فهارون الرشيد، وولده عبد الله المأمون يعلمون حقاً وصدقاً: أن أحق الناس بالناس، وإمام الأمة هو موسى بن جعفر، وليس هم فالسلطة الحقيقية للإمام وليس للسلطان، ولكن السلطان قهر الإمام واغتصب حقه بحجة واهية وهي: (أن الملك عقيم ولو نازعتني عليه لأخذت الذي فيه عينيك)، لأن الإمام يكون إمام...
استشهد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) في (25 رجب السنة 183 هـ) مسموماً في سجن بغداد
مقدمة في السُّلطة
السُّلْطَةُ في قواميس اللغة العربية: التَّسَلُّطُ والسيطَرَةُ والتحكُّمُ، والقُوَّة والقَهْر والغَلَبَة، والقُدْرَة والمُلْك والسُّلْطَان، والتَّسَلُّطُ والتَّغَلُّبُ، والتَّمَكُّن والتَّحَكُّم والسَّيْطَرَة.. وأما السلطة في الاصطلاح فهي كما يعرِّفها قاموس أكسفورد الإنكليزي بأنها تعني: "الحق أو القدرة على إعطاء الأوامر، وصُنْعِ (أو اتخاذ) القرارات، وفرض الطاعة".
وأما أحمد زكي بدوي فيعرِّفها: بأنها "القوة الطبيعية، أو الحق الشَّرعي في التصرف وإصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته وأوامره وقراراته".
وأما جميل صليبا، في معجمه الفلسفي فيُقدِّم تعريفاً موسَّعاً للسلطة وهي على النحو الآتي: «السلطة في اللغة القُدرة والقوَّة على الشيء، والسلطان الذي يكون للإنسان على غيره، ولها عدة معانٍ:
1ـ السُّلطة النفسيّة: ويطلق عليها اسم السلطان الشخصي، أي قدرة الإنسان على فرض إرادته على الآخرين، لقوّة شخصيته، وثَبات جنانه، وحُسن إشارته، وسِحر بيانه.
2ـ السُّلطة الشَّرعيّة: وهي السلطة المُعترَف بها في القانون، كسلطة الحاكِم، والوالِد، والقائد. وهي مختلفة عن القوة؛ لأن صاحب السلطة الشرعية يوحي بالاحترام والثقة، على حين أن صاحب القوة يوحي بالخوف والحذر.
3ـ السُّلطة الدِّينيّة: وهي مستمَدّة من الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه، ومن سنن الرسل، وقرارات المجامع الدينيّة المقدّسة، واجتهادات الأئمة.
4ـ سلطة الأجهزة الاجتماعيّة، التي تمارس السلطات السياسيّة، والسلطات التربويّة، والسلطات الدينية، والسلطات القضائيّة، وغيرها».
ولكن العجيب الغريب في هذه السلطة وهذا الكرسي الذي له سحر يأسر القلوب ويبهر العقول ويفعل بالرجال أكثر من أي مخدِّر وله سكر كسكر الأفيون وأقوى المخدرات، وأذكر ما كان يحذِّرني منه المرحوم الوالد حيث يقول: "إياك وهذا الكرسي يا ولدي فإنه يفعل الأفاعيل بعقول والرجال، ويقلبهم رأساً على عقب وكأن فيه سحراً عجيباً"، وكأن الكرسي مَنْ يركب الرجل وليس الرجل هو الذي يجلس أو يركب على الكرسي.
السلطة العباسية الغاشمة
ومن هنا نتذكر ما الذي فعلته السلطة القرشية بهذه الأمة الإسلامية المرحومة، حيث أنه ليتسلَّط ويحكم أياماً قلائل قلب الحق إلى الباطل وتركوا رسول الله جثَّة هامدة ومسجَّى بين أهله وتراكضوا إلى السقيفة المشؤومة ولم يحضروا تحضير ودفن رسولهم الكريم الذي بنا لهم هذه الدولة وأقام لهم ذلك الكرسي ورسَّخ لهم الحكم والسلطنة، فهلَّا كانوا ينتظرون ليقوموا بواجبهم تجاه رسولهم العظيم، ثم يجتمعوا ويتشاوروا فيما بينهم ويتَّخذوا القرار المناسب كما كل الدول الحضارية الديمقراطية اليوم؟
ولكن رجال قريش كانوا يعلمون علم اليقين أنهم لا مكان لهم في السلطة والكرسي مخصوصاً ومنصوصاً إلى غيرهم، لا سيما وأنهم جميعاً بايعوه قبل سبعين يوماً في منطقة غدير خم، ولذا تركوا كل واجباتهم وذهبوا ليقتنصوا الفرصة ووثبوا تلك الوثبة التي كانت باتفاق مسبق مع قبيلة أسلم التي استدعوها فدخلت واحتلت المدينة بأكثر من أربعة آلاف مؤتزرين بالأُزر الصنعانية وبيدهم العصي والخَشَب وما أن رآهم الرجل القرشي حتى قال: "ما أن رأيتُ أسلم حتى أيقنتُ بالنصر"، ولكن النصر على مَنْ أيها الرجل؟ النصر بالوصول إلى كرسي السلطة الذي ليس لهم شرعية بالوصول إليه ولا حق به مع وجود أهل البيت الأطهار ورأسهم أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (ع).
العباس يعرف ويعترف
والتاريخ هنا يحدِّث عن العباس بن عبد المطلب أنه قال لأمير المؤمنين (ع): (أُمْدُدْ يَدَكَ يَا اِبْنَ أَخِ أُبَايِعْكَ فَيَقُولُ اَلنَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اَللَّهِ بَايَعَ اِبْنَ أَخِيهِ فَلاَ يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اِثْنَانِ)، وكان شاهداً على ذلك أبناء العباس عبد الله، والفضل، وقثم، وعبيد الله، جميعاً حيث كانوا يساعدون أمير المؤمنين (ع) بتغسيل وتكفين وتجهيز رسول الله (ص)، فرأوا وسمعوا أباهم يطلب من ابن أخيه أن يمدَّ يده ليبايعه فكيف تجرأوا على السلطة عندما سنحت لهم الفرصة وأمامهم سادتهم وأئمتهم من آل محمد (صلوات الله عليهم)، وهو يعرفون ويعلمون علم اليقين أن الحق كل الحق لهم، وهم أحق الناس بالناس كما اعترف طاغيتهم هارون الرشيد وشهد عليه ولده عبد الله المأمون بقصة يرويها لعامة الناس فاسمعه حيث يقول ويشهد على والده وأهل بيته جميعاً.
هارون والملك عقيم
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ نِزَارٍ قَالَ: كُنْتُ يَوْماً عَلَى رَأْسِ اَلْمَأْمُونِ فَقَالَ: أَ تَدْرُونَ مَنْ عَلَّمَنِي اَلتَّشَيُّعَ؟
فَقَالَ اَلْقَوْمُ جَمِيعاً: لاَ وَاَللَّهِ مَا نَعْلَمُ، قَالَ: عَلَّمَنِيهِ اَلرَّشِيدُ، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ وَاَلرَّشِيدُ كَانَ يَقْتُلُ أَهْلَ هَذَا اَلْبَيْتِ؟
قَالَ: كَانَ يَقْتُلُهُمْ عَلَى اَلْمُلْكِ لِأَنَّ اَلْمُلْكَ عَقِيمٌ وَلَقَدْ حَجَجْتُ مَعَهُ سَنَةً فَلَمَّا صَارَ إِلَى اَلْمَدِينَةِ تَقَدَّمَ إِلَى حُجَّابِهِ وَقَالَ: لاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِنْ أَهْلِ اَلْمُهَاجِرِينَ وَاَلْأَنْصَارِ وَبَنِي هَاشِمٍ وَسَائِرِ بُطُونِ قُرَيْشٍ إِلاَّ نَسَبَ نَفْسَهُ وَكَانَ اَلرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى جَدِّهِ مِنْ هَاشِمِيٍّ، أَوْ قُرَشِيٍّ، أَوْ مُهَاجِرِيٍّ، أَوْ أَنْصَارِيٍّ، فَيَصِلُهُ مِنَ اَلْمَالِ بِخَمْسَةِ آلاَفِ دِينَارٍ وَمَا دُونَهَا إِلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ عَلَى قَدْرِ شَرَفِهِ وَهِجْرَةِ آبَائِهِ، فَأَنَا ذَاتَ يَوْمٍ وَاقِفٌ إِذْ دَخَلَ اَلْفَضْلُ بْنُ اَلرَّبِيعِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْبَابِ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ قِيَامٌ عَلَى رَأْسِهِ وَاَلْأَمِينُ وَاَلْمُؤْتَمَنُ وَسَائِرُ اَلْقُوَّادِ، فَقَالَ: اِحْفَظُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، ثُمَّ قَالَ لِآذِنِهِ: اِئْذَنْ لَهُ، وَلاَ يَنْزِلْ إِلاَّ عَلَى بِسَاطِي.
فَإِنَّا كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ شَيْخٌ مُسَخَّدٌ قَدْ أَنْهَكَتْهُ اَلْعِبَادَةُ كَأَنَّهُ شَنٌّ بَالٍ قَدْ كُلِمَ مِنَ اَلسُّجُودِ وَجْهُهُ وَأَنْفُهُ فَلَمَّا رَأَى اَلرَّشِيدَ رَمَى بِنَفْسِهِ عَنْ حِمَارٍ كَانَ رَاكِبَهُ فَصَاحَ اَلرَّشِيدُ: لاَ وَاَللَّهِ إِلاَّ عَلَى بِسَاطِي، فَمَنَعَهُ اَلْحُجَّابُ مِنَ اَلتَّرَجُّلِ وَنَظَرْنَا إِلَيْهِ بِأَجْمَعِنَا بِالْإِجْلاَلِ وَاَلْإِعْظَامِ، فَمَا زَالَ يَسِيرُ عَلَى حِمَارِهِ حَتَّى صَارَ إِلَى اَلْبِسَاطِ وَاَلْحُجَّابُ وَاَلْقُوَّادُ مُحْدِقُونَ بِهِ، فَنَزَلَ فَقَامَ إِلَيْهِ اَلرَّشِيدُ وَاِسْتَقْبَلَهُ إِلَى آخِرِ اَلْبِسَاطِ فَقَبَّلَ وَجْهَهُ وَعَيْنَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى صَيَّرَهُ فِي صَدْرِ اَلْمَجْلِسِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ فِيهِ وَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ وَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ أَحْوَالِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ مَا عَلَيْكَ مِنَ اَلْعِيَالِ؟
فَقَالَ: يَزِيدُونَ عَلَى اَلْخَمْسِمِائَةِ، قَالَ: أَوْلاَدٌ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: لاَ أَكْثَرُهُمْ مَوَالِيَّ وَحَشَمٌ أَمَّا اَلْوَلَدُ فَلِي نَيِّفٌ وَثَلاَثُونَ وَاَلذُّكْرَانُ مِنْهُمْ كَذَا وَاَلنِّسْوَانُ مِنْهُمْ كَذَا، قَالَ: فَلِمَ لاَ تُزَوِّجُ اَلنِّسْوَانَ مِنْ بَنِي عُمُومَتِهِنَّ وَأَكْفَائِهِنَّ؟
قَالَ: اَلْيَدُ تَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَمَا حَالُ اَلضَّيْعَةِ؟ قَالَ: تُعْطِي فِي وَقْتٍ وَتَمْنَعُ فِي آخَرَ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَمْ؟ قَالَ: نَحْوُ عَشَرَةِ آلاَفِ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ اَلرَّشِيدُ: يَا اِبْنَ عَمِّ أَنَا أُعْطِيكَ مِنَ اَلْمَالِ مَا تُزَوِّجُ اَلذُّكْرَانَ وَاَلنِّسْوَانَ وَتَقْضِي اَلدَّيْنَ وَتَعْمُرُ اَلضِّيَاعَ.
فَقَالَ لَهُ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يَا اِبْنَ عَمِّ، وَشَكَرَ اَللَّهُ لَكَ هَذِهِ اَلنِّيَّةَ اَلْجَمِيلَةَ، وَاَلرَّحِمُ مَاسَّةٌ، وَاَلْقَرَابَةُ وَاشِجَةٌ، وَاَلنَّسَبُ وَاحِدٌ وَاَلْعَبَّاسُ عَمُّ اَلنَّبِيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَصِنْوُ أَبِيهِ، وَعَمُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وَصِنْوُ أَبِيهِ، وَمَا أَبْعَدَكَ اَللَّهُ مِنْ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ وَقَدْ بَسَطَ يَدَكَ وَأَكْرَمَ عُنْصُرُكَ وَأَعْلَى مَحْتِدَكَ؟
فَقَالَ: أَفْعَلُ ذَلِكَ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ وَكَرَامَةً، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ عَلَى وُلاَةِ عَهْدِهِ أَنْ يَنْعَشُوا فُقَرَاءَ اَلْأُمَّةِ وَيَقْضُوا عَنِ اَلْغَارِمِينَ وَيُؤَدُّوا عَنِ اَلْمُثْقَلِ وَيَكْسُوا اَلْعَارِيَ وَيُحْسِنُوا إِلَى اَلْعَانِيَ فَأَنْتَ أَوْلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
فَقَالَ: أَفْعَلُ يَا أَبَا اَلْحَسَنِ، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ اَلرَّشِيدُ لِقِيَامِهِ وَقَبَّلَ عَيْنَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ وَعَلَى اَلْأَمِينِ وَاَلْمُؤْتَمَنِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اَللَّهِ وَيَا مُحَمَّدُ وَيَا إِبْرَاهِيمُ اِمْشُوا بَيْنَ يَدَيْ عَمِّكُمْ وَسَيِّدِكُمْ خُذُوا بِرِكَابِهِ وَسَوُّوا عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَشَيِّعُوهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ أَبُو اَلْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) سِرّاً بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَبَشَّرَنِي بِالْخِلاَفَةِ فَقَالَ لِي: (إِذَا مَلَكْتَ هَذَا اَلْأَمْرَ فَأَحْسِنْ إِلَى وُلْدِي).
ثُمَّ اِنْصَرَفْنَا وَكُنْتُ أَجْرَى وُلْدِ أَبِي عَلَيْهِ فَلَمَّا خَلاَ اَلْمَجْلِسُ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ مَنْ هَذَا اَلرَّجُلُ اَلَّذِي قَدْ أَعْظَمْتَهُ وَأَجْلَلْتَهُ وَقُمْتَ مِنْ مَجْلِسِكَ إِلَيْهِ فَاسْتَقْبَلْتَهُ وَأَقْعَدْتَهُ فِي صَدْرِ اَلْمَجْلِسِ وَجَلَسْتَ دُونَهُ، ثُمَّ أَمَرْتَنَا بِأَخْذِ اَلرِّكَابِ لَهُ؟
قَالَ: هَذَا إِمَامُ اَلنَّاسِ، وَحُجَّةُ اَللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَخَلِيفَتُهُ عَلَى عِبَادِهِ.
فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ وَ لَيْسَتْ هَذِهِ اَلصِّفَاتُ كُلُّهَا لَكَ وَفِيكَ؟
فَقَالَ: أَنَا إِمَامُ اَلْجَمَاعَةِ فِي اَلظَّاهِرِ وَاَلْغَلَبَةِ وَاَلْقَهْرِ، وَمُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ إِمَامُ حَقٍّ وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّ إِنَّهُ لَأَحَقُّ بِمَقَامِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنِّي وَمِنَ اَلْخَلْقِ جَمِيعاً وَ وَاَللَّهِ لَوْ نَازَعْتَنِي هَذَا اَلْأَمْرَ لَأَخَذْتُ اَلَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ فَإِنَّ اَلْمُلْكَ عَقِيمٌ.
فَلَمَّا أَرَادَ اَلرَّحِيلَ مِنَ اَلْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ أَمَرَ بِصُرَّةٍ سَوْدَاءَ فِيهَا مِائَتَا دِينَارٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى اَلْفَضْلِ بْنِ اَلرَّبِيعِ فَقَالَ لَهُ: اِذْهَبْ بِهَذِهِ إِلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ نَحْنُ فِي ضِيقَةٍ وَسَيَأْتِيكَ بِرُّنَا بَعْدَ اَلْوَقْتِ، فَقُمْتُ فِي صَدْرِهِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ تُعْطِي أَبْنَاءَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَاَلْأَنْصَارِ وَسَائِرَ قُرَيْشٍ وَبَنِي هَاشِمٍ وَمَنْ لاَ تَعْرِفُ حَسَبَهُ وَنَسَبَهُ خَمْسَةَ آلاَفِ دِينَارٍ إِلَى مَا دُونَهَا وَتُعْطِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ وَقَدْ أَعْظَمْتَهُ وَأَجْلَلْتَهُ مِائَتَيْ دِينَارٍ أَخَسَّ عَطِيَّةٍ أَعْطَيْتَهَا أَحَداً مِنَ اَلنَّاسِ؟
فَقَالَ: اُسْكُتْ لاَ أُمَّ لَكَ فَإِنِّي لَوْ أَعْطَيْتُ هَذَا مَا ضَمِنْتُهُ لَهُ مَا كُنْتُ أَمِنْتُهُ أَنْ يَضْرِبَ وَجْهِي غَداً بِمِائَةِ أَلْفِ سَيْفٍ مِنْ شِيعَتِهِ وَمَوَالِيهِ وَفَقْرُ هَذَا وَأَهْلِ بَيْتِهِ أَسْلَمُ لِي وَلَكُمْ مِنْ بَسْطِ أَيْدِيهِمْ وَأَعْيُنِهِمْ). (عيون الأخبار: ج۱ ص۸۸)
هذه الرواية العباسية ومن رأس السلطة فيهم وأقوى شخصية ربما في الخلفاء والحكام من بني العباس وهو أعلمهم قطعاً ويقيناً من عبد الله المأمون، وإذا أراد الباحث المدقق أن يتتبع هذه الرواية فإنه يحتاج إلى مجلد كامل ليشرحه ويوفيه حقه من البيان والشرح والتوضيح، ولكن معالم الحق واضحة وبيِّنة فيه، وما نريد الإشارة إليه هو هذا الاعتراف الناتج عن علم ومعرفة من بني العباس وسلاطينهم بالحق الصراح، وبمقام الإمامة الذي يختص به أئمة المسلمين من آل محمد وكان سيدهم وإمامهم وحجة الله على الخلق في عصره ذاك الإمام العظيم الذي وصفوه بالأسد الخادر في عرينه، وأسد بغداد، الإمام السابع من أئمة المسلمين الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام).
فهارون الرشيد، وولده عبد الله المأمون يعلمون حقاً وصدقاً: أن أحق الناس بالناس، وإمام الأمة هو موسى بن جعفر، وليس هم فالسلطة الحقيقية للإمام وليس للسلطان، ولكن السلطان قهر الإمام واغتصب حقه بحجة واهية وهي: (أن الملك عقيم ولو نازعتني عليه لأخذت الذي فيه عينيك)، لأن الإمام يكون إمام القلوب والأرواح وهو الإمام الحق، وأما الحاكم فهو إمام وقاهر الأجسام والأجساد بالقوة والقهر والغلبة، وكم هو الفرق بين إمام القوب والأرواح وحاكم الأجسام والأجساد؟
السلطة العباسية الجائرة
فالتاريخ الإسلامي يشهد أن هذه السلطة قامت منذ البداية على شعار: (الرِّضا من آل محمد)، والدَّعوة إلى الإمام جعفر الصادق (ع) قال المسعودي: "كاتب أبو سَلَمَةَ الخلّال ثلاثة من أعيان العلويين وهم جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام) وعمر الأشرف بن زين العابدين، وعبد اللّه المحض، وأرسل الكتب مع رجل من مواليهم يسمى محمد بن عبد الرحمن بن أسلم مولى لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، وقال أبو سلمة للرسول : العجل، العجل فلا تكونن كواقد عاد وقال له: اقصد أولا جعفر بن محمد الصادق فإن أجاب فأبطل الكتابين الآخرين وإن لم يجب فالق عبد اللّه المحض، فإن أجاب فأبطل كتاب عمر وإن لم يجب فالق عمر.
فذهب الرسول إلى جعفر بن محمد أولاً، ودفع إليه كتاب أبي سلمة فقال الإمام (عليه السّلام): (ما لي ولأبي سلمة وهو شيعة لغيري؟!). فقال له الرجل: اقرأ الكتاب، فقال لخادمه: إدنِ السِّراج منِّي فأدناه، فوضع الكتاب على النار حتى احترق، فقال الرسول: ألا تجبه؟ قال (عليه السّلام): قد رأيت الجواب، عرّف صاحبك بما رأيت) (مروج الذهب: 3 ص 254)
فلم يقبل بها بل وأحرق كتاب ورسالة أبو سلمة الخلال قائد الجيوش الإسلامية في خراسان قبل أن يقرأها حتى تعجَّب حامل الرسالة فقال: (ما رأيتُ كاليوم شخص تأتيه الخلافة فيرفضها)، نعم؛ أئمة المسلمين يرفضون الحكم والخلافة والسلطة التي تقوم على غير الشرعية لقهر الناس والتغلب عليهم والتسلط على مقدراتهم بلا حق ولا شرعية، لأن إمامتهم من الله تعالى وسلطتهم على القلوب والأرواح، فقد قيل: (إنّه لقيه الرَّشيد عند الكعبة، فلم يقم له حتى وقف الرَّشيد على رأسه فقال: أنت الذي يبايعك الناس؟ قال: (نعم، أنا إمام القلوب، وأنت إمام الجسوم). (عوالم العلوم: ج۲۱ ص۲4۲)
فقد رُوِيَ: أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ اَلرَّشِيدُ وَنَزَلَ فِي اَلْمَدِينَةِ اِجْتَمَعَ إِلَيْهِ بَنُو هَاشِمٍ وَبَقَايَا اَلْمُهَاجِرِينَ وَاَلْأَنْصَارِ وَوُجُوهُ اَلنَّاسِ وَكَانَ فِي اَلنَّاسِ اَلْإِمَامُ أَبُو اَلْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ) فَقَالَ لَهُمُ اَلرَّشِيدُ: قُومُوا بِنَا إِلَى زِيَارَةِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، ثُمَّ نَهَضَ مُعْتَمِداً عَلَى يَدِ أَبِي اَلْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (صَلَوَاتُ اَللَّهِ عَلَيْهِمَا) حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى قَبْرِ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا اِبْنَ عَمِّ؛ اِفْتِخَاراً بِذَلِكَ عَلَى قَبَائِلِ اَلْعَرَبِ اَلَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ، وَاِسْتِطَالَةً عَلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ، قَالَ: فَنَزَعَ أَبُو اَلْحَسَنِ مُوسَى (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يَدَهُ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: (اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَبَهْ)، قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ اَلرَّشِيدِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَخْرُ). (بحار الأنوار: ج۲۵ ص۲4۳)
وفي رواية أن اَلرَّشِيدُ قَالَ عِنْدَ قَبْرِ اَلنَّبِيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا اِبْنَ عَمِّ، فَقَالَ مُوسَى (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): (اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَبَهْ)، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ اَلرَّشِيدِ، فَقَالَ لَهُ اَلرَّشِيدُ: أَنَا وَأَنْتَ اِبْنَا عَمِّهِ، فَقَالَ: (إِنْ كَانَ حَيّاً وَخَطَبَ اِبْنَتَكَ هَلْ تُزَوِّجُهُ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (وَهَلْ يَخْطُبُ إِلَيَّ بِنْتِي؟) قَالَ: لاَ). (مجموعة نفیسة: ج۱ ص۱۹۸)
أي أن الرشيد ابن عمِّه وأما الإمام موسى الكاظم فكان ولده وبناته محرَّمة على جدِّهم رسول الله (ص) ولذا حقدها على الإمام موسى (ع) وخطفه من مدينة جده وأخذه إلى سجن البصرة، ثم إلى سجن بغداد ونقله من سجن إلى آخر حتى طالت فتره سجنه إلى أكثر من أربعة عشر سنة عجافاً إلى أن ضاق اللعين هارون بالإمام ذرعاً فأمر السَّجان السِّندي بن شاهك أن يدسَّ له السَّم في طعامه فذهب إلى ربه شهيداً سعيداً وشاهداً على ظلم وطغيان السلطة العباسية، وعظمة وحقيقة السلطة الشرعية للإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)، في الخامس والعشرين من شهر رجب المحرم فلم يمنع هارون اغتيال الإمام المظلوم (عليه السلام)، فعظم الله أجركم يا مؤمنين بأسد بغداد وإمام القلوب والأرواح الإمام السابع من أئمة المسلمين الإمام موسى بن جعفر الكاظم.
اضف تعليق