في مقتبل العمر قبل ثلاثين عاما تقريبا من الآن، قرأت جملة تقول: (اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظُلِمَ بحضرتي ولم أنصرْهُ)، ثم نظرت الى قائلها واذا به الامام السجاد (ع)، وأذكر أنني لم أطلع على هذه الجملة مكتوبة في لافتة منشورة على الملأ، ولا ملصقة في جدار، لكي يقرأها عامة الناس، إنما قرأتها في كتاب كان احد اصدقائي يخفيه في مكان ما من بيته، ولم يعرضه في مكتبته (في البيت) مع الكتب الاخرى!.
عندما حاولت أجد تفسيرا لهذه الجملة غير تفسيري وقت قراءتي لها، لم أحصل على ذلك، على الرغم من البحث والمحاولة، لذلك فسرتها في ذلك الحين حسب فهمي لها، وتوصلت الى أنها جملة إنسانية الهدف، وأنها موجّهة الى المجتمع عموما، وأن العمل الجماعي بمضمونها سوف يقي الشعب الظلم والظالمين، ولكن كيف تصل الى عامة الناس، وقد وجدتها أنا مصادفة في كتاب كان يخبّئه صديقي في مكان سرّي من بيته!.
هذه الجملة تفضح الظلم وتُظهر من يقف وراءه، وهي صرخة عالية ومسموعة فيما لو أُزيحتْ عنها الموانع ووسائل التكميم، إنها ببساطة تعود الى إمام معصوم لا يصل إليه الخطأ، ومع ذلك يعتذر هذا الامام من الله مخافة الاحتمال بوقوع خطأ يتعلق بالسكوت عن الانتصار للمظلوم، فإذا كان الامام المعصوم يعتذر عن خطأ (معصوم عن ارتكابه)، فما بال الناس الآخرين، ولماذا عاش العراقيون ومعظم المسلمين، أنواعا لا تعد ولا تحصى من الظلم الفردي والجماعي، السياسي والطبقي والمجتمعي والعشائري والعائلي وسواه؟؟.
إن جملة الامام السجاد (ع) التي ذكرتها في صدر هذا المقال، جملة عامة، غير مخصصة لفئة أو لجهة او جماعة او شخصية بعينها، إنها موجّهة للحاكم والمحكوم والسائل والمسؤول، للكبير والصغير، للرجل والمرأة، للمجتمع عموما، كونها تدعو الى مكافحة الظلم بكل أنواعه، ولو أننا عملنا بمضمون هذه الجملة في بيوتنا وأماكن عملنا ونشاطاتنا المختلفة بل حتى في السوق او الحافلة او الشارع والساحة العامة والمقهى، لو اننا التزمنا بها، لما تعرَّض أحدنا للظلم.
ولو أن قادة دول المسلمين والمسؤولين عموما، حتى الموظفين، صغارا وكبارا، لو أنهم التزموا بفحوى ومضمون هذه الجملة، لكنّا الآن من أرقى الشعوب والأمم، حيث لا مجال لوجود الظالمين بيننا، من أصغر الناس مسؤولية الى أكبرهم، فبالتزامنا لهذه الجملة لن يكون هناك سياسي ظالم، ولا قائد ظالم ولا حكومة ظالمة، ولا موظف كبير او صغير ظالم، ولا مسؤول ظالم ولا طبيب او مهندس اومعلّم او خطيب او مهني او حرفي او مثقف او كاسب او مفكر ظالم.
الكفاح ضد المتملقين والمحابين
باختصار تبعا لمضمون هذه الجملة لا وجود للظلم والظالمين، لأن الامام السجاد عليه السالمين، يعتذر للذات الإلهية عن خطأ لم يرتكبه، وهذا الخطأ ليس هو الفاعل الأول فيه، إنما قد يلحق به بصورة غير مباشرة، لأن الذي يقترف الظلم شخص آخر، ومع ذلك عندما نكون شهود، نرى ونسمع الظالم يظلم الآخر، لا يحق لنا السكوت او الصمت، بل لابد أن نهبّ لنصرة المظلوم ضد الظالم، مهما كانت درجة الظلم كبيرة او صغيرة، ومهما كان نوع الظلم، إذ لا يصح بل لا يجوز الصمت على ما يرتكبه الظالمون بحق المظلومين بغض النظر عن حجم او نوع ذلك الظلم.
فما بالك بمن لا يكتفي بالصمت على أفعال الظالمين، بل يصطفون الى جانبهم، ويساعدونهم على ارتكاب الظلم ويشجعونهم على ذلك، ويظهرون لهم التأييد والمباركة، ويحرضونهم، ويعلنون لهم بأنهم إنما يفعلون الشيء الصحيح!!، نهم هؤلاء هم جوقة المتملقين، والبطانة التي حذّر منها الامام علي عليه السلام القادة والمسؤولين، البطانة التي تدفع الحاكم والمسؤول وصاحب النفوذ الى ظلم الناس مقابل احتفاظهم بمنافعهم المادية الضيقة والتي سرعان ما تزول حيث يمحقها الله محقا، بسبب مصدرها وأساس منحها للمحابين والمنافقين والمتملقين من سادتهم الظالمين.
هل واقعنا الآن فيه مثل هؤلاء؟؟، يدفعون الظالم نحو الظلم اكثر فأكثر، الجواب نعم، والدليل مرئي وملموس وقائم على الارض، ففي العراق مثلا يؤكده الفقر الذي وصل الى أقصاه، إذ تؤكد المعلومات الرسمية وليس غيرها وجود اكثر من 8 مليون فقير في العراق، وهو دولة نفطية دخلتها في عشر سنوات موارد مالية قاربت الألف مليار دولار أمريكي، ويشهد على هذا الظلم رؤوس الفساد التي عاثت فسادا في العراق، وألحقت بإخوانهم من العراقيين المسلمين ظلما لا حدود له.
ما دعا إليه الإمام السجاد (ع) في قوله وجملته هذه واضح، إنها دعوة لجميع المسلمين بغض النظر عن مذاهبهم او أماكن وجودهم ودولهم، دعوة لهم أن لا يساندو الظالمين، ساسة او قادة او غيرهم، ودعوة لهم ايضا بأن لا يقوموا بالظلم بأنفسهم، حتى في نطاق عملهم وتواجدهم الضيق، غير مسموح لرجل او امرأة في العائلة أن تظلم احد افراد العائلة الاطفال منهم على وجه الخصوص لأنهم أحباب الله.
لا تسمح بالظلم
كذلك لا يجوز لموظف او مسؤول أو اي مسلم، أن يتسبب بظلم الآخرين، وعندما نلتزم بفحوى جملة الامام السجاد (ع)، بصورة صحيحة ودقيقة، فإن الظلم سوف يقل ويضعف ويتراجع ويضمحل ويتم وأده بصورة تامة، وهو ما ينبغي أن يسعى إليه الجميع، إذ علينا أن لا نظلم احدا بأية صورة او نسبة او وسيلة كانت.
وعلينا قبل كل شيء، أن لا نسمح بظلم أحد في وجودنا، وذلك من خلال عدم الوقوف الى جانب الظالم بسبب قوته او مركزه الوظيفي والاجتماعي وما شابه، فهناك من يساند الظالم من اجل المحافظه على منافعه وامتيازته، بل هناك من يطمع بترقية او مكافأة او كلمة اطراء من المسؤول مقابل أن يسانده على ارتكاب الظلم.
ولو أننا جميعا التزمنا بهذه القاعدة، أي قاعدة لا تشجع الظالمين على الظلم، ولا تساند المسؤولين او أي فرد كان على الظلم، فإننا بذلك سوف نكون مجتمعا خاليا من الجور والجائرين، وبالنتيجة سنكون امة ودولة متقدمة بسبب استقرارها وانشغالها بالتطور والابتكار والابداع الدائم.
فلنردد جميعا جملة الإمام زين العابدين (ع) مرارا وتكرارا: (اللهم اني اعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي)، ولنؤمن بها إيمانا قاطعا، ولنقمْ بتطبيقها في حياتنا العملية والاجتماعية بصورة حرفية، وعلينا أن لا نجد الاعذار والحجج لأنفسنا في محاباة المسؤول او الأخ او الصديق او الموظف المقرّب او من يهمه امرك كائنا من يكون بحجة انك تجامله او تخشى من فقدانه اذا حذرته من ارتكاب الظلم، فالانسان الذي تحبه عليك ان تنصحه بالفعل الصحيح لا ان تسانده على الفعل الخاطئ، واذا كان يهمك أمره فلا تسمح له أن يكون من الظالمين، إذ أن الظلم سوف يؤدي به الى الفشل حتما.
وبهذه الطريقة، والاسلوب الصحيح في الحياة، سنكون شعبا افضل، وامة ترفض الظلم، وهو هدف أئمة أهل البيت جميعا، نعم يحتاج الامر الى وعي كبير وقوة للشخصية حتى يكون قادرا على رفض الظلم، ليس تنكيلا بالآخر وانما حفاظا عليه، وهذا الهدف ينبغي أن يبدأ من النشأة في العائلة والمدرسة والمسجد وفي كل مكان، حيث يمكن أن نبني من خلاله شخصية قوية للعراقي والمسلم أينما كان، وصولا الى القدرة على تنبيه الظالمين بظلمهم وليس مؤازرتهم على ارتكابه بحق الاخرين.
اضف تعليق