تصدَّى لقيادة الأمة لعقدين من الزمن، وحاول إعادة هندستها، وترتيب الأولويات فيها، ووضع الأمور والأشخاص في مواضعهم التي يجب أن يكونوا فيها، فأعاد أهل البيت (ع) ليكونوا محوراً لها كما كانوا في عهد رسول الله (ص) كما في حديث الثقلين المتواتر في الأمة، حيث أنها هجرت الثقل الأكبر القرآن...
ولد الإمام الباقر (عليه السلام) في المدينة يوم الجمعة 1 رجب سنة 57 هـ
مقدمة نورانية
الروايات النبوية والولائية الشَّريفة تحدِّثنا عن عالم الأرواح والأشباح، وعالم الأنوار حيث كانت بداية الخلقة في تلك العوالم التي لم يطَّلع عليها إلا الذين شهدوها وتحدَّثوا عنها وهم محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين (صلوات الله عليهم)، الذين كانوا أول خلق الله في تلك العوالم وتلك النشأة النورانية قبل أن يهبطوا إلى هذه الدنيا والنشأة الظلمانية الترابية الناسوتية، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اَللَّهِ قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اَللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ؟ فَقَالَ: (نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ خَلَقَهُ اَللَّهُ ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ كُلَّ خَيْرٍ).
والحديث طويل وجميل وجليل إذا عرفنا معنى قوله (ص): (ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ كُلَّ خَيْرٍ)، فما من خير في هذه الحياة إلا وكان من ذلك النور الأول للحبيب المصطفى محمد (ص)، ومن أعظم وأكرم أشعة النور، وفيوض الخير كان أئمة المسلمين من آل محمد (صلوات الله عليهم)، لأنهم خُلقوا من نور الله تعالى، وأفاض عليهم الخير جدُّهم رسول الله (ص) فكانوا مهابط وحي الله، وخزَّان علمه، ومن بيوتهم تعلَّم الناس العلوم المختلفة لا سيما من ذلك البحر العظيم، والعَلَم الكريم، والإمام الحكيم، خامس أئمة المسلمين الإمام محمد بن علي الملقب من الله ورسوله بالباقر، لأنه بقر علوم الأنبياء والمرسلين، ونشرها في الأمة التي كانت تغط في ظلام دامس أدخلها فيه الأمويون الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم، وأعمالهم، وأيديهم، وبكل ما استطاعوا وبذلوا جهدهم وجهادهم من أجل دفن الإسلام وإعادة الأمة إلى الجاهلية التي أنقذهم الله منها بالإسلام والقرآن والرسول الأكرم محمد بن عبد الله (ص).
ظلام الأمويين الدامس
كانت ولادة الإمام محمد الباقر (ع) في عهد جده المولى أبو عبد الله الحسين (ع) حيث قال في ذلك: (قتل جدي الحسين ولي أربع سنين، وإني لأذكر مقتله، وما نالنا في ذلك الوقت)، فعاش في ظله الوارف حيث كان يُنظر إليه كما النَّجم في السماء، إذ أنه السِّبط الأخير الباقي في أمة جدِّه المصطفى (ص)، وكان ذلك في حكم معاوية بن هند الهنود الذي كان يجهد جهده في دفن الإسلام وإطفاء ذكر الرسول الأكرم وذلك حسداً من عند نفسه الخبيثة حيث روى أحمد بن أبي طاهر في كتاب (أخبار الملوك): أن معاوية سمع المؤذِّن يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله!)، فقال: (لله أبوك يا بن عبد الله! لقد كنت عالي الهمَّة، ما رضيت لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين!). (شرح نهج البلاغة؛ ابن أبي الحديد: ج ١٠ ص ١٠١)
كما يروي الزبير بن بكار في "الموفقيات" - وهو غير متهم على معاوية، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة، لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي (عليه السلام)، والانحراف عنه - قَالَ مِطْرَفُ بْنُ اَلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: وَفَدْتُ مَعَ أَبِي اَلْمُغِيرَةِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَكَانَ أَبِي يَأْتِيهِ فَيَتَحَدَّثُ مَعَهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَيَّ فَيَذْكُرُ مُعَاوِيَةَ وَيَذْكُرُ عَقْلَهُ وَيُعْجِبُ بِمَا يَرَى مِنْهُ، إِذْ جَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمْسَكَ عَنِ اَلْعَشَاءِ وَرَأَيْتُهُ مُغْتَمّاً مُنْذُ اَللَّيْلَةِ فَانْتَظَرْتُهُ سَاعَةً وَظَنَنْتُ أَنَّهُ لِشَيْءٍ قَدْ حَدَثَ فِينَا وَفِي عِلْمِنَا فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَاكَ مُغْتَمّاً مُنْذُ اَللَّيْلَةِ؟
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ جِئْتُ مِنْ عِنْدِ أَخْبَثِ اَلنَّاسِ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: قُلْتُ لَهُ وَقَدْ خَلَوْتُ بِهِ إِنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ سِنّاً يَا أَمِيرَ (اَلْمُواطنِينَ) فَلَوْ أَظْهَرْتَ عَدْلاً وَبَسَطْتَ خَيْراً فَإِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى إِخْوَتِكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَوَصَلْتَ أَرْحَامَهُمْ فَوَ اَللَّهِ مَا عِنْدَهُمُ اَلْيَوْمَ شَيْءٌ تَخَافُهُ.
فَقَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَلَكَ أَخُو تَيْمٍ فَعَدَلَ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ فَوَ اَللَّهِ مَا عَدَا أَنْ هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكْرُهُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ مَلَكَ أَخُو بَنِي عَدِيٍّ فَاجْتَهَدَ وَشَمَّرَ عَشْرَ سِنِينَ فَوَ اَللَّهِ مَا عَدَا أَنْ هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكْرُهُ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: عُمَرُ، ثُمَّ مَلَكَ عُثْمَانُ فَمَلَكَ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي مِثْلِ نَسَبِهِ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ وَعُمِلَ بِهِ مَا عُمِلَ فَوَ اَللَّهِ مَا عَدَا أَنْ هَلَكَ فَهَلَكَ ذِكْرُهُ، وَذِكْرُ مَا فُعِلَ بِهِ، وَإِنَّ أَخَا بَنِي هَاشِمٍ يُصَاحُ بِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ (أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَللَّهِ) فَأَيُّ عَمَلٍ يَبْقَى بَعْدَ هَذَا لاَ أُمَّ لَكَ لاَ وَاَللَّهِ إِلاَّ دَفْناً دَفْناً). (الأخبار الموفقيات: الزبير بن بكار: ج1 ص 219)
فكان عمل معاوية خلال أربعين سنة من حكمه للشام يسعى في إطفاء نور الله في الأرض، ودفن الإسلام العظيم، ومحاربة ذكر الرسول الكريم، ولذا سنَّ سُنَّة مسبَّة الإمام علي وأهل البيت (عليهم السلام) على المنابر واستمر ذلك إلى أن تولى السُّلطة عمر بن عبد العزيز فرفعها ومنعها لأنه رأى فيها فأساً يهدِّم الدولة الإسلامية التي يحكم باسمها، ولذا قلنا: بأن الأمة الإسلامية دخلت في نفق مظلم أدخلها فيه بنو أمية بأعمالهم الفاسدة والمفسدة، لا سيما في فترة حكم يزيد الشَّر الذي حكم ثلاث سنوات وارتكب ثلاث جرائم يندى لها جبين التاريخ، ويعرق منها جبين الإنسانية، وكلها كانت لضرب الإسلام ودين الله في هذه الحياة وهي:
1-في السَّنة الأولى أباد أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) في كربلاء في عاشوراء المأساة الأبدية، ولم ينجُ منها إلا الإمام علي بن الحسين زين العابدين، وولده الإمام الباقر (عليهما السلام) وبعض ولد الإمام الحسن المجتبى (ع).
2-في السَّنة الثانية ارتكب جريمة الحرَّة وأباح المدينة المنورة لجيشه بقيادة مسرف بن عقبة فقتل أكثر من عشرة آلاف من أبناء الصحابة، وربطوا خيولهم في سواري المسجد النبوي ووصل الدَّم إلى القبر الشريف، وولدت ألف بنت لا يُعرف آباءهم، وكانوا يزوجون بناتهم ولا يضمنونهن بعدها.
3-في السَّنة الثالثة دكوا الكعبة المشرفة بالمنجنيق وحرقوها ودمروها على رأس عبد الله بن الزبير.
فهذه الجرائم الشنيعة التي ارتكبها جنود يزيد وبني أمية موجهة بالدرجة الأولى ضد رسول الله وأهل بيته الأطهار لأنهم أئمة المسلمين بتعيين من الله وتنصيب من رسول الله، كما أنهم حَمَلة العلم والقرآن فهم أهل الذِّكر الذين أمر الله بسؤالهم وأخذ الفقه والتفسير عنهم ولذلك حاولوا أن يوجدوا البدائل من العلماء الذين صنعوهم ليكونوا القطب المقابل لأهل البيت واستعانوا حتى باليهود كما فعل مَنْ سبقهم من رجال قريش، ككعب الأحبار، وعبد الوهاب بن منبه، وأبو سنور الدوسي، وعبد الله بن سلام، وغيرهم ممَّن استعان بهم رجال قريش ليُبعدوا الأمة عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) وأبنائه الميامين (عليهم السلام).
الإمام محمد الباقر (ع)
في تلك الظروف ولد الإمام الهمام محمد بن علي الباقر (ع) الذي قال فيه علماء البلاطات الأموية الكثير من الأقوال كقول عبد الله بن عطاء المكي وشهادته التي يقول فيها: "ما رأيتُ العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، وقد رأيتُ الحكم بن عيينة مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلّمه"، وأما ابن حجر الهيثمي فيقول: "أبو جعفر محمد الباقر، سمّي بذلك من بقر الأرض أي شقّها، وأثار مخبآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسَّريرة، ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه، وشاهر عَلَمَه ورافعه ... عمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة"، ولذلك قال الذهبي: "كان الباقر أحد مَنْ جمع بين العلم والعمل، والسُّؤود والشَّرف، والثقة والرَّزانة، وكان أهلاً للخلافة".
نعم؛ إنها لشهادة وليست من شخصية عادية إنها من الذَّهبي وما أدراك؟ يشهد بأنه الإمام الباقر (ع): (كان أهلاً للخلافة)، ومَن لم يكن من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أهلاً للخلافة أيها الذهبي؟
ولكن الخلافة والحكم كانت في البيت الأموي في عصر الإمام الباقر حيث شَهِد انتقالها من العنابس (بني أبو سفيان)، لأنهم أولغوا في سفك دماء آل محمد (صلوات الله عليهم) فقصمهم الله وأنهى حكمهم الظالم، وانتقل إلى الأعياص (بني الحكم بن أبي العاص الوزغ الملعون)، والأكباش الأربعة كما سمَّاهم أمير المؤمنين الإمام علي (ع) بقوله عن أبيهم مروان بن الحكم: (أَ ولَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، لَا حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِه إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ، لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّه لَغَدَرَ بِسَبَّتِه، أَمَا إِنَّ لَه إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَه، وهُوَ أَبُو الأَكْبُشِ الأَرْبَعَةِ، وسَتَلْقَى الأُمَّةُ مِنْه ومِنْ وَلَدِه يَوْماً أَحْمَرَ). (نهج البلاغة: خ 73)
ففي تلك الفترة العصيبة من عمر الأمة الإسلامية التي كانت في ظلام دامس، وظلم عجيب من صبيان النار الأموية، حيث أن الإمام علي بن الحسين (ع) يقول: (ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا) (شرح نهج البلاغة: ج4 ص140) وإذا كان عدد الملتزمين بالولاء الصَّادق والمحبة لأهل البيت، في عاصمة الإسلام قليلاً إلى هذا الحد، فكيف بالبلدان القاصية عنها حيث؟، والإمام محمد الباقر عاش تفاصيل حياة والده لأكثر من أربعين سنة قبل وبعد مأساة كربلاء فهو الخبير والعالم القدير لتشخيص أمراض تلك الفترة من عمر الأمة الإسلامية.
الإمام الباقر نور الظلام
والإمام الخامس تصدَّى لقيادة الأمة لعقدين من الزمن، وحاول إعادة هندستها، وترتيب الأولويات فيها، ووضع الأمور والأشخاص في مواضعهم التي يجب أن يكونوا فيها، فأعاد أهل البيت (ع) ليكونوا محوراً لها كما كانوا في عهد رسول الله (ص) كما في حديث الثقلين المتواتر في الأمة، حيث أنها هجرت الثقل الأكبر القرآن كما ينص القرآن وشكواه إلى الله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا) (الفرقان:30)، وأما الثقل الأصغر وهم أهل بيته وعترته فقتلوهم تحت كل حجر ومدر وشرَّدوهم في البلاد والأمصار حتى أن أحدهم يقال له زنديق ولا يقال له شيعة لأهل البيت الأطهار الأبرار من عترة النبي المختار.
فكانت فترة وجود الإمام الخامس من أئمة المسلمين الإمام محمد الباقر (ع) فرصة ذهبية لإعادة الأمة إلى الثقلين ليعود لها وجودها وتألقها في أداء رسالتها في العالمين، ومما أبدعه الإمام الباقر في هذا السبيل هو:
1-تشكيل أو حوزة علمية في المدينة المنورة لبث علومه لتعليم الأمة بالحقائق وتثقيفها بثقافة القرآن الحكيم الذي غيَّر لها حياتها وأنار لها طريقها وانتشلها من ظلم وظلام الجاهلية الجهلاء ونقلها إلى حيث النور والضياء وأراها أسس البناء الحضاري في قيمها المحقة.
2-نشر علوم وأحاديث أهل البيت (ع) التي كانت ممنوعة في عهد الصحابة، بل يُجلد مَنْ يحدِّث بها بالدُّرة التي كانت تسقط الحوامل من رعبها، فجاء الإمام الباقر وبقر تلك العلوم ونشرها في الأمة ليعرفها الناس فيتركوا أحاديث كعب الأحبار وأمثالها، كحديث زرارة قوله: (كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر (عليه السلام)، وهو محتبٍ مستقبل القبلة، فقال: (أما إن النظر إليها عبادة)، فجاءه رجل من بجيلة، يقال له: عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر: إنّ كعب الأحبار كان يقول: إنّ الكعبة تسجد لـبيت المقدس في كل غداة.
فقال له أبو جعفر: فما تقول فيما قال كعب؟ قال: صدق القول ما قال كعب.
فقال له أبو جعفر: كذبت، وكذب كعب الأحبار معك، وغضب، ثم قال: ما خلق الله عزّ وجلّ بقعة في الأرض أحبّ إليه منها). (بحار الأنوار: ج46، ص354)
3-تربية طلاب مميَّزين وتغذيتهم بالأحاديث والعلوم ليكونوا أعمدة العلم في الأمة الإسلامية حيث ذكر الشيخ الطوسي، في كتابه الرِّجال أن أصحاب وتلاميذ الإمام الباقر (عليه السلام) الذين كانوا يروون الحديث عنه بلغوا 462 رجلاً وامرأتين، وعلماء الشيعة يرون أنّ أفقه الفقهاء في صدر الإسلام ستة أشخاص وكلّهم من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، وهم: زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ المكي، وأبو بصير الأسدي، وفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي وبريد بن معاوية العجلي، وهؤلاء الأجلاء مازالوا أعمدة الفقه والعلم الديني في الحوزات إلى اليوم، وذلك لأن شخصاً كـمحمد بن مسلم يروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) 30000 حديث، وجابر الجعفي 70000 حديث، وزرارة يروي أكثر من ذلك بكثير.
4-إعادة نشر أحاديث الفضائل في الأمة لا سيما فضائل أمير المؤمنين الإمام علي (ع) الذي أراد صبيان النار الأموية أن يطفئوا ذكره ويخمدوا نوره بسبِّهم إياه على المنابر وفي أعقاب الصلوات، فلما رفعها عمر بن عبد العزيز رآها فرصة الإمام الباقر (ع) لإعادة بثها ونشرها في الأمة فكان أحد تلاميذه قد خصصه لهذه المهمة وهو سليمان بن مهران الأعمش الذي يروي شيئاً يسيراً -كما قال للمنصور الدَّوانيقي- في فضائل الإمام علي (ع) وهي عشرة آلاف وما يزيد أظهر منها أربعة آلاف فقط.
ولسماحة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) كتاباً جميلاً عن حياة الإمام الباقر (ع) فيه الكثير من التفاصيل والأمثلة والأقوال والمواقف للإمام الخامس من أئمة المسلمين في جميع ما تقدَّم، ومَنْ يطَّلع عليه فإنه سيجد كم هو الجهد والجهاد العظيم الذي قام به الإمام (ع) في سبيل إحياء الأمة الإسلامية وإخراجها من ظلام الأمويين، حيث ينقل عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الباقر (عليهما السلام)، قال: (لما ولي عمر بن عبد العزيز أعطانا عطايا عظيمةً ـ قال ـ فدخل عليه أخوه. فقال له: إن بني أمية لا ترضى منك بأن تفضل بني فاطمة عليهم. فقال: أفضِّلهم؛ لأني سمعت حتى لا أبالي ألا أن أسمع أو لا أسمع، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول: (إنما فاطمة شجنة مني، يسرني ما أسرها، ويسوؤني ما أساءها)، فأنا أبتغي سرور رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأتقي مساءته). (من حياة الإمام الباقر: ص 155)
كما ينقل حادثة عجيبة عن ذلك الرجل الذي كان يتظاهر بالعدالة وتطبيق العدل، فقد روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان: أن أوفد إليَّ من علماء بلادك مائة رجل أسألهم عن سيرتك، فجمعهم وقال لهم ذلك، فاعتذروا وقالوا: إن لنا عيالاً وأشغالاً لا يمكننا مفارقته، وعدله لا يقتضي إجبارنا، ولكن قد أجمعنا على رجل منا يكون عوضنا عنده، ولساننا لديه، فقوله قولنا، ورأيه رأينا.
فأوفد به العامل إليه، فلما دخل عليه سلم وجلس. فقال ـ الوافد ـ له: أخلِ لي المجلس. فقال له: ولِمَ ذلك! وأنت لا تخلو أن تقول حقاً فيصدِّقوك، أو تقول باطلاً فيكذِّبوك. فقال له: ليس من أجلي أريد خلو المجلس؛ ولكن من أجلك، فإني أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه.. فأمر عمر بن عبد العزيز بإخراج أهل المجلس، ثم قال له: قل. فقال: أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك؟
فسكت طويلاً، فقال له: ألا تقول. فقال: لا. فقال: ولِمَ؟ فقال له: إن قلت بنص من الله ورسوله كان كذباً، وإن قلت بإجماع المسلمين، قلت فنحن أهل بلاد المشرق، ولم نعلم بذلك، ولم نجمع عليه، وإن قلت بالميراث من آبائي، قلت بنو أبيك كثير، فلم تفردت أنت به دونهم.
فقال له: الحمد لله على اعترافك على نفسك بالحق لغيرك، أ فأرجع إلى بلادي. فقال: لا، فو اللهِ إنك لواعظ قط.. فقال له: فقل ما عندك بعد ذلك. فقال له: رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار، واستأثر بفيء المسلمين، وعلمت من نفسي أني لا أستحل ذلك، وأن المؤمنين لا شيء يكون أنقص وأخف عليهم فوليت. فقال له: أخبرني لو لم تلِ هذا الأمر، ووليه غيرك، وفعل ما فعل من كان قبله، أ كان يلزمك من إثمه شيء؟ فقال لا. فقال له: فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك، وسلامته بخطرك.. فقال له: إنك لواعظ قط.
فقام ليخرج، ثم قال له: واللهِ لقد هلك أولنا بأولكم، وأوسطنا بأوسطكم، وسيهلك آخرنا بآخركم، والله المستعان عليكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل). (من حياة الإمام الباقر: ص 156)
هكذا يعترفون بأنهم غصبوا الخلافة وجلسوا في مجالس الأنبياء والأوصياء وراحوا يتلون على أسماع الأمة الزور والكذب والبهتان كما قال ذاك الأعرابي كما يروي أبو حمزة الثمالي، فيقول: حدثني منْ حضر عبد الملك بن مروان، وهو يخطب الناس بمكة، فلما صار إلى موضع العظة من خطبته، قام إليه رجل. فقال له: (مهلاً مهلاً، إنكم تأمرون ولا تأتمرون، وتنهون ولا تنتهون، وتعظون ولا تتعظون. أ فاقتداءً بسيرتكم أم طاعةً لأمركم، فإن قلتم اقتداءً بسيرتنا، فكيف يقتدى بسيرة الظالمين، وما الحجة في اتباع المجرمين الذين اتخذوا مال الله دولاً، وجعلوا عباد الله خولاً. وإن قلتم: أطيعوا أمرنا، واقبلوا نصحنا، فكيف ينصح غيره من لم ينصح نفسه، أم كيف تجب طاعة من لم تثبت له عدالة. وإن قلتم: خذوا الحكمة من حيث وجدتموها، واقبلوا العظة ممن سمعتموها، فلعل فينا من هو أفصح بصنوف العظات، وأعرف بوجوه اللغات منكم. فتزحزحوا عنها، وأطلقوا أقفالها، وخلوا سبيلها، ينتدب لها الذين شردتم في البلاد، ونقلتموهم عن مستقرهم إلى كل واد. فو اللهِ ما قلدناكم أزمة أمورنا، وحكمناكم في أموالنا وأبداننا وأدياننا، لتسيروا فينا بسيرة الجبارين، غير أنا بصراء بأنفسنا لاستيفاء المدة، وبلوغ الغاية، وتمام المحنة، ولكل قائم منكم يوم لا يعدوه، وكتاب لابد أن يتلوه، (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (الكهف: 49)، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء: 227). قال: فقام إليه بعض أصحاب المسالح فقبض عليه، وكان آخر عهدنا به، ولا ندري ما كانت حاله). (من حياة الباقر (ع): ص 152)
وأخيراً ينقل سماحة الإمام الشيرازي هذا الحديث العجيب عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (إن عبد الملك (بن مروان) لما نزل به الموت مسخ وزغاً، فكان عنده ولده ولم يدروا كيف يصنعون، وذهب ثم فقدوه، فأجمعوا على أن أخذوا جذعاً، فصنعوه كهيئة رجل ففعلوا ذلك، وألبسوا الجذع، ثم كفنوه في الأكفان، لم يطلع عليه أحد من الناس إلا ولده وأنا). (من حياة الباقر (ع): ص 152)
السلام على الإمام الخامس من أئمة المسلمين محمد بن علي الباقر الذي أحيى الأمة بالعلم وأخرجها من الظلام الظلم إلى بحبوحة الأنوار وضياء الليل والنهار لينقذها من سخط وغضب الجبار فكان وجوده نوراً للظلام الأموي كله ولولاه لكان للتاريخ سياق وحديث آخر فعلاً.
اضف تعليق