q
إسلاميات - اهل البيت

الانسان الاجتماعي في مفهوم الامام علي (ع)

مفاتيح النهضة والتقدم في نهج الإمام علي عليه السلام (9)

من أهم عناصر وجود الانسان الاجتماعي هو مفهوم الأخوّة، وهي عامل أساسي ولبنة في البناء التحتي لتشكيل المجتمع، فمن الأخوة ينطلق التأسيس الاجتماعي الصحيح، لأنه من خلالها ينتشر الإنسان الاجتماعي في المجتمع، فيتطور ويخرج من حالة التوحش ويدخل في حالة الائتناس والتقارب والتآلف فيما بين أفراد المجتمع...

نواصل البحث في قراءة نهج الإمام علي (عليه السلام) ودور السلم والتآلف في تحقيق النهضة والتقدم، حيث ذكرنا بعض المفاتيح مثل الصبر عنوان السلام والعفو المطلق، ومفهوم القوة.

في هذا المقال سنطرح مفهوم (الإنسان الاجتماعي) في نهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، ودوره في بناء السلم والسلام.

من أهم النقاط التي ركز عليها القرآن الكريم ورسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأهل البيت (عليهم السلام) هي بناء الإنسان الاجتماعي، لأنه هو الذي يحقق عملية التوحد والانسجام والاستقرار الاجتماعي، وبالتالي تتم عملية صناعة المجتمع الصحيح، فالإنسان جزء من المجتمع، ولو كان الإنسان أنانيا أو عنيفا أو عدوانيا أو مصلحيا، فهو سيكون منشقا عن المجتمع وبالتالي مدمِّرا له، لاسيما إذا تعدد الأفراد الذين يعملون بهذه الطريقة الانشقاق والانشطار.

بناء التسالم الاجتماعي

إن سبب صعود الازمات والانشقاقات في الكثير من المجتمعات في العصور المتأخرة، هو عدم وجود الإنسان الاجتماعي الذي يتآلف ويتسالم مع الآخرين في مجتمعه، وإذا لاحظنا الروايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) فهي تؤكد على بناء التآلف، والتسالم الاجتماعي، وهناك روايات كثيرة حول الصداقة والأخوّة والمودّة وصلة الرحم، والعطاء والتكافل والتكامل.

كل هذه القيم تؤكد على بناء الإنسان الاجتماعي، المبدئي، وليس الإنسان الذي يعمل لمصلحته الخاصة، وبناء الإنسان الاجتماعي تجعله شخصا ناجحا اجتماعيا.

هناك روايات كثيرة للإمام علي (عليه السلام) يؤكد فيها على أهمية بناء الإنسان الاجتماعي (فالناس صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، هذه هي عملية التقارب والتعارف، لأنها فلسفة القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) سورة الحجرات، آية 13.

هذا هو منطق السنّة الكونية، والتعارف والحوار والاستماع، فكيف يمكن تحقق هذا المجتمع الجيد من دون وجود الإنسان الاجتماعي؟، ويعني ذلك هيمنة التوحّش وعدم الاستئناس بين البشر، مع وجود صدام شديد في مختلف الاتجاهات، ولذلك نرى العالم كله في حالة تصدّع وحرب، وعدم وجود تفاهم وتعايش وسلام إنساني، مع سوء الظن الشديد بالآخرين، وهذا بالنتيجة يقود الدول والمجتمعات إلى حافة الانهيار.

التأسيس الاجتماعي بالإخوة

من أهم عناصر وجود الانسان الاجتماعي هو مفهوم الأخوّة، وهي عامل أساسي ولبنة في البناء التحتي لتشكيل المجتمع، فمن الأخوة ينطلق التأسيس الاجتماعي الصحيح، لأنه من خلالها ينتشر الإنسان الاجتماعي في المجتمع، فيتطور ويخرج من حالة التوحش ويدخل في حالة الائتناس والتقارب والتآلف فيما بين أفراد المجتمع.

فقد كان المجتمع الجاهلي يعيش التفرقة حتى بين أبناء العمومة، وأفراد الأسرة الواحدة، وكان الرجال يغزون حتى أبناء الأعمام إذا لم يحصلوا على ما يريدون، فما هي القواعد والأسس التي تقوي الاخوة في المجتمع؟

الاخوة الايمانية

النقطة الأولى من الاسس أن تكون الأخوة قائمة على الرحمة والتراحم، والأخوة تقع في مستويات متعددة، الأخوة النَسَبية، والأخوة المجتمعية، والاخوة الدينية، والأخوية الإنسانية التي ذكرها الإمام علي (عليه السلام) في قوله المعروف (أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، فهي مستوى من مستويات الأخوّة.

ولكن الأخوة الدينية والإيمانية من أهم هذه الأنواع، حتى أهم من الأخوة النسَبية، والسبب أنها تربط عرى المجتمع بقوة، كما في الآية القرآنية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات 10. هنا توجد خمسة مفاهيم في هذه الآية القرآنية، وهي: الإيمان، الأخوّة، الإصلاح، التقوى، والرحمة. هذه الخماسية التي تشكل القواعد الأساسية لبناء المجتمع.

المبادئ والمصالح

هذه الخماسية تحقق معنى الأخوة، وتحقق الروابط الصحيحة والسليمة والقوية في المجتمع، لأن الإيمان والتقوى والرحمة والإصلاح، تقود المجتمع نحو روابط حقيقية وليست روابط وهمية، روابط حقيقية قائمة على مبادئ وليست مصالح، نعم هناك مصالح في المجتمع، لكنها تأتي بعد المبادئ، أما إذا تقدمت المصالح على المبادئ فإنها سوف تدمر المجتمع.

عندما تتقدم المصالح على المبادئ، حينئذ تختفي الأمانة والثقة ويعم سوء الظن والكذب والنفاق فيما بين أفراد المجتمع، لذلك فالأخوة الإيمانية هي المنطلق الأساسي لبناء جميع العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فالعلاقات القائمة بين البشر كثيرة جدا، ولكن عندما تأتي المبادئ سوف تزيد الترابط والتماسك فيما بين البشر، ولذلك فإن الأخوة الإيمانية هي أهم معاني الأخوة وأنواعها. وعن الإمام علي (عليه السلام): (رب أخ لم تلده أمك).

ونلاحظ في بعض المجتمعات أن الأخوة النسبية ليست لها قيمة عند البعض، فأفرادها يختلفون ويتصارعون ويتنازعون، وعندما يختفي معنى الإخاء الوجداني العميق الذي ينبع من القلب والرحمة والتراحم، يتخلخل بناء المجتمع، وعندما تتواجد هذه الأخوة فإنها تؤدي إلى الاستقرار والامن الاجتماعي.

المؤاخاة بلا طمع

عن الإمام علي (عليه السلام): (لكل إخاء منقطع إلا إخاء كان على غير الطمع)، أي أن الإنسان يطمع بعلاقة مع أخيه الاجتماعي لغير وجه الله وإنما للطمع، وليس لأنه أخوه المؤمن والقائم على علاقة مبدئية تقوم على الأمانة والرحمة والتراحم وحسن الظن.

إن الإنسان بحاجة إلى الأخوة، ومن يتصوّر نفسه انه قادر على أن يعيش منفردا، فهو قد يتحول الى متوحش لا يستطيع أن يأنس بالآخرين، فالغرور والطمع والحرص ومن ثم التجبر يجعل الإنسان نابذا لقيم الأخوة والعلاقات والإنسانية، وغير قادر على التعايش مع الآخرين.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (من لم تكن مودته في الله فاحذره، فإن مودته لئيمة، وصحبته مشومة).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى)، أي أن المجتمع كله يشتكي أيضا، في دلالة على أهمية التماسك الاجتماعي حيث تم تشبيه المجتمع كالجسد الواحد، كذلك يحتاج الجسد الاجتماعي إلى ترابط مهم كترابط أعضاء الجسم، كالقلب والكبد والرئة والمخ.

هذه الأعضاء تحتاج إلى عملية ترابط، وبمجرد اختلال عضو واحد منها، فإن الجسم كله ينفرط ويقع في المرض، لذلك فإن عملية الانسجام الموجودة في الجسم تؤدي إلى صحة الإنسان. كذلك الصحة الاجتماعية تحتاج إلى عملية تناسق بين الأفراد في المجتمع، بطريقة الأخوّة وليس الطمع لأنه مدمِّر للتماسك الاجتماعي. الطمع يؤدي إلى الانفراط والتوحش الاجتماعي.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (مودة أبناء الدنيا تزول لأدنى عارض يعرض) بمعنى أن روابط الحب بين الناس متعلقة بالشهوات واللذات الدنيوية، وبمجرد زوال هذه الملذات تزول العلاقة القائمة على حب الدنيا، بينما العلاقات القائمة على الأخوّة الإيمانية لا تزول وتؤدي إلى بقاء الإنسان وفيا لأخيه، حتى لو كان الأخ من جهات مختلفة عنه، فالأخ المؤمن متمسك بالمبادئ ولا يخون ولا يسرق ولا يكذب ولا ينافق. وعن الامام جعفر الصادق (عليه السلام): (المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه).

الأخ الناصح

وعن الإمام علي (عليه السلام): (خير الإخوان أقلهم مصانعة في النصيحة)، فالأخ لا يقوم بمجاملات وهمية، بل يقوم بعملية النقد الحقيقي، (المؤمن مرآة لأخيه المؤمن) كما في الحديث، (أقلهم مصانعة في النصيحة) بمعنى يقدم النصيحة الحقيقية لأخيه، وليس الكاذبة التي تؤذي ذلك الشخص وتوهمهُ بأنه على صح، وهذا يعني بقاءه على الخطأ.

الوفاء توأم الأمانة

المؤمن الحقيقي هو الذي يقوم بعملية الإصلاح، (وأصلحوا بين أخويكم)، فيقوم بعملية الترميم من خلال النقد الإيجابي، وترميم البناء الاجتماعي والبناء النفسي والذاتي للإنسان عن طريق الإصلاح، فهذا النقد وهذه الصحيحة تؤدي إلى هذا العمل.

ومن الأحاديث الجميلة العميقة للإمام علي (عليه السلام): (قضاء حقوق الإخوان أشرف أعمال المتقين)، وهي من أكثر المظاهر والمصاديق العملية للأخوة هي عملية قضاء الحوائج، وهذا هو تجسد للتقوى.

في حديث آخر للإمام (عليه السلام): (الوفاء توأم الأمانة، وزين الأخوة) أي الأخوة جمال وهذا الجمال ينعكس بالوفاء والأمانة، وبتحقيق الوعود والعهود، صناعة جميلة للمجتمع الجميل، لأن الجمال يتحقق في المبادئ وليس في المصالح.

توجد رواية جميلة عن الإمام علي (عليه السلام) تكلّم فيها عن أحوال الموتى، لكنني سأذكر هذه الرواية من باب التشابه الذي يحصل بين المجتمعات الميتة والحية، وأن المجتمع الميت هو (كالميت في القبر)، ووفق رؤيتي الشخصية أن الإمام علي (عليه السلام) أراد أن يوصل رسالة للناس، ليقول لهم: لا تكونوا كالأموات.

الأحياء الموتى

الاحياء الموتى هم هؤلاء الذين يعيشون بطريقة منحرفة أخلاقيا وعقائديا، لأنهم يعيشون التوحّد والتوحش ويعيشون عملية النبذ، بمعنى هم ينبذون أنفسهم عن المجتمع، لأنهم لا يعملون مع الآخرين بالمبادئ:

فعن الإمام علي (عليه السلام): (وَإِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَآلَافاً فَافْتَرَقُوا جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَأَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ وَانْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ)، وهذا وصف دقيق للإنسان المدفون في قبره، وافترق عن المجتمع ودخل في قبر، فأصبح وحيدا في قبره، هو وعمله، وهذا وصف جميل عن هؤلاء الذين يعملون بطريقة الموتى وهم أحياء في الحياة.

(فتشتتوا) إنه الإنسان المتشتت المفترق المنفرد وهو لا يعمل في إطار المجتمع، فهو لا يختلف عن الميت بشيء، فكل منهم منفرد ومنقطع عن الآخر، كما يحدث الآن عند الكثير من الناس، جيران منقطعون عن بعضهم، ليس هناك تواصل ولا تراحم ولا تفاهم، والمشاكل كثيرة فيما بينهم، وهم حالهم حال الموتى كل منهم يعيش في قبره ولا علاقة له بالقبر الثاني، ومن يكون في قبره هل يمكن يستأنس بجاره؟، فجميعهم وحيد.

(وأحباء لا يتزاورون)، الإنسان لا يعرف قيمة الحياة، فيعيشها في خضم الصراعات والصدامات، وكراهية واختلافات كثيرة، فتجعل حياته كالموتى، (بليت بينهم عُرى التعارف)، ومفردة (بلِيَتْ) تعني أصبحت قديمة كما الثوب البالي، بمجرد أن تمسكه يتمزق، أي أصبحت عرى التعارف بينهم ممزقة، والعرى هي الروابط القوية التي تربط بين المتعارفين من أفراد المجتمع.

الاستئناس والعمل المشترك

لكن لا يوجد تعارف كما نلاحظ اليوم في عالم شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يحدث التواصل والتعارف الوهمي القائم على الشكليات والمجاملات، وأهم نقطة يؤكدها الإمام (عليه السلام): (وانقطعت منهم أسباب الإخاء)، وهنا بيت القصيد، واسباب الإخاء تعني الروابط التي تجمع بين الأخوة، الاستئناس والألفة والتجمّع والعمل المشترك، وقضاء الحوائج بشكل متبادَل بين الناس.

لكن (كلهم وحيد) يعيش الوحدة والاغتراب، كما يعيش الميت في قبره منفصلا عن العالم، كذلك نلاحظ إنسان اليوم لا يعيش بشكل صحيح وبعيد عن كونه إنسانا مبدئيا اجتماعيا، بل يعيش وحيدا مغتربا لا علاقة له بالآخرين، فهو ميت وإن كان على قيد الحياة، ومن أهم الدلائل على الموت هو الاكتئاب. وما نراه اليوم من حالات الاكتئاب هو (موت)، حيث يشعر الإنسان بأنه لا يعيش بصورة صحيحة.

ما هي مصاديق الأخوّة؟

الأخوة هي معيار ونموذج للحياة، حتى يسير الإنسان وفق هذا المعيار والنموذج بطريقة صحيحة وسليمة، هناك نموذجان من أعظم النماذج في التاريخ البشري، حول الأخوة.

النموذج الأول: نموذج أخوّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أمير المؤمنين (عليه السلام، وهي أخوة قامت على الإيمان، والاعتقاد والتماسك العقائدي والأخلاقي، فكانت نموذجا عاليا لبناء الأخوة، وهم أهل البيت (عليهم السلام) حيث كانت حياتهم نماذج من أجل أن تسير البشرية عليها في بناء الأخوة الصحيحة والسليمة فكانوا أسوة في الحياة.

لذلك أخوَّة رسول الله مع أمير المؤمنين أخوّة نموذجية، وهي أسوة لنا في حياتنا، بحيث تصبح مثلما قال القرآن الكريم (أنفسنا وأنفسكم)، فهذا هو معنى الاندماج الأخوي الذي يحصل بين الأشخاص، فهو يؤدي إلى عملية بناء معنوي جيد، أي أنه البناء المعنوي للمجتمع المادي أو الظاهر، وهو يحتاج إلى نواة تشكل هذا المجتمع الخارجي وهي الأخوّة الإيمانية.

حتى الأخوة النسبية لابد أن تكون إيمانية حتى تنجح، وإذا كانت الأخوة النسبية من دون إيمان، سوف تصبح أخوة غير منطقية، ومجرد ترابط مادي، وقد تصبح قائمة على التعصب، وفق مبدأ انصر أخاك ظالما أو مظلوما، بينما يجب أن تكون الأخوة الصحيحة إيمانية قائمة على المبادئ الصحيحة وقضاء الحوائج، والتكامل فيما بين الأخوة.

معنى الانتصار الاخوي

أما قاعدة (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) فالمقصود منها أن تنهى أخاك عن الظلم، ولكن بالنتيجة تم أخذ جزء من هذا الحديث وتم تفسيره بشكل غير صحيح، ولكن المقصود من (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما)، أي أنصره كونه ظالما بوقوفك أمام ظلمه، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن ظلمه فذلك نصره).

وبعض الأحاديث التي ذكرناها آنفا يوجد فيها هذا المعنى، حيث يرمم الإنسان ويصلح أخاه المؤمن من خلال النقد والتوجيه والموعظة والهداية، فعن الامام علي (عليه السلام): (خير إخوانك من دلك على هدى، وأكسبك تقى، وصدك عن اتباع هوى)، هذا هو معنى نصرة الأخ الآخر، وهي عملية إصلاح وترميم مشترك، وهي نقطة مهمة في عملية الأخوة التي من ضمن جوهرها الإصلاح المشترك الذي يتم فيما بين الأخوة المؤمنين.

وهناك قصص كثيرة تبين بوضوح الأخوة التي كانت بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنها نومه في فراش رسول الله والتضحية الكبيرة التي قدمها فداء بنفسه لرسول الله.

الأخوة في القمة

النموذج الثاني هو نموذج الإمام الحسين ونموذج أبي الفضل العباس (عليهما السلام)، هذا النموذج الأخوي الكبير العظيم جدا، في الارتباط الكبير بينهما، ونحن نعيش هذه الأيام الذكرى الميمونة لولادة الإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السلام) وهذا الترابط في الولادات يعبر عن ذلك الترابط الأخوي الكبير، وكان هذا واضحا في يوم عاشوراء. وكيف كانت مواقف أبو الفضل العباس بتضحيته وعطائه ووقوفه إلى جانب أخيه، يعطينا درسا كبيرا في معنى الأخوّة الذي يجب أن نقرأه كنموذج للأخوة وليس كتاريخ فقط.

هذا النموذج الأخوة محط افتخارنا دائما وأبدا، وهو نموذج لنا كي نتعلم ونسير على هذا النموذج، وقد جمع كل عناصر الأخوة وأنواعها المتعدّدة، وهو نموذج الأخوة في القمة.

لذلك فإن الذي يحب الإمام الحسين وأخاه أبا الفضل العباس (عليهما السلام)، ويتعمّد إلحاق الأذى بصديقه أو بأخيه سواء كان أخوه النسبي أو الاجتماعي، فهو قد لا يحب الإمام الحسين ولا يحب أبا الفضل العباس (عليهما السلام)، وإنما حبه هذا شكلي وادّعاء لا أكثر، لأن الذي يحب الأئمة (عليهم السلام) يسير في سيرتهم، فأخوة أبي الفضل العباس هي تعظيم لمعنى الأخوة وكيف وقف مع أخيه وقفة وفاء. هنا في هذه الوقفة تجسدت المبادئ وتبيَّن نموذج الإنسان الحقيقي الراقي، الذي لابد أن نقتدي به في حياتنا.

وهنا لابد أن نلاحظ أن الناس عندما يحبون أبا الفضل العباس (عليه السلام)، فإن مصدر هذا الحب ليس شجاعته فقط، بل يحبونه لوفائه لأخيه، وفي المعترك الصعب نلاحظ أن الناس يهربون، ولكن لاحظ معنى الإيمان، فإن كلّ ذي إيمان عميق هو نافذ البصيرة، لأن أبا الفضل العباس (عليه السلام) على وعي كبير ومعرفة كبيرة بأخيه الحسين وبالمبادئ التي ناضل من أجلها، فهو نضال وكفاح من أجل تعميق المبادئ الحقيقية، وهي مبادئ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومبادئ الإمام علي (عليه السلام) والقرآن الكريم والمبادئ الإلهية.

حتى يستنقذوا الناس من الجهالة وحيرة الضلالة، أي إخراجهم وإنقاذهم من مستنقع الضلالة والانحراف إلى الحياة الصحيحة والسليمة، فالأخوة في سيرة اهل البيت (عليهم السلام) هي عبارة عن استنقاذ لنا، كي نتعلم معنى الإخاء وكيف نصلح علاقاتنا الأخوية مع الآخرين، فما قدمه هذا النموذج العظيم لأبي الفضل العباس وأخيه الحسين (عليهما السلام) هو عملية استنقاذ عظيمة وكبيرة.

لذلك فإن الإنسان الاجتماعي نتعلمه من خلال قراءتنا لمجمل وكل سيرة أهل البيت (عليهم السلام) وكل كلماتهم، حتى نبني الإنسان الاجتماعي الذي يعيش الاستئناس مع الآخرين متآلفا معهم، ولا يبقى منفردا مغتربا يعيش الوحدة والاكتئاب، ولهذا نحن نحتاج إلى أن نعلم أولادنا المبادئ وليس المصالح، نعلمهم كيف يفكرون، وكيف يتخلقون، وكيف يعيشون عيشة سليمة صالحة، تقوم على القيم الأخلاقية والإنسانية، ولا نعلمهم على المحورية الانانية والاستغراق في الماديات كالأكل والشرب واللبس وحب الأشياء واللهو والعبث.

بعض الناس يُدخلون أولادهم وهم صغار في المصارعة والملاكمة والتايكواندو، حتى يصبحوا أقوياء في مواجهة الآخرين، هذا جيد ولا بأس به، لكن الأصح من ذلك هو أن يعمل على رياضة أبنائه روحيا ونفسيا واخلاقيا وتربيتهم تربية صحيحة، وعلى حب أخيه وحب الناس، ويربيه على الأخوة الصالحة مع الآخرين، وعلى قضاء الحوائج وعلى العطاء والتكافل مع الناس.

وللكلام تتمة...

* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)

اضف تعليق