الإمام الحسين كان ينظر إلى الموت على أنه انتقال إلى الدار الآخرة حيث الخلود الأبدي والنعيم الدائم والسعادة الأبدية، فهو القائل: إنّي لا أرَى المَوتَ إلّا سَعادَةً، وَالحَياةَ مَعَ الظّالِمينَ إلّا بَرَماً، فالموت في نظره تحصيل للسعادة الدائمة. وعلى المؤمن أن يتزود بالتقوى والأعمال الصالحة في...

يتمتع الكائن الإنساني بعناصر قوة تمنحه الثقة بالنفس والنشاط والفاعلية والقدرة على العمل والإنجاز في الحياة، وفي المقابل لديه عناصر ضعف لا يقوى على مقاومتها، ولا يتمكن من التغلب عليها، كالمرض المزمن والشيخوخة والموت، وأعظمها الموت الذي هو حقيقة حتمية، فقدر الإنسان أن يموت كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾[1].

إن ما يعجز الإنسان عن التغلب عليه يجعله يشعر بالضعف والحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه مصدر القوة والقدرة غير المتناهية، ففي حالات الإحساس بالضعف الإنساني كالمرض المزمن أو الخوف من الموت أو انعدام القدرة على مواجهة المخاطر يلجأ المرء إلى الله حتى يخلصه مما فيه، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾[2]. وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[3].

وقد أشار الإمام الحسين (عليه السلام) إلى عوامل الضعف عند الإنسان، وهي منبهات يجب أن تمنعه عن التبختر والغرور بقوله: «لَولا ثَلاثَةٌ ما وَضَعَ ابنُ آدَمَ رَأسَهُ لشيء: الفَقرُ، وَالمَرَضُ، وَالمَوتُ»[4]. فهذه منبهات شديدة التنبيه، ولا يمكن للإنسان أن يفرّ منها، فقد يكون غنياً ويفتقر لسبب خارج عن قدرته كحدوث حريق يلتهم كل ماله وممتلكاته في لحظات قصيرة، وقد يكون متمتعاً بالصحة فيمرض مرضاً مزمناً لا علاج له، وقد يكون في أوج قوته فيباغته الموت فجأة ليرحل عن الدنيا وهو في عنفوان شبابه وقوته وحيويته.

وعندما يغفل المرء عن حقيقة نفسه، ويستدرجه الله من حيث لا يعلم، ويغدق عليه بالصحة والعافية والنعم الكثيرة ليمتحنه، ولكنه عندما يفشل في الامتحان يصاب بمرض الغرور والتكبر والتبختر، فلا تحمله الأرض على سعتها، ويتصور أنه أقوى من أي شيء، وكأنه يستطيع أن يخرق الأرض بنفسه أو يبلغ الجبال طولا، وكما قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ وقد يصل به الطغيان إلى مرحلة ادعاء الألوهية والربوبية، كما اغترّ فرعون بنفسه، وادعى ذلك ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾[5] وعندها عاقبه الله عقاباً شديداً ليكون عبرة لغيره ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾[6].

لا تغفلوا عن الموت

على الإنسان العاقل ألا يغفل عن الموت، وأن يتأمل في حقيقة نفسه، ويعرف قدره، ويتفكر في آخرته، فلا يغتر بالدنيا، ولا يعجب بنفسه ويتبختر، فمهما كان المرء غنياً وقوياً فإنه لا يستطيع أن يقاوم فيروس خطير في منتهى الصغر لا يرى بالعين المجردة إذا حلّ في جسمه، ولا يتمكن من هزيمته مهما ملك من أموال وأولاد وعشيرة؛ ومهما كانت مكانة المرء في الدنيا فإنه أعجز من أن يتصدى للموت إذا طرق بابه، وكما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾[7]، وقوله تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾[8].

وحتى لا يغفل الإنسان عن الموت، كان الإمام الحسين يدعو الإنسان إلى تذكر مصارع آبائه وأجداده الذين رحلوا عنه، فقال: «يَا بنَ آدَمَ! اذكُر مَصارِعَ آبائِكَ وأبنائِكَ، كَيفَ كانوا وحَيثُ حَلّوا، وكَأَنَّكَ عَن قَليلٍ قَد حَلَلتَ مَحَلَّهُم، وصِرتَ عِبرَةً لِلمُعتَبِرِ»[9].

وعنه (عليه السلام) قال: «يَا بنَ آدَمَ! اذكُر مَصرَعَكَ، وفي قَبرِكَ مَضجَعَكَ، ومَوقِفَكَ بَينَ يَدَيِ اللَّهِ، تَشهَدُ جَوارِحُكَ‏[10] عَلَيكَ يَومَ تَزِلُّ فيهِ الأَقدامُ، وتَبلُغُ القُلوبُ الحَناجِرَ، وتَبيَضُّ وُجوهٌ وتَسوَدُّ وُجوهٌ، وتَبدُو السَّرائِرُ، ويوضَعُ الميزانُ القِسطَ»[11].

وكانَ الحُسَينُ (عليه السلام) إذا رَأَى القُبورَ قالَ: «ما أحسَنَ ظَواهِرَها، وإنَّمَا الدَّواهي[12] في بُطونِها، فَاللَّهَ اللَّهَ عِبادَ اللَّهِ! لا تَشتَغِلوا بِالدُّنيا، فَإِنَّ القَبرَ بَيتُ العَمَلِ، فَاعمَلوا ولا تَغفُلوا»[13].

وحذر الإمام الحسين (عليه السلام) من الاغترار بالدنيا وما فيها من ملذات وملهيات، لما روي عنه (عليه السلام) أنه قال: «المَغرورُ مَن غَرَّتهُ، وَالشَّقِيُّ مَن فَتَنَتهُ، فَلا تَغُرَّنَّكُم هذِهِ الدُّنيا؛ فَإِنَّها تَقطَعُ رَجاءَ مَن رَكَنَ إلَيها، وتُخَيِّبُ طَمَعَ مَن طَمِعَ فيها»[14].

إن بعض الناس قد يستدرجهم الله من حيث لا يعلمون، فيصابون بالغرور والطغيان، وقد كان من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام): «اللَّهُمَّ لا تَستَدرِجني بِالإِحسانِ، ولا تُؤَدِّبني بِالبَلاءِ»[15]. 

وعلى الإنسان أن يتذكر دائماً أنه في هذه الدنيا كأنما هو في رحلة قصيرة، وأن أيامه معدودة تنقص باستمرار حتى يحين الأجل ويغادر إلى عالم الآخرة، روي عن الإمام الحسين (عليه السلام): «يَا بنَ آدَمَ، إنَّما أنتَ أيّامٌ، كُلَّما مَضى‏ يَومٌ ذَهَبَ بَعضُكَ»[16].

الموت سعادة

عندما يكون المرء مستعداً للموت، ومؤثراً الآخرة على الدنيا، فلا يخشى الموت ولا يهابه، وقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يشرق وجهه نوراً وهو مقبل على الموت، فقد روى عن الإمام زين العابدينَ (عليه السلام): «لَمّا اشتَدَّ الأمرُ بالحُسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (عليهم السلام) نَظَرَ إلَيهِ مَن كانَ مَعهُ فإذا هُو بخِلافِهِم؛ لأنّهُم كُلّما اشتَدَّ الأمرُ تَغيَّرَت ألوانُهُم وارتَعدَت‏ فَرائصُهُم ووجَبَت قُلوبُهُم؛ وكانَ الحُسينُ (عليه السلام) وبعضُ مَن مَعهُ مِن خَصائصهِ تُشرِقُ ألوانُهُم وتَهدَأُ جَوارِحُهُم وتَسكُنُ نُفوسُهُم».

فقالَ بَعضُهم لبَعضٍ: انظُروا، لا يُبالي بالمَوتِ!

فقالَ لَهُمُ الحُسينُ (عليه السلام): «صَبراً بَني الكِرامِ! فما المَوتُ إلّا قَنطَرَةٌ تَعبُرُ بِكُم عَنِ البُؤسِ والضَّرّاءِ إلَى الجِنانِ الواسِعَةِ والنَّعيمِ الدّائمَةِ، فأيُّكُم يَكرَهُ أن يَنتَقِلَ مِن سِجنٍ إلى‏ قَصرٍ؟!»[17].

فالموت ليس أمراً عدمياً، بل هو أمر وجودي، وهو عبارة عن مرحلة انتقال من دار إلى دار، ومن عالم إلى عالم آخر، ومن عالم الشقاء والضراء إلى عالم السعادة والنعيم الدائم.

إن الإمام الحسين (عليه السلام) كان ينظر إلى الموت على أنه انتقال إلى الدار الآخرة حيث الخلود الأبدي والنعيم الدائم والسعادة الأبدية، فهو القائل (عليه السلام): «إنّي لا أرَى المَوتَ إلّا سَعادَةً، وَالحَياةَ مَعَ الظّالِمينَ إلّا بَرَماً[18] »[19]، فالموت في نظره تحصيل للسعادة الدائمة.

وعلى المؤمن أن يتزود بالتقوى والأعمال الصالحة في حياته، حتى يكون مستعداً للقاء ربه، وكما قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[20].

والموت بالنسبة للمؤمن أمر في غاية الراحة والاطمئنان، فقد روى عن الإمام الحسين (عليه السلام) عن رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله): «المَوتُ رَيحانَةُ المُؤمِنِ»[21].

.................................

الهوامش:

[1] سورة آل عمران: الآية 185.

[2] سورة يونس، الآيتان: 22 – 23.

[3] سورة العنكبوت: الآية 65.

[4] نزهة الناظر: ص 80 ح 4 الخصال: ص 113 ح 89.

[5] سورة النازعات: الآية 24.

[6] سورة النازعات: الآيتان 25 – 26.

[7] سورة الجمعة: الآية 8.

[8] سورة النساء: الآية 78.

[9] إرشاد القلوب: ص 29.

[10] جَوارِحُ الإنسان: أعضاؤه التي يكتسب بها (الصحاح: ج 1 ص 358«جرح»).

[11] إرشاد القلوب: ص 29.

[12] الداهية: النائبة العظيمة النازلة، والجمع: الدواهي، وهي عظائم نُوَبِهِ (مجمع البحرين: ج 1 ص 617«دهى»).

[13] بستان الواعظين لأبي الفرج ابن الجوزي: ص 194؛ إحقاق الحقّ: ج 11 ص 628.

[14] مقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 252. مثيرالأحزان: ص 51. كشف الغمّة: ج 2 ص 225 وص 267. المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 100.

[15] نزهة الناظر: ص 83 ح 10، الدرّة الباهرة: ص 24، كشف الغمّة: ج 2 ص 201، بحار الأنوار، ج 75، ص 127، ح 9.

[16] إرشاد القلوب: ص 40.

[17] معاني الأخبار: 288/ 3.

[18] البَرَمُ: مصدر بَرِم؛ إذا سَئِمَهُ. وأبرَمَهُ: أي أمَلَّهُ وأضجَرَهُ (الصحاح: ج 5 ص 1869«برم»).

[19] المعجم الكبير: ج 3 ص 115 ح 2842، تاريخ الطبري: ج 5 ص 404 عن عقبة بن أبي العيزار وفيه «شهادة» بدل «سعادة» و«ولا الحياة» بدل «الحياة»، تاريخ دمشق: ج 14 ص 218؛ تحف العقول: ص 172، الملهوف: ص 138، بحار الأنوار: ج 44 ص 192.

[20] سورة البقرة: الآية 197.

[21] الفردوس: ج 4 ص 239 ح 6718، كنز العمّال: ج 15 ص 551 ح 42136؛ الجعفريّات: ص 190 و ص 201.

اضف تعليق