كان ينتقل الإمام الكاظم (ع) من سجن إلى سجن، وكان فيها معذباً محروماً من أبسط الحقوق العادية للإنسان. إلى أن أمر هارون بنقل الإمام الكاظم (ع) إلى سجن أقسى جلاوزته، وهو السندي بن شاهك، وأمره بأن يضيق على الإمام أشد الضيق، ويقتل الإمام بالسم. وأراد هارون...
وكان السبب في قتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بالسم من قبل هارون العباسي، هو نفس السبب الذي حدا بسائر الأمويين والعباسيين لقتل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بالسيف أو السم، من الحقد والحسد وما أشبه.
أما ما ذكره البعض من وشاية ابن أخ الإمام: علي بن إسماعيل بن جعفر، أو أخيه محمد بن جعفر فهو غير صحيح، بل هو تبرير لفعل هارون، وتغطية لجرمه وظلمه، وهذا وأمثاله من مفتريات العباسيين أنفسهم.
ويؤيده التضارب الموجود في بعض التواريخ التي كتب أغلبها برعاية تلك الحكومات الجائرة، وقد ورد في بعضها: إن السبب كان سعاية يعقوب بن داود، وفي بعضها: إن السبب هو سعاية يحيى بن خالد البرمكي بالإمام (عليه السلام)، وذلك في قصة مفصلة مذكورة في مظانها(1).
نعم قد تكون لسعاية يحيى بعض التأثير، ولكن السبب الأصلي هو حقد هارون نفسه.
فلا صحة لما قالوا: من أن محمد بن إسماعيل بن الصادق (عليه السلام) ـ وكان عند عمه موسى الكاظم (عليه السلام) يكتب له الكتب إلى شيعته في الآفاق ـ لما ورد هارون الحجاز سعى بعمه إلى هارون. فقال: أما علمت أن في الأرض خليفتين يجبى إليهما الخراج؟.
فقال هارون: ويلك أنا ومن؟.
قال: موسى بن جعفر. وأظهر أسراره، فقبض عليه(2).
حيث قد سبق بأن هارون جاء إلى الحجاز بقصد ترسيخ ولاية عهد ابنه محمد، والقضاء على الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)..
ومما يؤيد عدم صحة هذه الرواية ما ذكره البعض من أن محمد بن إسماعيل خرج إلى العراق وسعى بعمه عند هارون، وليست القصة في الحجاز، وذكر البعض هذه القصة ونسبها إلى محمد بن جعفر أخ الإمام الكاظم (عليه السلام)، فهذا التضارب يدل على أن لا أساس لأصل الخبر(3).
ففي التاريخ أن هارون لما أراد أن يعلن ولاية عهده لابنه محمد بن زبيدة، خرج في تلك السنة إلى الحج، وبدأ بالمدينة فقبض فيها على الإمام أبي الحسن موسى (عليه السلام)..
ولما صار هارون إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: يا رسول الله إني أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر، فإن التشتيت بين أمتك وسفك دمائها. ثم أمر به فأخذ من المسجد، فأدخل عليه فقيّده، واستدعى قبتين جعله في إحداهما على بغل، وجعل القبة الأخرى على بغل آخر، وأخرج البغلين من داره عليهما القبتان مستورتان، ومع كل واحدة منهما خيل، فافترقت الخيل، فمضى بعضها مع إحدى القبتين على طريق البصرة، والأخرى على طريق الكوفة. وكان أبو الحسن (عليه السلام) في القبة التي مضى بها على طريق البصرة، وإنما فعل ذلك هارون ليعمي على الناس أمر أبي الحسن (عليه السلام).
في سجن البصرة
لما نفى هارون الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى البصرة، بعدما اعتقله من مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلاً، ووجهه إلى البصرة خفية، كتب إلى عيسى بن جعفر بن المنصور ـ وكان على البصرة حينذاك ـ بسجن الإمام والتضييق عليه.
فقدم حسان ـ وهو من جلاوزة هارون ـ بالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) البصرة قبل التروية بيوم، فدفعه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر نهاراً علانية، حتى عرف ذلك وشاع أمره، فحبسه عيسى في بيت من بيوت المحبس الذي كان يحبس فيه، وأقفل عليه وشغله عنه العيد، فكان لا يفتح عنه الباب إلاّ في حالتين، حال يخرج فيها إلى الطهور، وحال يدخل إليه فيها الطعام.وحبسه عيسى سنة.
هارون يأمر بقتل الإمام
ثم كتب هارون إلى عيسى بقتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو في سجنه، فاستدعى عيسى بن جعفر بعض خاصته وثقاته، فاستشارهم فيما كتب إليه هارون، فأشار عليه خاصته بالتوقف عن ذلك والاستعفاء منه. فكتب عيسى بن جعفر إلى هارون يقول له: لقد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي، وقد اختبرت حاله، ووضعت عليه العيون طول هذه المدة، فما وجدته يفتر عن العبادة، وقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة فما قدرت على ذلك، ووضعت من يسمع منه ما يقوله في دعائه، فما دعا عليك ولا عليّ ولا ذكرنا بسوء، وما يدعو لنفسه إلاّ بالمغفرة والرحمة، فإن أنت أنفذت إليّ من يتسلمه مني وإلاّ خليت سبيله، فإني متحرج من حبسه.
وقد كتب هارون مكرراً وأمر عيسى بأن يقتل الإمام الكاظم (عليه السلام) بالسم، ولكن لم يجرأ عيسى على ذلك.
وكان عيسى يفتح للإمام (عليه السلام) باب الغرفة في السجن مرتين، مرة لكي يتوضأ الإمام، ومرة لكي يقدم له الطعام.
وبعدما لم تنجح خطة هارون في قتل الإمام (عليه السلام) في سجن البصرة، وجّه بعض جلاوزته لتسلم الإمام (عليه السلام) من عيسى بن جعفر المنصور، وأن يصيره إلى بغداد، فجاء بالإمام (عليه السلام) وسلّمه إلى الفضل بن الربيع، فبقي عنده مدة طويلة تحت التعذيب.
في حبس فضل بن ربيع
لما لم يتمكن هارون من قتل الإمام (عليه السلام) في البصرة، أرسل بعض جلاوزته لكي يستلموا الإمام (عليه السلام) من عيسى ويأتوا به إلى بغداد، فجاؤوا بالإمام (عليه السلام) بكل قساوة من البصرة، ومن دون أن يراعوا في حقه حرمة جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسجنوه بأمر هارون عند الفضل بن الربيع.
فكان الإمام (عليه السلام) في حبس الفضل في شدة وضيق، ولكنه كان مشغولاً بالعبادة والتضرع، والبكاء من خوف الله تعالى، وكان أغلب أوقاته في السجدة الطويلة لله تعالى.
فأمر هارون عدة مرات الفضل بأن يقتل الإمام (عليه السلام) بالسم، ولكن الفضل أبى ذلك وقال: إنني لا أقدم على هذه الجريمة الكبرى.
وقيل: إن الفضل لما رأى الإمام (عليه السلام) مشغولاً بالعبادة، يحيي الليل كله صلاةً، وقراءةً للقرآن ودعاءً واجتهاداً، يصوم النهار، ولا يصرف وجهه عن المحراب. وسع بعض الشيء على الإمام (عليه السلام)، وخفف من التضييق عليه، فاتصل ذلك بهارون وهو في الرقة، فكتب إليه ينكر عليه توسعته على موسى (عليه السلام)، ويأمره بقتل الإمام (عليه السلام)، فتوقف الفضل عن ذلك ولم يقدم عليه.
فاغتاظ هارون لذلك، ودعا مسرور الخادم فقال له: اخرج على البريد في هذا الوقت إلى بغداد، وادخل من فورك على موسى بن جعفر، فإن وجدته في دعة ورفاهية، فأوصل هذا الكتاب إلى العباس بن محمد وأمره بامتثال ما فيه، وسلّم إليه كتاباً آخر إلى السندي بن شاهك يأمره فيه بطاعة العباس.
فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد ثم دخل على موسى (عليه السلام)، فوجده على ما أبلغ هارون، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي بن شاهك فأوصل الكتابين إليهما. فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض ركضاً إلى الفضل بن يحيى، فركب معه وخرج مدهوشاً دهشاً حتى دخل على العباس بن محمد، فدعى العباس بسياط وعابين، وأمر بالفضل فجرد، وضربه السندي بين يديه مائة سوط، وخرج متغير اللون خلاف ما دخل، وجعل يسلم على الناس يميناً وشمالاً.
وكتب مسرور بالخبر إلى هارون، فأمر بتسليم موسى إلى السندي بن شاهك، وجلس هارون مجلساً حافلاً. وقال: أيها الناس، إن الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي، ورأيت أن ألعنه فالعنوه. فلعنه الناس من كل ناحية حتى ارتج البيت والدار بلعنه.
وبلغ يحيى بن خالد الخبر، فركب إلى هارون، فدخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه حتى جاء من خلفه وهو لا يشعر به، ثم قال له: التفت يا أمير إليَّ، فأصغى إليه فزعاً، فقال: إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد. فانطلق وجهه وسرّ وأقبل على الناس. فقال: إن الفضل كان قد عصاني في شيء فلعنته، وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه. فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، وقد توليناه.
ثم خرج يحيى بن خالد على البريد حتى وافى بغداد، فماج الناس وأرجفوا بكل شيء، وأظهر أنه ورد لتعديل السواد، والنظر في أمر العمال، وتشاغل ببعض ذلك أياماً، ثم دعا السندي بن شاهك، فأمره فيه بأمره فامتثله(4).
اعتقال واعتقال
ثم إن هارون كان يضطر أحياناً لإطلاق سراح الإمام (عليه السلام) من السجن، ولكن بعد فترة كان يأمر بالقبض على الإمام (عليه السلام)، وفي كل مرة يخطط لقتل الإمام (صلوات الله عليه).
ففي مهج الدعوات: عن عبد الله بن مالك الخزاعي، قال: دعاني هارون فقال: يا أبا عبد الله، كيف أنت وموضع السر منك؟.
فقلت: يا أمير ما أنا إلاّ عبد من عبيدك.
فقال: امض إلى تلك الحجرة، وخذ من فيها، واحتفظ به إلى أن أسألك عنه.
قال: فدخلت، فوجدت موسى بن جعفر (عليه السلام). فلما رآني سلمت عليه، وحملته على دابتي إلى منزلي، فأدخلته داري وجعلته مع حرمي، وقفلت عليه والمفتاح معي، وكنت أتولى خدمته، ومضت الأيام، فلم أشعر إلا برسول هارون يقول: أجب الأمير.
فنهضت ودخلت عليه، وهو جالس وعن يمينه فراش، وعن يساره فراش، فسلمت عليه، فلم يرد غير أنه قال: ما فعلت بالوديعة؟.
فكأني لم أفهم ما قال، فقال: ما فعل صاحبك؟.
فقلت: صالح.
فقال: امض إليه وادفع إليه ثلاثة آلاف درهم، واصرفه إلى منزله وأهله. فقمت وهممت بالانصراف، فقال لي: أ تدري ما السبب في ذلك وما هو؟.
قلت: لا يا أمير.
قال: نمت على الفراش الذي عن يميني، فرأيت في منامي قائلاً يقول لي: يا هارون، أطلق موسى بن جعفر. فانتبهت فقلت لعلها لما في نفسي منه، فقمت إلى هذا الفراش الآخر، فرأيت ذلك الشخص بعينه وهو يقول: يا هارون، أمرتك أن تطلق موسى بن جعفر فلم تفعل. فانتبهت وتعوذت من الشيطان، ثم قمت إلى هذا الفراش الذي أنا عليه، وإذا بذلك الشخص بعينه وبيده حربة، كان أولها بالمشرق وآخرها بالمغرب، وقد أومأ إليَّ وهو يقول: والله يا هارون لئن لم تطلق موسى بن جعفر، لأضعن هذه الحربة في صدرك، وأطلعها من ظهرك. فأرسلت إليك فامض فيما أمرتك به، ولا تظهره إلى أحد فأقتلك، فانظر لنفسك.
قال: فرجعت إلى منزلي، وفتحت الحجرة، ودخلت على موسى بن جعفر (عليه السلام)، فوجدته قد نام في سجوده، فجلست حتى استيقظ، ورفع رأسه وقال: (يا أبا عبد الله، افعل ما أمرت به).
فقلت له: يا مولاي، سألتك بالله وبحق جدك رسول الله، هل دعوت الله عزَّ وجل في يومك هذا بالفرج؟.
فقال (عليه السلام): (أجل إني صليت المفروضة، وسجدت وغفوت في سجودي، فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال: يا موسى، أ تحب أن تطلق؟.
فقلت: نعم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال: ادع بهذه الدعاء ـ ثم ذكر الدعاء ـ فلقد دعوت به ورسول الله يلقنيه حتى سمعتك.
فقلت: قد استجاب الله فيك، ثم قلت له: ما أمرني به هارون وأعطيته ذلك(5).
كرامات في السجن
عن بشار مولى السندي بن شاهك، قال: كنت من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب، فدعاني السندي بن شاهك يوماً. فقال لي: يا بشار، إني أريد أن أئتمنك على ما ائتمنني عليه هارون. قلت: إذن لا أبقي فيه غاية. فقال: هذا موسى بن جعفر قد دفعه إليِّ، وقد وكلتك بحفظه. فجعله في دار دون حرمه ووكلني عليه، فكنت أقفل عليه عدة أقفال، فإذا مضيت في حاجة، وكلت امرأتي بالباب، فلا تفارقه حتى أرجع. قال بشار: فحول الله ما كان في قلبي من البغض حباً. قال: فدعاني (عليه السلام) يوماً. فقال: (يا بشار، امض إلى سجن القنطرة، فادع لي هند بن الحجاج، وقل له: أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه، فإنه سينهرك ويصيح عليك، فإذا فعل ذلك فقل له: أنا قد قلت لك وأبلغت رسالته، فإن شئت فافعل ما أمرني، وإن شئت فلا تفعل، واتركه وانصرف). قال: ففعلت ما أمرني، وأقفلت الأبواب كما كنت أقفل، وأقعدت امرأتي على الباب، وقلت لها: لا تبرحي حتى آتيكِ. وقصدت إلى سجن القنطرة، فدخلت إلى هند بن الحجاج. فقلت: أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه. قال: فصاح عليَّ وانتهرني. فقلت له: أنا قد أبلغتك وقلت لك، فإن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل، وانصرفت وتركته. وجئت إلى أبي الحسن (عليه السلام)، فوجدت امرأتي قاعدة على الباب، والأبواب مغلقة، فلم أزل أفتح واحداً واحداً منها، حتى انتهيت إليه فوجدته، وأعلمته الخبر. فقال: (نعم قد جاءني وانصرف). فخرجت إلى امرأتي، فقلت لها: جاء أحد بعدي فدخل هذا الباب!. فقالت: لا والله، ما فارقت الباب، ولا فتحت الأقفال حتى جئت(6).
محاولة أخرى فاشلة
روي أنه لما هم هارون العباسي بقتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، دعا الفضل بن الربيع وقال له: قد وقعت لي إليك حاجة أسألك أن تقضيها، ولك مائة ألف درهم. قال: فخر الفضل عند ذلك ساجداً، وقال: أمر أم مسألة؟. قال: بل مسألة. ثم قال: أمرت بأن تحمل إلى دارك في هذه الساعة مائة ألف درهم، وأسألك أن تصير إلى دار موسى بن جعفر وتأتيني برأسه.
قال الفضل: فذهبت إلى ذلك البيت، فرأيت فيه موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو قائم يصلي، فجلست حتى قضى صلاته، وأقبل إليَّ وتبسّم وقال:
(عرفتُ لما ذا حضرتَ، أمهلني حتى أصلي ركعتين). قال: فأمهلته، فقام وتوضأ فأسبغ الوضوء وصلى ركعتين، وأتم الصلاة بحسن ركوعها وسجودها، وقرأ خلف صلاته بهذا الحرز، فاندرس وساخ في مكانه، فلا أدري أ أرض ابتلعته أم السماء اختطفته.
فذهبت إلى هارون وقصصت عليه القصة، قال: فبكى هارون، ثم قال: قد أجاره الله مني(7).
قوم من الإفرنج
روي أن هارون العباسي لما أراد أن يقتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، عرض قتله على سائر جنده وفرسانه، فلم يقبله أحد منهم. فأرسل إلى عماله في بلاد الأفرنج يقول لهم: التمسوا لي قوماً لا يعرفون الله ورسوله؛ فإني أريد أن أستعين بهم على أمر. فأرسلوا إليه قوماً لا يعرفون من الإسلام، ولا من لغة العرب شيئاً، وكانوا خمسين رجلاً. فلما دخلوا إليه أكرمهم، وسألهم من ربكم ومن نبيكم؟. فقالوا: لا نعرف لنا رباً ولا نبياً أبداً. فأدخلهم البيت الذي فيه الإمام (عليه السلام) ليقتلوه، وهارون ينظر إليهم من روزنة البيت، فلما رأوه رموا أسلحتهم، وارتعدت فرائصهم، وخروا سجداً يبكون رحمة له. فجعل الإمام يمر يده على رؤوسهم، ويخاطبهم بلغتهم وهم يبكون، فلما رأى هارون خشي الفتنة، وصاح بوزيره أخرجهم، فخرجوا وهم يمشون القهقرى إجلالاً له، وركبوا خيولهم ومضوا نحو بلادهم من غير استئذان(8).
من مكر هارون
عن علي بن يقطين: قال: كنت واقفاً على رأس هارون العباسي، إذ دعا موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو يتلظى عليه، فلما دخل حرّك (عليه السلام) شفتيه بشيء، فأقبل هارون عليه ولاطفه وبرّه، وأذن له في الرجوع. فقلت له: يا ابن رسول الله، جعلني الله فداك إنك دخلت على هارون وهو يتلظى عليك، فلم أشك إلا أنه يأمر بقتلك، فسلّمك الله منه، فما الذي كنت تحرك به شفتيك؟.
فقال (عليه السلام): (إني دعوت بدعاءين، أحدهما خاص، والآخر عام، فصرف الله شره عني).
فقلت: ما هما يا ابن رسول الله؟.
فقال: (أما الخاص: اللَّهُمَّ إِنَّكَ حَفِظْتَ الْغُلاَمَيْنِ لِصَلاَحِ أَبَوَيْهِمَا، فَاحْفَظْنِي لِصَلاَحِ آبَائِي. وأما العام: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَكْفِي مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلا يَكْفِي مِنْكَ أَحَدٌ، فَاكْفِنِيهِ بِمَا شِئْتَ وَكَيْفَ شِئْتَ وَأَنَّى شِئْتَ، فكفاني الله شره)(9).
اعتقالات مكررة
عن الفضل بن الربيع، قال: كنت ذات ليلة في فراشي مع بعض جواري، فلما كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة فراعني ذلك. فقالت الجارية: لعل هذا من الريح. فلم يمض إلا يسير حتى رأيت باب البيت الذي كنت فيه قد فتح، وإذا مسرور الكبير قد دخل عليَّ. فقال لي: أجب الأمير. ولم يسلم عليَّ، فيئست من نفسي، وقلت: هذا مسرور ودخل إليَّ بلا إذن، ولم يسلم ما هو إلاّ القتل، وكنت جنباً فلم أجسر أن أسأله إنظاري حتى أغتسل.
فقالت لي الجارية ـ لما رأت تحيري وتبلدي ـ: ثق بالله عزَّ وجل وانهض. فنهضت ولبست ثيابي، وخرجت معه حتى أتيت الدار، فسلمت على الأمير ـ هارون ـ وهو في مرقده. فرد عليَّ السلام فسقطت. فقال: تداخلك رعب؟. قلت: نعم يا أمير. فتركني ساعة حتى سكنت، ثم قال لي: صر إلى حبسنا فأخرج موسى بن جعفر بن محمد، وادفع إليه ثلاثين ألف درهم، واخلع عليه خمس خلع، واحمله على ثلاثة مراكب، وخيره بين المقام معنا أو الرحيل عنا إلى أي بلد أراد وأحب.
فقلت: يا أمير، تأمر بإطلاق موسى بن جعفر!.
قال: نعم، فكررت ذلك عليه ثلاث مرات. فقال لي: نعم، ويلك أ تريد أن أنكث العهد. فقلت: يا أمير، وما العهد؟. قال: بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسود، ما رأيت من السودان أعظم منه، فقعد على صدري وقبض على حلقي، وقال لي: حبست موسى بن جعفر ظالماً له. فقلت: فأنا أطلقه وأهب له وأخلع عليه. فأخذ عليَّ عهد الله عزَّ وجل وميثاقه، وقام عن صدري، وقد كادت نفسي تخرج.
يقول الفضل: فخرجت من عنده، ووافيت موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو في حبسه، فرأيته قائماً يصلي، فجلست حتى سلم، ثم أبلغته سلام الأمير، وأعلمته بالذي أمرني به في أمره، وأني قد أحضرت ما وصله به. فقال (عليه السلام): (إن كنت أمرت بشيء غير هذا فافعله). فقلت: لا وحق جدك رسول الله، ما أمرت إلا بهذا. فقال: (لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذ كانت فيه حقوق الأمة).
فقلت: ناشدتك بالله أن لا ترده فيغتاظ. فقال: (اعمل به ما أحببت). وأخذت بيده (عليه السلام)، وأخرجته من السجن، ثم قلت له: يا ابن رسول الله أخبرني بالسبب الذي نلت به هذه الكرامة من هذا الرجل، فقد وجب حقي عليك لبشارتي إياك، ولما أجراه الله عزَّ وجل على يدي من هذا الأمر؟.
فقال (عليه السلام): (رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة الأربعاء في النوم. فقال لي: يا موسى، أنت محبوس مظلوم. فقلت: نعم يا رسول الله محبوس مظلوم. فكرر عليَّ ذلك ثلاثاً، ثم قال: (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(10)، أصبح غداً صائماً، وأتبعه بصيام الخميس والجمعة، فإذا كان وقت الإفطار، فصل اثنتي عشرة ركعة، تقرأ في كل ركعة الحمد واثنتي عشرة مرة [قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ]، فإذا صليت منها أربع ركعات فاسجد، ثم قل: "يا سابق الفوت، يا سامع كل صوت، يا محيي العظام وهي رميم بعد الموت، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلي على محمد عبدك ورسولك، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وأن تعجل لي الفرج مما أنا فيه" ففعلت فكان الذي رأيت)(11).
ومرة أخرى لما حبس هارون موسى بن جعفر (عليه السلام)، جن عليه الليل، فخاف ناحية هارون أن يقتله. فجدد موسى (عليه السلام) طهوره، واستقبل بوجهه القبلة، وصلى لله عزَّ وجل أربع ركعات، ثم دعا بهذه الدعوات. فقال: (يا سيدي نجني من حبس هارون، وخلصني من يده، يا مخلص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلص النار من بين الحديد والحجر، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلصني من يدي هارون).
قال الراوي: فلما دعا موسى (عليه السلام) بهذه الدعوات، أتى هارون رجل أسود في منامه، وبيده سيف قد سله، فوقف على رأس هارون وهو يقول: يا هارون. أطلق عن موسى بن جعفر وإلا ضربت علاوتك بسيفي هذا. فخاف هارون من هيبته، ثم دعا الحاجب، فجاء الحاجب فقال له: اذهب إلى السجن فأطلق عن موسى بن جعفر. إلى أن حبسه مرة أخرى فلم يطلق سراحه حتى سلمه إلى السندي بن شاهك وقتله بالسم(12).
في حبس يحيى البرمكي
في بعض التواريخ: لما علم هارون بأن الفضل بن الربيع لا يقوم بقتل الإمام الكاظم (عليه السلام)، ولا يمتثل أمر هارون في ذلك. أخرج الإمام (عليه السلام) من سجن الفضل إلى سجن يحيى البرمكي، وأمر يحيى بقتل الإمام، ولكن يحيى أيضاً لم يتجرأ على ذلك.
عن محمد بن غياث المهلبي، قال: لما حبس هارون العباسي أبا إبراهيم موسى (عليه السلام)، وأظهر الدلائل والمعجزات وهو في الحبس، تحير هارون فدعا يحيى بن خالد البرمكي. فقال له: أ ما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب، أ لا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيراً تريحنا من غمه(13).
من حبس إلى حبس
وهكذا كان ينتقل الإمام الكاظم (عليه السلام) من سجن إلى سجن، وكان فيها معذباً محروماً من أبسط الحقوق العادية للإنسان.
إلى أن أمر هارون بنقل الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى سجن أقسى جلاوزته، وهو السندي بن شاهك اليهودي، وأمره بأن يضيق على الإمام (عليه السلام) أشد الضيق، ويقتل الإمام (عليه السلام) بالسم.
خطط شيطانية
وأراد هارون قبل أن يقوم بقتل الإمام (عليه السلام) بالسم، أن يعترف الإمام (عليه السلام) له بالإساءة وطلب العفو منه. فأرسل يحيى بن خالد إلى السجن. وقال له: يا يحيى، انطلق إليه وأطلق عنه الحديد، وأبلغه عني السلام وقل له: يقول لك ابن عمك: أنه قد سبق مني فيك يمين أني لا أخليك حتى تقر لي بالإساءة، وتسألني العفو عما سلف منك، وليس عليك في إقرارك عار، ولا في مسألتك إياي منقصة، وهذا يحيى بن خالد هو ثقتي ووزيري وصاحب أمري، فسله بقدر ما أخرج من يميني، وانصرف راشداً. فقال الإمام (عليه السلام) ليحيى: (أنا ميت، وإنما بقي من أجلي أسبوع)(14).
استشهاد الإمام (عليه السلام)
كان السندي بن شاهك يهودياً فظاً غليظاً، قسي القلب، سيء الخلق والعمل، وقد أمره هارون بسجن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عنده، وإيذائه أشد الإيذاء. فكان السندي يقوم بتعذيب الإمام (عليه السلام) في سجنه كثيراً، إلى أن جاءه أمر هارون بقتل الإمام (عليه السلام) بالسم.
فقام السندي بجعل السم في طعام قدمه إلى الإمام (عليه السلام)، قيل: إنه جعله في رطب، فأكل الإمام (عليه السلام) منه فأحس بالسم، ولبث ثلاثاً بعده موعوكاً منه، ثم مات مسموماً مظلوماً في اليوم الثالث.
هذا وقام السندي بخطة خبيثة للتغطية على جرمه حين ما دفع السم إلى الإمام (عليه السلام)، حيث جمع ثمانين رجلاً من مشايخ وعلماء ووجهاء بغداد إلى بيته، وجاء بالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من السجن إلى غرفة أخرى. وقال: انظروا إلى موسى بن جعفر هو عندنا معزز مكرم، وكلما تسمعون من هنا وهناك بأنه في الشدة وتحت التعذيب فهو كذب محض، ولم ينو الخليفة هارون بالنسبة إليه سوءاً أبداً، وإذا حصل شيء بالنسبة إلى الإمام (عليه السلام) فهو من أمر الله، فإنه الآن في صحة وعافية تامة.
يقول الراوي: وكان أهل المجلس ينتظرون رد الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام)، وقد رأوا في الإمام سيماء الأنبياء، وآثار العلم والعبادة، وأنوار السيادة والنجابة، والزهد والتقوى، وإذا بالإمام (عليه السلام) نطق بعد كلام السندي وقال:
(ما سمعتموه فهو تظاهر منه وكذب، وما ترونه من البيت والفرش فهو تصنع، وإنه قد أطعمني تسعة تمرات مسمومات، وسينقلب لوني يوم غد إلى الأخضر، وسأموت بعده بيوم، وأتخلص من الدنيا ومآسيها، وانتقل إلى جوار ربي، وأرد على جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلا تصدقوا السندي فيما يقول).
فلما سمع السندي بكلام الإمام (عليه السلام)، أخذ يرتجف حيث افتضح أمام الجميع، وعلم الناس بخبث هارون ومكره، وأنه قام بقتل الإمام (عليه السلام).
فانتظر السندي إلى أن خرج الناس من بيته، فجاء مغضباً نحو الإمام (عليه السلام) وأخذ يضربه بالسياط، ويكثر من تعذيبه الوحشي.
وفي رواية: جاء بالطعام المسموم للإمام (عليه السلام)، وأجبروه على التناول منه. فرفع الإمام (عليه السلام) يده إلى السماء وقال: (يا رب إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي). فلما أكل منه مرض، ولما سأله الطبيب عن العلة، أخرج إليه راحته فأراها الطبيب، ثم قال: (هذه علتي). وكانت خضرة وسط راحته تدل على أنه سم، قال: فانصرف الطبيب إليهم وقال: والله لهو أعلم بما فعلتم به منكم، ثم توفي (عليه السلام) مسموماً(15).
إني قد سُقيت السم
عن الحسن بن محمد بن بشار، قال: حدثني شيخ من أهل قطيعة الربيع من العامة، ممن كان يقبل قوله. قال: جُمعنا أيام السندي بن شاهك ثمانين رجلاً من الوجوه، ممن ينسب إلى الخير، فأدخلنا على موسى بن جعفر. فقال لنا السندي: يا هؤلاء، انظروا إلى هذا الرجل، هل حدث به حدث، فإن الناس يزعمون أنه قد فُعل مكروه به، ويكثرون في ذلك، وهذا منزله وفرشه، موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به الأمير سوءاً، وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره الأمير، وها هو ذا صحيح موسع عليه في جميع أمره، فاسألوه. قال: ونحن ليس لنا هم إلا النظر إلى الرجل، وإلى فضله وسمته. فقال (عليه السلام): (إني أخبركم أيها النفر، أني قد سقيت السم في تسع تمرات، وأني أخضر غداً، وبعد غد أموت). قال: فنظرت إلى السندي بن شاهك يرتعد ويضطرب مثل السعفة(16).
وفي رواية: لما توفي أبو إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام)، جمع هارون العباسي شيوخ الطالبية، وبني العباس، وسائر أهل المملكة والحكام، وأحضر أبا إبراهيم موسى بن جعفر. فقال: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه، وما كان بيني وبينه ما أستغفر الله منه في أمره ـ يعني في قتله ـ فانظروا إليه. فدخل عليه سبعون رجلاً من شيعته، فنظروا إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) وليس به أثر جراحة ولا خنق(17).
وروي أن السندي بن شاهك حضر بعدما كان بين يديه السم في الرطب، وأنه (عليه السلام) أكل منها عشر رطبات. فقال له السندي: تزداد؟. فقال (عليه السلام) له: (حسبك قد بلغت ما يحتاج إليه فيما أمرت به). ثم إنه أحضر القضاة والعدول قبل وفاته بأيام وأخرجه إليهم، وقال: إن الناس يقولون: إن أبا الحسن موسى في ضنك وضر وها هوذا، لا علة به ولا مرض ولا ضر. فالتفت (عليه السلام) فقال لهم: (اشهدوا عليَّ أني مقتول بالسم منذ ثلاثة أيام، اشهدوا أني صحيح الظاهر لكني مسموم، وسأحمر في آخر هذا اليوم حمرة شديدة منكرة، وأصفر غداً صفرة شديدة، وأبيض بعد غد، وأمضي إلى رحمة الله ورضوانه). فمضى (عليه السلام) كما قال في آخر اليوم الثالث(18).
يوم قتل الإمام (عليه السلام)
قُتل الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ببغداد، شهيداً مسموماً في حبس هارون العباسي، بعد مضي خمسة عشرة سنة من ملكه، على يد السندي بن شاهك، وذلك في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رجب سنة ثلاث وثمانين ومائة على المشهور، وعمره الشريف خمس وخمسون سنة.
عن عبد الله بن طاووس، قال: قلت للرضا (عليه السلام): إن يحيى بن خالد سم أباك موسى بن جعفر (صلوات الله عليه)؟. قال: (نعم، سمه في ثلاثين رطبة)(19).
وقد سبق أن السندي بن شاهك سم الإمام (عليه السلام) بأمر من هارون ويحيى.
خطوات لتغطية الجريمة
وبعد ما توفي الإمام (عليه السلام) مسموماً، أراد هارون أن يغطي على جريمة قتله للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام).
فأمر السندي بن شاهك بعد مقتل الإمام بدعوة جمع من فقهاء بغداد ووجهائها؛ ليؤكد لهم بأن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) توفي بالموت الطبيعي من دون تقصير من السلطات الظالمة. فقال السندي: انظروا إلى جسده حيث لا جراحة فيها، ولا آثار تعذيب.. ولكن فشلت هذه الخطة أيضاً.
روي أنه لما مات الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بالسم، أدخل السندي بن شاهك عليه الفقهاء، ووجوه أهل بغداد، وفيهم الهيثم بن عدي وغيره، فنظروا إليه لا أثر به من جراح ولا خمش، وأشهدهم على أنه مات حتف أنفه، فشهدوا على ذلك، ولكن الله فضحهم بعد ذلك(20).
وكان من شدة ظلمهم، أنهم أرادوا إهانة الإمام (عليه السلام) والاستخفاف به، فجاءوا بأربعة حمالين حملوا النعش الطاهر من السجن، وجعلوا الجنازة المقدسة على جسر بغداد، ونادى المنادي:
هذا إمام الرافضة موسى بن جعفر، وقد مات بموت طبيعي، فليأت كل من يريد أن ينظر إليه، كما نادوا بنداءات أخرى تتضمن إهانة الإمام (عليه السلام).
فجعل الناس يتفرسون في وجه الإمام (عليه السلام)، وهم شاكون في سبب موت الإمام (عليه السلام)، إلى أن جاء طبيب نصراني ونظر إلى راحة كف الإمام الكاظم (عليه السلام). فقال للناس: إن هذا الرجل قتل بالسم، فقولوا لعشيرته أن يطالبوا بدمه.
وهكذا فضح الله هارون وجلاوزته، وعرف الناس أن الإمام (عليه السلام) مات مسموماً في سجونهم.
فصارت الضجة في الناس، وانقلب السحر على الساحر، حتى خاف هارون من الفتنة والقيام ضده، فخرج من بغداد، وأمر بعض جلاوزته بأن يتظاهروا بإكرام جنازة الإمام (عليه السلام)، ويدفنوه في مقابر قريش في كاظمية اليوم.
ثلاثة أيام على جسر بغداد
لما توفي الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) مسموماً، أخرجوه للناس وعملوا محضراً بأنه مات حتف أنفه، وتركوا جثمان الإمام (عليه السلام) ثلاثة أيام على الطريق، يأتي من يأتي فينظر إليه ثم يكتب في المحضر(21).
محاولة أخرى لإخفاء الجريمة
عن عمر بن واقد، قال: أرسل إليَّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد يستحضرني، فخشيت أن يكون ذلك لسوء يريده بي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم ركبت إليه، فلما رآني مقبلاً قال: يا أبا حفص، لعلنا أرعبناك وأفزعناك. قلت: نعم. قال: فليس هنا إلاّ خير. قلت: فرسول تبعثه إلى منزلي يخبرهم خبري. فقال: نعم. ثم قال: يا أبا حفص، أتدري لم أرسلت إليك؟. فقلت: لا. فقال: أ تعرف موسى بن جعفر؟. فقلت: إي والله إني لأعرفه، وبيني وبينه صداقة منذ دهر. فقال: مَن هاهنا ببغداد يعرفه ممن يقبل قوله؟. فسميت له أقواماً، ووقع في نفسي أنه (عليه السلام) قد مات. قال: فبعث وجاء بهم كما جاء بي. فقال: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟. فسموا له قوماً، فجاء بهم فأصبحنا ونحن في الدار نيف وخمسون رجلاً ممن يعرف موسى بن جعفر (عليه السلام) وقد صحبه. قال: ثم قام فدخل وصلينا، فخرج كاتبه ومعه طومار، فكتب أسماءنا ومنازلنا وأعمالنا وحلانا، ثم دخل إلى السندي. قال: فخرج السندي فضرب يده إليَّ. فقال لي: قم يا أبا حفص. فنهضت ونهض أصحابنا ودخلنا. فقال لي: يا أبا حفص، اكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر. فكشفته فرأيته ميتاً، فبكيت واسترجعت، ثم قال للقوم: انظروا إليه. فدنا واحد بعد واحد، فنظروا إليه. ثم قال: تشهدون كلكم أن هذا موسى بن جعفر بن محمد. فقلنا: نعم نشهد أنه موسى بن جعفر بن محمد (عليه السلام). ثم قال: أ ترون به أثراً تنكرونه؟. فقلنا: لا ما نرى به شيئاً، ولا نراه إلاّ ميتاً(22).
وهكذا أرادوا أن يغطوا على ما قام به هارون ولكن الله فضحهم.
واستمرت هذه الخطة حتى على شفير القبر، فعن يونس بن عبد الرحمن، قال: حضر الحسين بن علي الرواسي جنازة أبي إبراهيم (عليه السلام)، فلما وضع على شفير القبر، إذا رسول من السندي بن شاهك قد أتى أبا المضا خليفته، وكان مع الجنازة أن اكشف وجهه للناس قبل أن تدفنه حتى يروه صحيحاً لم يحدث به حدث(23).
خطة سليمان بن أبي جعفر
ثم إنه لما حصل هذا الظلم من هارون بالنسبة إلى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وجنازته، خاف الفتنة وثورة الناس والهاشميين عليه. فإنهم لما قتلوا موسى بن جعفر (عليه السلام) نادوا عليه بذلّ الاستخفاف: هذا إمام الرافضة فاعرفوه، ولما أتي به مجلس الشرطة أقاموا عليه أربعة نفر ونادوا: ألا من أراد أن يرى الخبيث ابن الخبيث! ـ والعياذ بالله ـ فليخرج.
فلم يتحمل الناس هذا الجفاء على أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وخاف هارون الفتنة.
فأرسل سليمان ليتدارك الوضع، وأخذ هارون يلعن السندي بن شاهك، ويتظاهر بأنه هو الذي قتل الإمام (عليه السلام) بالسم من دون علم هارون.
وكان سليمان بن أبي جعفر أحد جلاوزة هارون، ومن السفاكين والمجرمين، ومن أعوان السلطة الظالمة، وقد جنى جنايات كبيرة في قصة الشهيد حسين الفخ.
وقد أشار إليه هارون بأن يتدارك الموقف، فأخذ سليمان يتظاهر بالحزن واحترام جنازة الإمام، حيث نزل من قصره، ورمى العمامة من رأسه، وشق جيبه في مصيبة الإمام ليخدع الناس، وأمر غلمانه وشرطته بإبعاد تلك الزمرة المجرمة عن جنازة الإمام، ثم أخذ يمشي حافياً في التشييع، وأمر المنادي أن ينادي: من أراد أن ينظر إلى الطيب بن الطيب والطاهر بن الطاهر فليحضر جنازة الإمام.
ثم هيأ سليمان كفناً ثميناً، قيل إنه يقدر بخسمة آلاف دينار، وقد كتب عليه القرآن الكريم بأكمله، كل ذلك لكي يمتص النقمة الشعبية ضد الحكم العباسي.
فاجتمع أهل بغداد بأجمعهم وأخذوا بالبكاء والنحيب، فعلت أصواتهم من الأرض إلى السماء في تشييع الإمام (عليه السلام)، حتى أوصلوا الجثمان إلى مقابر قريش، حيث مرقده الشريف الآن في الكاظمية المقدسة.
وفي رواية: خرج سليمان بن أبي جعفر من قصره إلى الشط، فسمع الصياح والضوضاء. فقال لولده وغلمانه: ما هذا؟.
قالوا: السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر على نعش.
فقال لولده وغلمانه: يوشك أن يفعل هذا به في الجانب الغربي، فإذا عبر به فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من السواد.
فلما عبروا به نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم، وضربوهم وخرقوا عليهم سوادهم، ووضعوه في مفرق أربعة طرق، وأقام المنادين ينادون: ألا من أراد الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليخرج.
وحضر الخلق وغسل وحنط بحنوط فاخر، وكفنه بكفن فيه حبرة استعملت له بألفين وخمسمائة دينار عليها القرآن كله، واحتفى ومشى في جنازته متسلباً مشقوق الجيب إلى مقابر قريش فدفنه هناك.
ثم كتب سليمان بخبره إلى هارون، فكتب هارون إلى سليمان بن أبي جعفر وهو يريد أن يبرأ نفسه كما أراد يزيد أن يبرأ نفسه من دم الإمام الحسين (عليه السلام): وصلتك رحم يا عم، وأحسن الله جزاءك، والله ما فعل السندي بن شاهك لعنه الله ما فعله عن أمرنا(24).
اضف تعليق