة، عن أبي حمزة الثمالي قال: «إنَّ عليَّ بن الحسين كان يحمل الخبز باللَّيل على ظهره يتّبع به المساكين في الظّلمة، ويقول: إنَّ الصَّدقة في سواد اللّيل تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ»[120] ..
وروى أبو نعيم الأصبهاني بسنده: عن أَبُي حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ قال: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) يَحْمِلُ جِرَابَ الْخُبْزِ عَلَى ظَهْرِهِ بِاللَّيْلِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، ويقول: إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ»[21] .
ومن شدة إخلاصه: إنه كان بنفسه الشريفة يحمل الأكياس على ظهره حتى أثَّرت فيه، فقد روى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده: عن عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ قال: «لَمَّا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَغَسَّلُوهُ جَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى آثَارِ سَوَادٍ فِي ظَهْرِهِ، وَقَالُوا: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: كَانَ يَحْمِلُ جُرُبَ الدَّقِيقِ لَيْلًا عَلَى ظَهْرِهِ يُعْطِيه فُقَرَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ»[22] .
وروى الشيخ الصدوق بإسناده: عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ: «لَمَّا وُضِعَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَى السَّرِيرِ لِيُغَسَّلَ، نُظِرَ إِلَى ظَهْرِهِ وَعَلَيْهِ مِثْلُ رُكَبِ الْإِبِلِ مِمَّا كَانَ يَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ إِلَى مَنَازِلِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ»[23] ..
وروى الزُّهْرِيُ قال: «لَمَّا مَاتَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (عليه السلام) فَغَسَّلُوهُ وَجَدَ عَلَى ظَهْرِهِ مَحْلٌ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقِي لِضَعَفَةِ جِيرَانِهِ بِاللَّيْلِ»[24] ..
5-المبادرة إلى فعل الخير
على المتطوع أن يتحلى بروح المبادرة في الأعمال التطوعية، وفعل الخيرات، وألا ينتظر أحدًا يشجعه على فعل ذلك، بل عليه أن يشجع غيره على التسابق في فعل الخيرات كما قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾[25] ، وقوله تعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾[26] .
وقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) مبادرًا في قضاء حوائج المحتاجين، وفعل الخيرات والمبرات، فلم يكن ينتظر الفقراء حتى يأتوه، بل كان يبادر بالذهاب إليهم والتصدق عليهم وهم في بيوتهم، ومساعدة المحتاجين وقضاء حوائجهم، فعن الإمام الْبَاقِرِ (عليه السلام) قال: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَحْمِلُ جِرَابَ الْخُبْزِ عَلَى ظَهْرِهِ بِاللَّيْلِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ»[27] .
ومن الشواهد على مبادرته (عليه السلام): المبادرة إلى أداء ديون المديونين مهما بلغت، ويذكر المؤرخون كثيرًا من القصص في هذا الجانب، ومنها: أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) دَخَلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَة بْن زَيْدٍ فِي مَرَضِهِ، فَجَعَلَ مُحَمَّدٌ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): «مَا شَأْنُكَ؟».
فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ.
فَقَالَ لَهُ: «كَمْ هُوَ؟».
فَقَالَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: «هُوَ عَلَيَّ» فَالْتَزَمَهُ عَنْهُ[28] .
ونحوه ما رواه الكليني بسنده: عَنْ أَبَان، عَنْ فُضَيْلٍ وَ عُبَيْدٍ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، قَالَ: «لَمَّا حَضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ أُسَامَةَ الْمَوْتُ، دَخَلَتْ عَلَيْهِ بَنُو هَاشِمٍ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمْ قَرَابَتِي وَمَنْزِلَتِي مِنْكُمْ، وَعَلَيَّ دَيْنٌ، فَأُحِبُّ أَنْ تَضْمَنُوهُ عَنِّي.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام): أَمَا وَاللَّهِ ثُلُثُ دَيْنِكَ عَلَيَّ، ثُمَّ سَكَتَ وَسَكَتُوا، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): عَلَيَ دَيْنُكَ كُلُّهُ، ثُمَّ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَضْمَنَهُ [29] أَوَّلًا إِلَّا كَرَاهَةَ أَنْ يَقُولُوا: سَبَقَنَا»[30] .
وبذلك أزاح الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن محمد بن أسامة ثقل الدين عن عاتقه وسدَّده عنه، مع أن هذا المبلغ في ذلك الزمان يعد مبلغًا كبيرًا جدًّا، لكن الإمام لم يتردد في دفعه عنه، وقضاء حاجته.
6-الصبر والتحمل
الصبر والتحمل من أخلاقيات العمل التطوعي، فمن دون الصبر يفقد المتطوع الاتزان والحكمة عند ممارسته لأعمال التطوع، ولذا كان من دعاء الإمام زين العابدين أن يلهمه الله تعالى حسن الصبر في تعامله مع الفقراء، فقد روي عنه (عليه السلام) في دعائه: «اللَّهُمَّ حَبِّب إلَيَّ صُحبَةَ الفُقَراءِ، وأعِنِّي عَلى صُحبَتِهِم بِحُسنِ الصَّبرِ»[31] فالفقراء الذين تحسن إليهم قد يصدر من بعضهم كلمات غير لائقة بحق من أحسن إليهم!
وكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) في غاية الصبر والحلم والتحمل في التعامل مع المسيئين له، وقد جسَّد ذلك عمليًا في حياته وسيرته المباركة في عدة مواقف، ومنها هذه القصة التي تكشف عن شدة تحمله وصبره وإحسانه لمن أساء إليه، فقد روي: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليهما السلام) خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَبَّهُ، فَثَارَتْ إِلَيْهِ الْعَبِيدُ وَالْمَوَالِي، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: مَهْلًا عَنِ الرَّجُلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا سُتِرَ عَنْكَ مِنْ أَمْرِنَا أَكْثَرُ!».
وأضاف قائلاً: «أَلَكَ حَاجَةٌ نُعِينُكَ عَلَيْهَا؟!».
فَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ، وَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ خَمِيصَةً [32] كَانَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ.
قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنْ أَوْلَادِ الرُّسُلِ[33] ..
وفي هذا درس عظيم لكل العاملين في العمل التطوعي والخيري بأن يصبروا على الكلام الجارح الذي قد يصدر من بعض الناس تجاه ما يقومون به من أعمال تطوعية ومناشط خيرية واجتماعية، وأن يتحملوا بأخلاق عالية وروح رياضية مشاكل وصعوبات العمل التطوعي والخيري حتى يستمروا في فعل الخيرات، وتقديم الخدمات التطوعية والخيرية للمجتمع.
اضف تعليق