الإمام علي (ع) كما قلنا في المقدمات يقودنا نحو بناء النضج الإنساني وهي عملية تنتج عن الحلم والأناة، فإذا أراد الإنسان أن ينضج لابد أن ينتزع العنف من عقله وداخله، ويمارس عملية الحلم والصبر، وهذا يحتاج إلى علو الهمة التي تعني أن يكون الإنسان قوي الإرادة من أجل تحقيق الهدف...
يوم ولادة الإمام علي (عليه السلام) شهد ولادة منهج متكامل، قمة في العقل والنضج والأفكار والإنسانية، فإذا أراد البشر أن يسيروا نحو طريق النجاة والتقدم لابد أن يستلهموا مسيرتهم من نهج الإمام علي (عليه السلام)، وعندما نقرأ سيرته (عليه السلام) ونقرأ نهج البلاغة، سوف نلاحظ أن هناك حركة أساسية كبرى بدأت في تاريخ البشرية، هذه الحركة تنطلق من الماضي وإلى الحاضر والمستقبل.
إنها حركة أدت إلى تغيير شامل في الحضارة البشرية، فعندما نقرأ التاريخ سوف نلاحظ أن كل الطبقات والأشخاص الذين تخصصوا في مختلف العلوم يدّعون بأنهم ينتمون إلى مدرسة الإمام علي (عليه السلام). كما يلاحظ ذلك في بحار الأنوار.
وقد بدأت هذه الرحلة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وطُبِّقتْ عمليا في حكومة الإمام علي (عليه السلام)، لذلك تجسد فيه الحكم الراقي والناضج، ولهذا أراد الجميع أن ينتسب إليه (عليه السلام)، ويزعمون بانتمائهم له، والسبب في ذلك أن الإمام علي كان قمة في كل شيء، وقد ذكرنا بعض المميزات التي تميز منهج الإمام علي (عليه السلام).
مقدمات في معرفة منهج السلم والتآلف
من النقاط الأساسية التي نلاحظها في سيرة الإمام علي (عليه السلام)، وخطابه هو منهج السلم والتآلف والألفة والحلم وكظم الغيظ، حيث هناك الكثير من هذه المبادئ لاسيما في كتبه إلى عماله وفي وصيته لأهل بيته، يدعوهم إلى السلم والعفو وكظم الغيظ، وكان هذا من أهم ما ميز منهجه (عليه السلام).
لكن قبل الدخول في أصل هذا الموضوع، لابد من ذكر بعض السمات الأساسية التي تبين لنا لماذا تميز هذا المنهج وبهذه الخصائص؟
الأولى: كل شيء في الإنسان يبدأ من الأفكار التي يحملها، فالأفكار هي التي تعطي للإنسان شخصيته، وهويته، وحركته، وسلوكه، فيتشكل الإنسان على ضوء الأفكار التي يحملها، والمشاعر الموجودة في قلبه هي التي تحركه، فهل هي مشاعر محبة ورحمة أم مشاعر كراهية وقسوة؟
الثانية: أي تغيير يبدأ من الإنسان نفسه، بمبادرة ذاتية بعيدا عن إلقاء اللوم على الآخر، فإذا أردنا أن نحقق التغيير والتحول، لابد لكل إنسان أن يبدأ من نفسه ولا ينتظر الآخرين.
الثالثة: إن جوهر النظام الإلهي يقوم على تناقض تام مع العنف، لا يمكن أن يكون العنف في داخل النظام الإلهي بل هو على النقيض من ذلك، فإذا لاحظنا وجود العنف في أي مجتمع وحسب مستوى انتشاره فإن ذلك يؤدي إلى اختلال كامل في ذلك المجتمع، لأن جوهر النظام الإلهي قائم على السلم والانسجام والتوازن والاعتدال والتسامح وعلى الرحمة.
الرابعة: التقدم الإنساني والنضج في الأفكار والمشاعر، يبدأ بالخروج من التوحّش إلى الألفة، وحقيقة التقدم البشري لا يكمن في المجال التكنولوجي، ولا العمراني، ولا التقدم الاقتصادي، إنما التقدم يكمن في خروج الإنسان من حالة التوحّش، والأخير له معان كثيرة، منها الاصطدام مع الآخر واستخدام العنف، وهو حالة الغضب والغيظ الذي يحرك حالة العنصرية عند الإنسان والاحساس بالتفوق على الآخرين والتميّز عن الآخر.
كل هذا يعني التوحش الذي يعبر عن الكراهية والحقد ضد الآخر، لذلك فإن الإنسان عندما ينتزع التوحش من داخله يبدأ بالتغيير ويكون متآلفا مع الآخرين في مجتمعه.
الخامسة: كل الأمور تُعرَف بنتائجها وعواقبها، ولذلك كل الأمور العنيفة تنتهي إلى السوء والخسارة، بينما تنهي الأمور المرنة بالصلاح والسلام والربح والعواقب الجيدة.
وعنه (عليه السلام): (وَاكْظِمِ الْغَيْظَ وَتَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدَرَةِ وَاحْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ وَاصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ).
هذه النقاط كمقدمة توضّح ماذا أراد الإمام علي (عليه السلام) أن يقدم لنا في منهجه، يجب أن لا يكون العنف هو الأساس في حياتنا، ولا الغضب ولا الحقد على الآخر، لابد أن يكون هناك رحمة في قلوبنا، وسلام وحلم، لأن قمة الإنسانية تكمن في (التحلّم) فالحلم هو توأم العقل، لذلك فإن الإنسان الحليم هو إنسان عاقل ناضج.
وعنه (عليه السلام): (وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ وَعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً).
لذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) ينبّه الناس أن لا ينظروا إلى الأرباح القصيرة، كما يفعل بعض الحكام، بل يجب النظر إلى النتائج وإلى أين تصل، لأن النتائج الحقيقية هي التي ينضج فيها الإنسان بعقله وروحه ونفسه وقلبه، حين يكون متآلفا مع الآخرين، ويكون متمكنا من تحقيق الانسجام معهم.
دعاة المغانم والمحاصصة
إن فهم الحروب التي حدثت في عهد الإمام علي (عليه السلام) يحتاج إلى بحث خاص، فقد كانت تلك الحروب استثنائية وليست طويلة بل قصيرة جدا، وقد حدثت نتيجة وجود انقلاب على الشرعية، فالكل يعرف من هو الإمام علي (عليه السلام)، لذلك فإن أولئك المارقين والقاسطين والبغاة أرادوا أن يشطروا المجتمع الإسلامي ويعبثوا بأمنه الاجتماعي والإنساني، من خلال القيام بعمليات إجرامية وانقلابية.
وعنه الامام علي (عليه السلام): (فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلَّا وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وَتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا).
إنهم أرادوا الحرب، مع أن الإمام (عليه السلام) حاورهم ودعاهم إلى السلم والسلام، لكنهم أرادوا تطبيق منهج الغانمين المعتدين ومنهج أكل حقوق الناس، وطالبوا بوجود المحاصصة، أي أن كل شخص من هؤلاء يأخذ حصة خاصة به، وهذه المحاصصة تؤدي إلى غياب العدالة وتكريس الظلم، ولأن العدالة هي الأساس فإن الإمام علي (عليه السلام) لم يحاربهم بل بدأ معهم بالحوار، وحاول أن يستوعبهم حتى اللحظة الأخيرة ليبعد العداوة والحرب.
نلاحظ ذلك في خطابات الإمام علي (عليه السلام)، ففي قضية صفين عندما منع جيش معاوية الماء عن جيش الإمام علي (عليه السلام)، اضطر لمحاربة جيش معاوية واستولى على الماء ولم يمنع جيش معاوية عن الماء، و(في ذكر القتال على الماء واستيلاء أصحاب الإمام عليه: فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين! كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب.
فقال: لا والله، لا أكافئهم بمثل فعلهم، أفسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك). وهذا هو الفرق الأخلاقي بين المعسكريْن.
لوبيات الضغط
الإمام علي (عليه السلام) يعمل بالمبادئ والقيم، ولا يعمل بالتكتيكات الآنية التي تعمل بها بعض اللوبيات والقوى الموجودة، وجماعات الضغط التي تريد أن تفرض أجنداتها الخاصة على الإمام علي (عليه السلام)، لكنه لم يقبل بذلك.
كل هذه اللوبيات عارضت الإمام (عليه السلام) عندما رفض أن يعطيهم الامتيازات التي كانوا يأملون الحصول او الحفاظ عليها، فأساس المشكلة في نشوب هذه الحروب، لأنهم يبحثون عن المغانم والمحاصصة، ومصالحهم الشخصية والفئوية، وهذه الأمور تقف ضد العدالة وتحقيق المساواة وعدم التمييز، وبالنتيجة فهي ضد الحكم الإلهي القائم على الرحمة والعدالة والإنصاف، لذلك كانت الحروب التي خاضها الإمام علي (عليه السلام) ذات طابع دفاعي بحت، وبأقل الخسائر الممكنة، وكانت آخر الحلول لأن الحوار هو أسلوبه الأول.
وقد قال (عليه السلام): (لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى).
في خطابات الإمام علي (عليه السلام) كانت هناك حوارات مع تلك الجيوش، وكان يلقي عليهم الحجة لكي لا يقعوا في أوهامهم، وشيطانهم الذي يجرّهم نحو المعاصي والذنوب، والانقلاب على أمير المؤمنين (عليه السلام).
(فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ، فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ عليه السلام: رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ، أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ).
منهج الإمام علي في استراتيجيات السلم
هناك مجموعة من النقاط التي يمكننا ملاحظتها في خطاب الإمام علي (عليه السلام)، وقد ذكرت المقدمات في أعلاه، وأردت منها ان أبين نهج بناء الإنسان الناضج المسالم المتسامح الذي يسيطر عقله على غرائزه، والنمط الذي كان يريده الإمام (عليه السلام) هو أن ينقل الإنسان من الحضيض إلى القمة، من الجهل إلى العلم، من الهمجية إلى العقل، لتحقيق بناء الإنسان الكامل، ولذلك كان (عليه السلام) يحض على مجموعة من النقاط سوف أذكر بعضها:
الصبر مفتاح للسلام
أولا: الصبر مفتاح للسلام وفقدان هذا الصبر ينتج الصدام، وكان الإمام (عليه السلام) يحث دائما على عدم اتخاذ القرار السريع الذي يؤدي إلى الصدام مع الآخرين، فيجب توخي الهدوء، والحلم، وكظم الغيظ، وعدم الانتقام، كل هذا يحتاج إلى فلسفة الصبر ونهج التصبر.
ان أغلب المشكلات في مجتمعاتنا، أنها مشكلات نابعة من صدامات سريعة بعد اتخاذ موقف متعجل دون تروٍ، بل غضب متأجج ضد الآخر يؤدي إلى مشكلة تبدأ بالتراكم والتعقيد أكثر، فتتحول إلى عقدة صعبة الحل، لذلك أول خطوة في حل المشكلات هو الصبر وعدم الاستعجال في اتخاذ القرار، لنفتح باب الحوار لحل المشكلة ونبذ الصدام، ولابد أن يكون هناك خط أحمر لا يقترب منه أحد، حتى نحقق السلام والسلم الاجتماعي العام.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَاكْظِمِ الْغَيْظَ وَتَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدَرَةِ وَاحْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ)، وهذا كله مفتاح أساس في عملية بناء السلم الاجتماعي.
وقال (عليه السلام): (وَمَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِهِ) لأن الصدام والصراع والتنازع دائما ما يؤدي إلى التفريط في الأمر والتطرف في السلوك وهذا يعني الخسارة، إذ يخسر الإنسان كل مكتسباته، لكنه يتصور إذا اصطدم سوف يربح، ففي كل الأحوال لا يوجد ربح من التصادم، بل هو استنزاف بمعنى الكلمة.
وَقَالَ (عليه السلام): (ثَمَرَةُ التَّفْرِيطِ النَّدَامَةُ وَثَمَرَةُ الْحَزْمِ السَّلَامَةُ)، و(إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الطَّاعَةَ غَنِيمَةَ الْأَكْيَاسِ عِنْدَ تَفْرِيطِ الْعَجَزَةِ).
حين نطلع على الأمثلة الموجودة سوف نعرف أن الصدام هو الاستنزاف بكامل معانيه، وهذا التفريط ناتج عن الغضب السريع، وهكذا فإن (من حلم لم يفرط في أمره)، فهو مستتب وآمن دائما، وقادر على اكتساب الأرباح.
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (الْحِلْمُ والْأَنَاةُ تَوْأَمَانِ يُنْتِجُهُمَا عُلُوُّ الْهِمَّةِ). فالوجه الآخر للحلم هو عدم الاستعجال بمعنى الصبر فالحلم مرتبة من مراتب الصبر بل ينتجه، والصبر حركة نفسية والحلم حركة عقلية، فيصبح الإنسان ناضجا فكريا ونفسيا وروحيا ولا يستعجل في اتخاذ القرار.
ثلاثية الأناة والحلم والرحمة
أما علوّ الهمة فهو الذي يحقق الحلم والأناة، لأن صاحب علو الهمة لديه أهداف بعيدة المدى، يفكر في المستقبل والعواقب والنتائج، ما يحدث في المجتمعات العالمية، إنها تتطور ماديا، لكنها لا تتطور إنسانيا، لأنها لم تفكر بالعواقب ولا النتائج، تفكر بالربح السريع والمنفعة واللذة الآنية، لذلك تبقى في دورات مستمرة من عملية السقوط، وتقع في مستنقعات من المشاكل الكبيرة المعقدة، أما الحلم فإنه يعطي القوة للإنسان من أجل تجنّب الكوارث والنتائج السيئة.
وهذا يحتاج إلى علوّ الهمة، كما في بعض المصلحين الذين استطاعوا أن يحققوا نهضة كبيرة في بلادهم، من خلال علوّ الهمّة والصبر وعدم الاستعجال. وقد مروا بمختلف المآسي والآلام من السجون والفقر والتسقيط، لكنهم حققوا لاحقا الأهداف التي أرادوها، بسبب صبرهم وعلو همتهم وحلمهم.
لو لاحظنا تاريخ الأئمة (عليهم السلام) فإن أغلبهم أما سجين، أو تعرض للسب على المنابر، كما حصل مع الإمام علي (عليه السلام) طيلة (80) سنة وهو يُسبّ على المنابر، لكنهم مع ذلك حققوا النتائج التي كافحوا من أجلها.
بناء النضج الإنساني
إن الإمام علي (عليه السلام) كما قلنا في المقدمات يقودنا نحو بناء النضج الإنساني وهي عملية تنتج عن الحلم والأناة، فإذا أراد الإنسان أن ينضج لابد أن ينتزع العنف من عقله وداخله، ويمارس عملية الحلم والصبر، وهذا يحتاج إلى علو الهمة التي تعني أن يكون الإنسان قوي الإرادة من أجل تحقيق الهدف، فالهمة هي المبدأ الأساس لعملية بناء النضج الإنساني.
هناك الكثير من الناس يستسلمون للواقع، لذلك يحتاج الإنسان إلى علو الهمة، لأنها عملية بناء، أما عملية السقوط فهي سهلة جدا، لكن عملية الصعود صعبة جدا وتحتاج إلى جهد مستمر، متراكم لكي يحقق الإنسان أهدافه فعلا. وعنه (عليه السلام): (قدر الرجل على قدر همته).
فكلام الإمام علي (عليه السلام) يعني أن الأهداف لا تتحقق إن لم تكن حليما، لذلك عليك أن تتحلّم، أي مارس الحلم، وروّض نفسك، واستأصل الغضب من داخلك، واقمع العنف، وأخرج الحقد والانتقام من نفسك، حتى تستطيع أن تكون ناضجا، وعقلك يكون هو المتحكم، وقلبك يفيض بالمشاعر الطيبة.
الصبر يؤدي إلى الهدوء
في قضية استخدام العنف، هناك حديث آخر للإمام علي (عليه السلام) يقول فيه: (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ وتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا وتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً)، فالصبر يؤدي إلى الهدوء، والاستعجال يؤدي إلى الفوضى، لذلك فإن التهدئة مهمة جدا والهدوء يأتي من خلال الصبر الذي يساعد على أن تكون القلوب مستقرة، وليست خائفة أو وجلة، ولا تعيش نوع من الاضطراب الداخلي بحيث تشعر بالقلق والخوف، وتتملكها النظرة السوداوية للحاضر والمستقبل.
(وتؤخَذ الحقوق مسمحة)، فالحقوق لا تؤخذ بالغصب والإكراه، وإنما بالتيسير والتساهل والأسلوب المرن، ومفردة مسمحة تعني مرنة أو أسلوب فيه مرونة، وسماحة، وإقناع وليس إكراه، بحيث تكون عملية سهلة، فعملية الحقوق تؤخذ بهذه الطريقة، أما الحق الذي يؤخذ بالقوة والغصب والعنف، فهذا غير مقبول حتى لو كان على حق، يجب عدم ممارسة العنف لاسترداد الحقوق لأنه ينطوي على تناقض مع فلسفة الحقوق.
متى تختفي الحقيقة؟
الإنسان الناضج هو الذي يأخذ حقه بالحوار والتساهل والتفاهم والتعايش مع الآخر، لذلك فإن التهدئة من أهم الأساليب التي تطفئ المشاعر الملتهبة، لأنه دائما حين يأتي وقت الانتقام تُرفَع رايات العنف والكراهية ضد الآخر، وبعد ذلك يكتشف أن كثيرا من هذه القضايا عبارة عن أوهام، وليست حقائق، لأن التهاب المشاعر واشتعال الحقد والكراهية، نابع من الأوهام بحيث تختفي وتُحجَب الحقيقة، لأن العقل لا يراها.
وعنه (عليه السلام): (قوة الحلم عند الغضب أفضل من القوة على الانتقام).
حين تسيطر الأهواء على المشاعر سوف تأججها فتشتعل اشتعالا شديدا، لذلك يقدم الإمام علي (عليه السلام) أسلوبا لعملية التفاهم والحوار مع الآخر باستخدام الهدوء والصبر، ويحدث الاستقرار في القلب، لأن الاضطراب في القلب يؤدي إلى مزيد من عدم الثقة، ومن سوء الظن بالآخر، أما الاستقرار والهدوء في القلب يؤدي إلى الثقة بالآخر وعدم سوء الظن، وبالنتيجة تحصل الطمأنينة عند الإنسان.
البرمجة الفكرية
هناك كلمة جميلة للإمام علي (عليه السلام) يقول فيها: (اسْتَشْعِرُوا الصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى النَّصْرِ)، الاستشعار أن يجعله شعارا في قلبه، وأن يلقن نفسه أنه لابد من الصبر، ويبرمج نفسه على ذلك، وهذا يعيدنا إلى ما ذكرناه في المقدمة أن الأفكار هي التي تتحكم بالإنسان، وحين يقول الإمام علي (عليه السلام) (استشعروا الصبر) بمعنى اجعلوه ضمن برمجة أفكاركم ومشاعركم، البرمجة الفكرية هي التي توجّه السلوكيات.
الأمور تُعرَف بنتائجها وعواقبها، فالإنسان الصبور منتصر دائما، والإنسان الجزوع منهزم وهذه قاعدة في الحياة، وتوجد أمثلة كثيرة عن ذلك، فالنصر والصبر يدعك تنتظر الفرصة وسوف تأتيك، فأنت صابر غانم، أما الشخص الجزوع فتتحول مشاعره إلى حالة سلبية، متشائمة يائسة، فلذلك تمر الفرص من أمامه وتذهب ولا يعلم ولا يعتقد بها ولا يستثمرها، فهو لا يعتبرها فرصة مفيدة، كونه يشعر باليأس والإحباط والاستسلام.
وعنه (عليه السلام): (مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ أَهْلَكَهُ الْجَزَعُ).
الجزع أكبر الأخطار المهلكة التي تحدق بالإنسان، ويعبر عن عدم النضج، أما الصبر فإنه يجعل الإنسان أكثر نضوجا، وبالتالي يغنم الإنسان ويربح ربحا استراتيجيا، وهو الربح الكبير، وليس الربح التكتيكي القصير المدى، فهذا النوع من الربح لا يمكن أن نسميها أرباحا وإنما أوهاما.
إرواء القلب بالرحمة
ثانيا: إرواء القلب بالرحمة، فالقلب عطشان للرحمة والمحبة دائما، ويحتاج إلى أن يشرب ماءً نقيًا، زلالا طيبا لذيذا، وعندما يشرب هذا النوع من الماء، فسوف يرتاح هذا القلب ويشعر بالإيجابية والاطمئنان، ويشعر بالتحوّل الإيجابي، والمشاعر الجميلة الفياضة بالعطف واللين والتكافل والتعايش مع الآخرين والمحبة لهم، مع المحبة لنفسه وعائلته، يحدث هذا عندما يُروى القلب بالماء الزلال، وهو الرحمة.
عندما يشرب الإنسان ماءً مالحا وسِخا، من المستنقع مثلا، فهذا الإنسان يروي قلبه بالقسوة، فيكون قلبه متحجرا، ويتحول الإنسان إلى قاسٍ عندما يروي قلبه بالعنف والكراهية، لذلك يحتاج القلب إلى الرحمة لكي يعيش سعيدا.
لا تكن عليهم سبعا ضاريا
الإمام علي يقدم لنا مفتاحا للنهضة والتقدم في الكلام الذي وجهه إلى مالك الأشتر، هذه الكلمة تكفي لوحدها لتبيّن عظمة الإمام علي (عليه السلام)، ومن لا يتأثر بهذه الكلمة، فقلبه منغلق.
يقول الإمام علي (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر: (وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ)، كل هذه الكلمات رحمة، ولين وسلام ومحبة وتعايش، فاجعل في قلبك الرحمة شعارا، واروِ قلبك بالرحمة للرعية والمحبة، وادخلْ المحبة واللطف في قلبك، ولا تكونن عليهم وحشا ضاريا.
الحكام بشكل عام متوحشون، وأعوانهم أيضا، فإنهم دائما يمارسون العنف والتسلط على الناس، ويظلمونهم ويأخذون حقوقهم.
وسوف نستكمل في مقالنا القادم إلى موضوع إرواء القلب بالرحمة ضمن استراتيجية منهج الإمام علي (عليه السلام) في السلم والتآلف.
اضف تعليق