وُلد رسول الله (ص) محمد في ذلك البلد الحرام، وفي تلك الأسرة المباركة، النابعة من الشجرة الإبراهيمية الطيبة، شجرة الأنبياء، والأوصياء، والأولياء وفي بيت أشرفها وفخرها وأعظمها فيها وفي العرب مَنْ كانوا يسمونه إبراهيم الثاني، شيبة الحمد عبد المطلب، من ولده الأصغر والأحب على قلبه عبد الله...
ولد الرسول الأعظم (ص) في 17 ربيع الأول من عام الفيل
مقدمة نورانية
في هذه الأيام الربيعية الجميلة تنكشف الأحزان وتبدأ الأفراح بمولد نور الأنوار، والرسول المختار محمد المصطفى، الذي كان أول خلق الله في عالم النور، وكما في الأحاديث الكثيرة التي تتحدث عن النور الأول الذي خلقه الله سبحانه، حيث جاء في الرواية الشهيرة عن جابر بن عبد الله الأنصاري الذي سأل رسول الله (ص) قائلاً: (أول شيء خلق الله تعالى ما هو؟ فقال: نُورُ نَبيَّكَ يَا جَابِر، خَلَقَهُ اللهُ ثُمَّ خَلَقَ مِنهُ كُلَّ خَيرٍ)، فكل خير في هذه الدنيا أصله الحبيب المصطفى (ص)، وعترته الطاهرة وهذا ما جاء في الزيارة الجامعة حيث يقول الإمام علي الهادي (ع) فيها: (إِنْ ذُكِرَ الْخَيْرُ كُنْتُمْ أَوَّلَهُ، وَأَصْلَهُ، وَفَرْعَهُ، وَمَعْدِنَهُ، وَمَأواهُ، وَمُنْتَهاهُ).
فالخلق الأول المكرَّم والمخلوق المعظم هو ذاك النور الأنور للرسول الخاتم، الذي خلقه الله من نور عظمته، وخلق منه أخاه ووصيه، ونفسه أمير المؤمنين الإمام علي (ع)، وعترته الطاهرين، كما في الحديث النوراني المروي عنه (ص): (أول ما خلق الله نوري ابتدعه من نوره، واشتقه من جلال عظمته، فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة، ثم سجد لله تعظيما ففتق منه نور علي (ع) فكان نوري محيطاً بالعظمة، ونور عليٌّ محيطاً بالقدرة، ثم خلق العرش، واللوح، والشمس، وضوء النهار، ونور الأبصار، والعقل، والمعرفة، وأبصار العباد، وأسماعهم، وقلوبهم، من نوري، ونوري مشتق من نوره.
فنحن الأولون ونحن الآخرون ونحن السابقون ونحن المسبحون ونحن الشافعون ونحن كلمة الله، ونحن خاصة الله، ونحن أحباء الله، ونحن وجه الله، ونحن جنب الله، ونحن يمين الله، ونحن أمناء الله، ونحن خزنة وحي الله، وسدنة غيب الله، ونحن معدن التنزيل ومعنى التأويل، وفي أبياتنا هبط جبرئيل، ونحن محالُّ قدس الله، ونحن مصابيح الحكمة، ونحن مفاتيح الرحمة، ونحن ينابيع النعمة، ونحن شرف الأمة، ونحن سادة الأئمة، ونحن نواميس العصر، وأحبار الدهر، ونحن سادة لعباد، ونحن ساسة البلاد، ونحن الكفاة، والولاة، والحماة، والسقاة، والرعاة، وطريق النجاة، ونحن السبيل والسلسبيل، ونحن النهج القويم والطريق المستقيم.
مَنْ آمن بنا آمن بالله، ومَنْ ردَّ علينا ردَّ على الله، ومَنْ شكَّ فينا شكَّ في الله، ومَنْ عرفنا عرف الله، ومَنْ تولى عنَّا تولى عن الله، ومَنْ أطاعنا أطاع الله، ونحن الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوان الله، ولنا العصمة، والخلافة، والهداية، وفينا النبوة، والولاية، والإمامة، ونحن معدن الحكمة، وباب الرحمة، وشجرة العصمة، ونحن كلمة التقوى، والمثل الأعلى، والحجة العظمى، والعروة الوثقى، التي مَنْ تمسك بها نجا). (بحار الأنوار المجلسي: ج25 ص23)
الله، الله ما أجمل هذه الأحاديث وأعظمها وأجلها وأقدرها على بعث النور في القلوب والطمأنينة في النفوس، والراحة في الأرواح، وذلك لأنها صادرة من منبع الأنوار، وسيد الأطهار، ورسول الرب الجبار، الذي أبدعه، وأكرمه، وفضَّله، على خلقه بما استودعه من علمه، وائتمنه على رسالته وكتابه ووحيه، فأكمله بكل معاني الكمال، وجمَّله بكل أطراف الجمال، وصنعه على عينه، وربَّاه على أدبه، وخلَّقه بأخلاقه، وقال له: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)
رسول الهدى والرشاد
فعندما وُلد رسول الله (ص) محمد في ذلك البلد الحرام، وفي تلك الأسرة المباركة، النابعة من الشجرة الإبراهيمية الطيبة، شجرة الأنبياء، والأوصياء، والأولياء (عليهم السلام)، وفي بيت أشرفها وفخرها وأعظمها فيها وفي العرب مَنْ كانوا يسمونه إبراهيم الثاني، شيبة الحمد عبد المطلب (ع)، من ولده الأصغر والأحب على قلبه عبد الله (ع)، الذي ما رأى ولده عظيم الإنسانية وفخر العرب والهاشمية، وُلد الهدى والرَّشاد في العباد.
وذلك لأن العرب كانوا يعيشون في حالة من التشظي والتشرذم العجيب والغريب، حيث كانوا يعتاشون على الغزو والسلب والنهب لبعضهم البعض، فكانوا كما قالت سيدة النساء (ع): (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ}، لأن أمرهم كان بيد غيرهم من أباطرة وملوك الإمبراطوريات الكبرى في ذلك الزمان الفارسية والرومانية، فكانوا كحالهم اليوم من حيث التفرقة، والتناحر، والتقاتل، والذيلية للقوى العالمية.
وأما من حيث الفكر والثقافة والروحانية فإنهم كانوا أسوء الخلق لأنه شخَّصوا الخالق سبحانه بأخسِّ المخلوق، فاتخذوا أصناماً خشبية، وأوثاناً حجرية، وأرباباً مختلفة ووضعوا هُبل على ظهر الكعبة المقدسة وزرعوا 360 صنماً لهم من حولها، فحوَّلوها من رمز التوحيد إلى بؤرة الشرك، وراحوا يطوفون بها حفاةً عُراةً رجالاً ونساء كما زين لهم الشيطان فأخرجهم عن إنسانيتهم، وبهذا وصفهم أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في قوله: (إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلى شَرِّ دِين، وَفِي شَرِّ دَار، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَة خُشْن، وَحَيَّات صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ وَتَأْكُلُونَ الْجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ. الأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالآْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ). (نهج البلاغة: خ25)
فالعرب كانوا في تلك الحالة من الجهل والجاهلية المطبقة، حتى أنك لا تجد فيهم خمسة يُحسنون الكتابة والقراءة فكانوا يحفظون النصوص والقصائد على ظهر قلب، فكم كان التخلُّف والتأخر فيهم، وكم كان التقاتل والتناحر يأخذ منهم؟، فكان لا بدَّ والحال هذه من بزوغ فجر جديد، وأذان بيوم جديد وإشراقة شمس الهداية والرشاد ليكشف ذلك الظلام ويطرد ذاك الجهل، فكانت ولادة الحبيب المصطفى (ص) هي تلك الشمس التي أشرقت على ليل الإنسانية الطويل فأذنت بيوم جديد في هدى والنور لمَنْ قبله وسار في ركبه.
طبيب الإنسانية المريضة
فالدارس والمتأمل والباحث عن تلك الفترة التي يُسمونها الجاهلية في الجزيرة العربية، وما حولها من شعوب وحضارات لا إنسانية، كالحضارة الفارسية التي تعبد النار، أو الحضارة الرومانية الظالمة المظلمة، التي تعبد السلطان الجبار، فكانت الإنسانية مريضة بأبشع أنواع الأمراض الروحية، والنفسية، فهي معذبة بأقسى أنواع العذاب، الروحي والنفسي والبدني الجسدي، بما كان يُمارسه الطغاة والجبارون من امتهان البشر وإخضاعهم لسلطانهم بالقوة والنار.
فكم كانت الحاجة إلى طبيب يداوي أمراض الإنسانية في ذلك الزمن الموغل في الجهل والتخلف، فكانت الولادة العظيمة لطبيبها العظيم الذي وصفه أمير المؤمنين (ع) بقوله: (طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ، وَأَحْمَى (أمضي) مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، مِنْ قُلُوب عُمْي، وَآذَان صُمٍّ، وَأَلْسِنَة بُكْم; مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ، وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ). (نهج البلاغة: خ108)
لقد كانت الولادة الميمونة لطبيب الإنسانية في مكة المكرمة التي هي أطهر بقاع الكرة الأرضية، وفيها بقايا الشجرة المباركة الطيبة التي تفرَّع منها الأنبياء، والأوصياء، ولكنها انقلبت فيها القيم رأساً على عقب حتى صار الحق باطلاً والباطل ظهر وكأنه حقاً، وغابت المنظومة القيمة من المجتمعات البشرية لا سيما تلك التي ترتبط في السماء، ورسالات الأنبياء (ع)، والله سبحانه لطيف بعباده ويريد لهم الهداية والرشاد ويُبعدهم عن الغواية والضلال، ولكن كيف السبيل إلى ذلك إلا بمصلح كبير بحجم العالم، يبعثه الله في تلك الفترة لينقذ العباد والبلاد.
الحضارة الرقمية المريضة
ونحن في هذا العصر حيث الحضارة الرقمية، التي تعملقت في كل النواحي المادية ولكنها تقزمت من النواحي الروحية والقيمة والأخلاقية، فعادت الدنيا على الجاهلية من جديد ولكن جاهلية علمية برَّقة تظهر وكأنها حقائق وما هي إلا محض أوهام، يعيشها الإنسان المعاصر تحت تأثير الكذب والدجل الممنهج والمبرمج الذي تمطره به الأدوات الهائلة في الإعلام والإعلان التي اخترعها الإنسان للسيطرة على الكرة الأرضية ليحكمها كما يُريد الشيطان، ولذا ترى أن شعاره الكبير هو الهرم وعين الشيطان في أعلاه، وكأنه يقول للجميع: أنتم في عين الشيطان، ولا وجود للرحمن ولا لشيء آخر إلا الشيطان اللعين الرجيم.
فحضارة الرقم هي حضارة إبليس، والشياطين من الجن والإنس، الذين يوحي بعضهم إلى بعض لكي يغووا الإنسان ويخرجوه من الدِّين الحق ويلقوه في أحضان الشيطان، وزبانيته فاخترعوا النظريات وقالوا: إنها فكرية، وعلمية، وإنسانية، وما هي إلا أوهام باطلة، وأحلام يقظة ليس فيها من الحق والحقيقة إلا شيء واحد؛ هو أنها عبادة الشيطان وكفر بالخالق الرحمن.
فأرباب الحضارة المعاصرة التي انطلقت من عصر التنوير، وكان أول شيء حاربوه الرب، والإله حيث قال نيتشة: "نحن قتلنا الإله"، فأرادوا بذلك حضارة بشرية خالية من تعاليم السماء، ولا سُنن الأنبياء (ع)، إذ أنهم اعتبروا تخلفهم، وجهلهم، وتحجرهم؛ هي من تعليمات الكنيسة التي ظنوا خطأ أنها تمثل رسالة الله فيهم، وهي في الحقيقة تمثل السلطة الغاشمة التي تقاسمها السلطان الحاكم، والقس الجاهل، وراحوا يُذيقون البشر أبشع أنواع المهانة، فيقتلون العلماء وأهل الفكر بالمقصلة، ويبيعوا صكوك الغفران يضحكون بها على الفقراء والبسطاء ليسرقوهم.
فما استطاعوا أن يتقدموا في كل مجالات الحياة إلا بعد أن تحرروا من تلك السلطة الغاشمة ولكن من بؤسهم وتحكم اليهود في تفكيرهم صبوا كل حقدهم وغضبهم على الدِّين وليس على المتلبسين بلباس الدِّين، كحال المسلمين اليوم الذين راحوا يخرجون من الدِّين إلى الإلحاد فراراً من أعمال التكفيريين المجرمين، الذين شهروا سيف التكفير وراحوا يعيثون في الأرض فساداً وظن الكثيرون أن هذا هو الدِّين فخرجوا منه، والحقيقة أن الدِّين هو عين الرحمة والسلام والمحبة والاطمئنان، ولا محل فيه لأي جريمة مهما كانت صغيرة فإن عليها دية (أرش الخدش)، فالدِّين والإسلام بريء من هؤلاء المجرمين السفاحين للدم الحرام.
فما أحوج الإنسانية المعذبة اليوم لولادة جديدة لشمس الهداية، فقد أظلم نهارها وطال ليلها، ودخلت في نفق مظلم، ومتاهة لا يعلم بابها وطريقة الخروج منها إلا الله سبحانه، لأن البشر قاصر في فكره المحدود، ورؤيته البسيطة، وعقله الساذج - هذا إذا تجرَّد من الهوى وضغوط المحيط الاجتماعي، وكل ما يمكن أن يؤثر على حالته وتفكيره – أن يهتدي إلى الطريق الصحيح والباب الذي يخرجه إلى شمس النهار ونورها المطهر.
فحاجة الإنسانية بملياراتها الثمانية اليوم هو بمكان المضطر الذي يُجاب إذا دعا، ولكن البشر غافلون سادرون في غيِّهم وضلالهم، ومسيرهم إلى الهاوية بأقدامهم الخشبية ولكنهم مبهورون بألوان وأشكال هذه الحضارة الخدَّاعة، ولذا تراهم لا يستيقظون منها إلا بالموت المحتم عليهم جميعاً ولكن لات حين مندم ومناص، فالنار أمامهم والشيطان ربهم وإمامهم فأنى يهتدون؟
فمرض عصر الحضارة اليوم أشد فتكاً من مرض الجاهلية العربية منذ قرون، وذلك لأنهم كانوا يدفنون بناتهم، وأنفسهم خوفاً من الجوع، وأما الحضارة الرقمية فهي تدفن شعوباً ودولاً بأكملها، ليس خوفاً من الجوع بل طلباً للخضوع والركوع للطغاة، وفي الكرة الأرضية من الخيرات والبركات ما تكفي أضعاف ما فيها من المخلوقات ولكن يتعمدون إلقاء الزائد لديهم من الأغذية في البحار والمحيطات ليس حباً بالسمك والحيتان، بل رغبة منهم بالمحافظة على السعار العالمية من جهة وقتل الناس جوعاً من جهة أخرى لا سيما الدول الفقيرة وشعوبها المتخلفة كما يصنفونها.
فأي جهل وجاهلية يعاني منها الإنسان والإنسانية في عصر الحضارة الرقمية التي حوَّلت كل القيم إلى مادة وبحسب سعرها في السوق، وجنيها للأرقام في البنوك، ولا شيء ولا معنى للإنسانية فيهم، فلا شأن بالملايين يموتون جوعاً وهو يحصد في كل لحظة الملايين من الدولارات بالحرام، فأي شيء سيفعل بها هذا المعتوه وهو في حياته خازن لهذه الأرقام الصفرية، ومحاسب عنها بعد مماته في محكمة العدل الإلهية؟
هكذا عملوا منذ عصر التنوير حيث قتلوا الإله، ثم قتلوا الإنسانية في الإنسان، أي قتلوا الوازع الديني في المجتمع، والضمير في الفرد، والرادع الأخلاقي في الحياة، فصارت الحياة غابة من غابات الأمازون الموحشة، أو محيطاً من المحيطات العملاقة، حتى صار يتحدَّث إمبراطور دولة الشر جهاراً نهاراً ويقول: أننا سنأخذ كل ما نريد لأنه لدينا الأسطول والقوة الكافية لذلك.
نعم؛ صارت الحياة جحيماً لا يُطاق وليلاً اسوداً لا نهتدي فيه، فأين أنت يا شمس الشموس، ومنقذ النفوس، ومخلص الدنيا من الظلم والجور والعدوان، عجل الله فرجك وأرانا مخرجك.
اضف تعليق