q
هنا يتجلى لنا المُراد من قول الإمام عارفاً بحقّها، فهو يكشف عن أنّ زائر هذه السيّدة الجليلة ينال الجنّة إذا زارها وهو عارف ومعتقد بما ثبت لها من المقام الرفيع والرتبة العظيمة. إذا عرف الزائر مقام هذه السيدة الجليلة اختلفت حالته عمّا لو لم يكن يعرف شيئاً عنها...

تميّزت السيّدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليها السلام) من بين معظم أبناء المعصومين (عليهم السلام) بخصائص مهمّة قلّما تسنّت لغيرها من ذراري المعصومين (عليهم السلام) ما يدل على شرافة قدرها وعظم منزلتها الرفيعة وعلو مقامها الشامخ عند الله عزّ وجلّ.

ومن أهم ما خُصّت به هذه السيّدة الجليلة هي زيارتها الشريفة التي وردتنا بسند معتبر عن أخيها الإمام الرضا (عليه السلام) والتزم بها الشيعة الموالون عبر العصور المختلفة حيث يقصد حرمها الطاهر الملايين من الناس من شتى بقاع العالم لينالوا شرف زيارتها في مدينة قم المقدّسة.

وقبل أن نتعرّض إلى جملة من المطالب الشريفة في زيارتها لا بأس أن نشير إلى بعض الأمور:

أولاً: من عظمة هذه السيّدة الطاهرة أنّ جدّها الإمام الصادق (عليه السلام) أشار إلى عظمة زيارتها قبل أن تطل على الدنيا مشيراً إلى أنّ جزاء زيارتها هي الجنّة، قال (عليه السلام): إنّ لله حرماً وهو مكة، وإنّ لرسول الله حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن امرأة من أولادي تُسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة. بحار الأنوار: 60/216.

ثانياً: نصّ أكثر من خبر عن أهل البيت (عليهم السلام) على أنّ زائر السيّدة المعصومة (عليه السلام) له الجنة، ومن ذلك ما روي عن الإمام الجواد (عليه السلام) قال: من زار عمّتي بقم فله الجنة. كامل الزيارات: 324.

ثالثاً: مقابل الأخبار الدالة على أنّ زيارة السيّدة فاطمة (عليها السلام) يستوجب الجنة دون أيّ قيد نُقل في بعض الكتب خبراً منسوباً للإمام الرضا (عليه السلام) اُشتراط فيه المعرفة بقدرها، فقال لسعد بن علي: ياسعد لنا عندكم قبر؟

قال سعد: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى سلام الله عليها؟

قال: نعم، من زارها عارفا بحقّها فله الجنة. بحار الأنوار: 102/265.

ومن الواضح أنّ الأخبار المطلقة الدالة على أنّ من زار السيّدة المعصومة (عليها السلام) له الجنة تُقيّد بقول الإمام الرضا (عليه السلام): عارفاً بحقّها، ولكن السؤال هنا: ما المُراد من قوله (عليه السلام): عارفاً بحقّها؟

فمن المُسلّم به أنها ليست من المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) حتى يُقال: المُراد بمعرفتها أنها مفترضة الطاعة، ولذا ينبغي أن نلتمس وجوها تقرّبنا إلى المُراد من عبارة الإمام (عليه السلام).

ومن الوجوه التي تُقرّبنا إلى ذلك هو معرفة معنى الحقّ لغةً وهو: الأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره.

قال ابن منظور: وحقّ الأمر يحق حقاً وحقوقاً: صار حقاً وثبت. لسان العرب: 10/49.

وقال الجواهري: وحقّ الأمر يحقّ...صار حقاً وثبت. تاج العروس: 13/81.

وهنا يتجلى لنا المُراد من قول الإمام (عليه السلام): عارفاً بحقّها، فهو يكشف عن أنّ زائر هذه السيّدة الجليلة ينال الجنّة إذا زارها وهو عارف ومعتقد بما ثبت لها من المقام الرفيع والرتبة العظيمة.

بالطبع إذا عرف الزائر مقام هذه السيدة الجليلة اختلفت حالته عمّا لو لم يكن يعرف شيئاً عنها، ولعل هذا الوجه في تأكيد أهل البيت (عليهم السلام) على مسألة المعرفة في الزيارات.

وعلى كل يبقى السؤال مطروحاً وهو: كيف نصل إلى معرفة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) حقّ المعرفة؟

الجواب: هناك كثير من الأمور تكشف عن مقامها العظيم ومنها زيارتها الشريفة التي اُختصت بها دون كثير من أبناء المعصومين (عليهم السلام) ممّن لم يرد في حقّهم زيارة خاصة.

نعم، فقد ورد لهذه السيّدة الجليلة زيارة بسند معتبر عن أخيها الإمام الرضا (عليه السلام)، وامتازت هذه الزيارة بالعديد من المضامين الرفيعة تكشف عن عظم مقامها وتُعرّف الزائر بهذه السيدة الطاهرة من حيثيات متعدّدة ومنها:

الامتداد الرسالي

أول ما يبدأ به زائر السيّدة المعصومة هو السلام على الصفوة من الأنبياء والرُسل ومنهم: آدم أبو البشر صفوة الله، ونوح نبي الله، وإبراهيم خليل الله، وموسى كليم الله، وعيسى روح الله.

وهذا تعريف لهذه السيّدة الجليلة على أنها من امتدادات الأنبياء والرسل، ويثبت للزائر أنها فرع من تلك الشجرة الرساليّة الطيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.

الإنتماء إلى بيت النبوة

وبعد السلام بصيغة الغائب على الصفوة من الأنبياء والرُسل يتغيّر لحن السلام إلى الخطاب المباشر حيث نقول بعد السلام على الأنبياء (عليهم السلام): السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا صفي الله، السلام عليك يا محمد بن عبدالله خاتم النبيين، ويستمر السلام مباشرة على سائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام) واحداً بعد الآخر ممّا يشير إلى أنّ هذه السيّدة تنتمي إلى هذه الأصول المباركة.

النسب الشريف

ومن الأمور التي تُعرّف بها الزيارة الشريفة هذه السيّدة العظيمة قوله (عليه السلام): السلام عليك يا بنت رسول الله، السلام عليك يابنت فاطمة وخديجة، السلام عليك يا بنت أمير المؤمنين، السلام عليك يا بنت الحسن والحسين.. السلام عليك يابنت موسى بن جعفر ورحمة الله وبركاته.

وهذا تعريف نسبي للزائر بهذه السيّدة الطاهرة على أنها من خيرة الأنساب والبيوتات، فهي بنت المفاخر الكرام، ومن نسب رسول الله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

ربيبة الإمامة

ومن الأمور التي عرّفت لنا السيّدة المعصومة (عليها السلام) في الزيارة هي قولنا: السلام عليك يابنت ولي، السلام عليك يا أخت ولي الله، السلام عليك يا عمّة ولي الله.

وهذا تعريف من نوع آخر للزائر على أنّ هذه السيّدة الجليلة ليست كسائر الخلق العاديين بل إنّها محاطة بالعظمة من جهات عدّة، فهي بنت لولي الله، وأخت لولي الله، وعمّة لولي الله.

وبعبارة أخرى: أنها محفوفة بالإمامة ومعاشرة لأئمة هداة مهديّين اصطفاهم الله تعالى وجعلهم سادة على الخلق، ومن الطبيعي أنّ من يكون محشوراً مع هكذا عظماء وسادة يترعرع على العظمة وينال منهم الدرجات العلى.

مجمع النورين

ومن الأمور التي عرفت الزيارة لهذه السيّدة الجليلة كونها بنتاً لسبطي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألا وهما الحسن والحسين (عليهما السلام) حيث نقول: السلام عليك يا بنت الحسن والحسين (عليهما السلام).

أمّا كونها بنتاً للإمام الحسين (عليه السلام) فواضح، ولكن يبقى السؤال كيف تكون هذه السيدة الجليلة بنتاً للإمام الحسن (عليه السلام)؟

الجواب: من خلال السيّدة فاطمة حفيدة الإمام الحسن المجتبى (عليهم السلام)، وكنيتها أُمّ فروة، وكان الإمام السجاد (عليه السلام) يسمّيها الصدّيقة، وقد وصفها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: كانت صدّيقة لم تدرك في آل الحسن امرأة مثلها. الكافي: 1/469.

وكانت ذات كرامة على الله تعالى، فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كانت أمي قاعدة عند جدار فتصدّع الجدار، وسمعنا هدّة شديدة، فقالت بيدها: لا وحقّ المصطفى ما أذن الله لك في السقوط، فبقي معلّقاً في الجوّ حتى جازته، فتصدّق أبي عنها بمائة دينار. الكافي: 1/469.

وهي المعنيّة في الخبر الوارد عن سفيان بن مصعب العبدي، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: قولوا لأُمّ فروة تجيء فتسمع ما صنع بجدّها، قال: فجاءت فقعدت خلف الستر، ثم قال: أنشدنا.

قال: فقلت: فرو جودي بدمعك المسكوب، قال: فصاحت وصحن النساء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) الباب الباب، فاجتمع أهل المدينة على الباب.

قال: فبعث إليهم أبو عبد الله (عليه السلام) صبي لنا غشي عليه فصحن النساء. الكافي: 8/216.

وهي التي روت حديث الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: إني لأدعوا لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة مأة مرة لأنا نصبر على ما نعلم ويصبرون على ما لا يعلمون. إثبات الوصية: 182.

وعلى أيّ فالسيّدة المعصومة (عليها السلام) تتصل إلى الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) عبر هذه السيّدة الجليلة.

من بركات زيارة السيّدة فاطمة المعصومة (ع)

بعد أن يطوف زائر السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) بهذه الخصال الرفيعة ويتعرّف على مناقبها المنيعة يصل إلى مقام آخر في زيارتها ألا وهو مقام السؤال وعرض الحوائج الأمر الذي يدل على أنها من أبواب الحوائج إلى الله تعالى، وإلا فلا معنى أن يعرض الزائر حوائجه عند من لا يتأتّى منه قضائها؟

وكما يُقال: فاقد الشيء لا يعطيه.

ومن أهم ما يطلبه الزائر في زيارته إيّاها هو:

1- الفوز بمعرفة بأهل البيت (عليهم السلام): وهذا ما نُصّ عليه في الزيارة حيث نقول: السلام عليك عرّف الله بيننا وبينكم في الجنّة.

ويظهر من العبارة المذكورة أنّ من بركات زيارة هذه السيّدة الطاهرة هو نيل شرف معرفة أهل البيت (عليهم السلام) في الجنان، وهذا ما أشار إليه المؤمنين (عليه السلام) في بيان قوله تعالى: {رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسيماهُم‏}، قال: نحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه. بصائر الدرجات: 1/496.

وليس ذلك فحسب، بل إنّ من بركات زيارة هذه السيدة الثبات على معرفة أهل بيت البيت (عليهم السلام) وعدم سلب تلك النعمة وهذا يظهر من قوله (عليه السلام): وأن لا يسلبنا معرفتكم إنّه ولي قدير.

2- رؤية السرور والفرج: ومن بركات زيارة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) أيضاً أنّ زائرها يرى السرور والفرج، وهذا ما يظهر من قوله (عليه السلام): وأن يرينا فيكم السرور والفرج.

بالطبع إن قلنا إن حرف (في) هنا للسببية فيكون المعنى أنّ الزائر يسأل الله تعالى أن يريه بسبب أهل البيت (عليهم السلام) ومنهم السيدة المعصومة (عليها السلام) السرور والفرج.

أما لو كان حرف (في) هنا للظرفية، فيكون المعنى أنّ الزائر يسأل الله تعالى أن يرى يوم ذلك اليوم الذي يسر فيه أهل البيت (عليهم السلام) ويفرّج عنهم وهو يوم ظهور موعودهم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن تملأ ظلماً وجوراً.

وخير شاهد على أنّ يوم ظهور إمام الزمان (عليه السلام) هو يوم سرور أهل البيت (عليهم السلام) ما ورد في دعاء العهد حيث نقول: اللهم وسرّ نبيك (صلى الله عليه وآله) برؤيته ومن تبعه على دعوته.

3- الاجتماع معهم في زمرة جدّهم محمد (صلى الله عليه وآله): ومن بركات زيارة السيّدة المعصومة (عليها السلام) أنّ زائرها يسأل الله تعالى أنّ يجتمع مع في أهل البيت (عليهم السلام) في زمرتهم، وهذا فوز كبير لا يناله إلا ذو حظ عظيم، ويشهد لذلك ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا)، قال: ثم ينادي مناد من تلقاء العرش أين النبي الأمي، فيقول الناس: قد أسمعت فسم باسمه- فينادي أين نبي الرحمة أين محمد بن عبد الله الأمي؟

فيقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمام الناس كلهم- حتى ينتهي إلى حوض طوله ما بين أيلة و صنعاء فيقف عليه فينادي بصاحبكم فيقدم علي (عليه السلام) أمام الناس فيقف معه ثم يؤذن للناس- فيمرّون فبين وارد الحوض يومئذ وبين مصروف عنه- فإذا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يصرف من محبينا يبكي ويقول: يا رب شيعة علي.

قال: فيبعث الله إليه ملكا فيقول له: ما يبكيك يا محمد؟

فيقول: أبكي لأناس من شيعة علي أراهم قد صرفوا تلقاء أصحاب النار ومنعوا ورود حوضي- قال: فيقول الملك: إن الله يقول: قد وهبتهم لك يا محمد وصفحت لهم عن ذنوبهم بحبهم لك ولعترتك وألحقتهم بك وبمن كانوا يتولون به- وجعلناهم في زمرتك‏ فأوردهم حوضك-.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): فكم من باك يومئذ وباكية ينادون يا محمداه إذا رأوا ذلك- ولا يبقى أحد يومئذ يتولانا و يحبّنا و يتبرأ من عدونا- ويبغضهم إلا كانوا في حزبنا و معنا ويردون حوضنا). تفسير القمي: 2/64.

6- الشفاعة: ومن بركات زيارة هذه السيّدة الطاهرة هي نيل شفاعتها وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: ألا وإنّ قم‏ الكوفة الصغيرة، ألا إنّ للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى و تدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم. بحار الأنوار: 57/228.

وربما تساءل البعض هنا: مع شفاعة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ما الوجه في شفاعة السيّدة المعصومة (عليها السلام)؟

الجواب: لا منافاة في ذلك، وكما يقول الأصوليون: أنهما من المثبتات، أي أنّ الشفاعة لأهل البيت وللمعصومة (عليهم السلام).

وقد يُقال: شفاعة السيّدة المعصومة (عليها السلام) في طول شفاعة المعصومين (عليهم السلام)، فهي تشفع للعصاة من المُذنبين بعد شفاعة الأئمة الأطهار (عليهم السلام).

وهنا يحضرني مانقل في أحوال المحدّث القمّي (رحمه الله) أنه كان يرتقي المنبر أيام شهادة الصديقة الزهراء (عليها السلام) في مدينة قم المقدسة، فقال: رأيت ذات ليلة المحقّق القمّي صاحب القوانين فسألته: هل أن شفاعة السيّدة المعصومة (عليها السلام) تشمل أهل قم فقط؟

فأجابني قائلاً: أنا أشفع لأهل قم والسيّدة المعصومة (عليها السلام) تشفع للعالم كله.

7- الختم بالسعادة: ومن أعظم بركات زيارة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) هو الختم بالسعادة وهو منية الصالحين من أهل الدين.

وقد فسّر أمير المؤمنين (عليه السلام) السعادة، فقال: حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة، وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء. الخصال: 1/5.

وهناك كثير من البركات والفوائد لزيارة هذه السيّدة الجليلة يشهدها كل من قصدها بالزيارة وتبرك بأعتابها الطاهرة سائلين المولى تعالى أن تشملنا عناياتها وألطافها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

اضف تعليق