الإسلام العظيم لم يترك شاردة ولا واردة ولا صغيرة ولا كبيرة إلا وجعل لها حلاً عادلاً، وقسَّم الأرزاق كما قسَّم الأعمار، ولكن البشر أنفسهم يتظالمون فيظلم بعضهم بعضاً ولا يرحم غنيهم فقيرهم، ولا قويهم ضعيفهم، حتى غدونا في هذا العصر أشبه بغابة يأكل القوي الضعيف...
تاريخ الشهادة: 7 ذي الحجة، سنة 114 - 117هـ المدينة المنورة (البقيع)
مقدمة اقتصادية
يُقال: "أن الاقتصاد عصب الحياة"، وهو كذلك فعلاً لأنه كما الأعصاب هي المسؤولة عن حركة أعضاء البدن البشري كذلك الاقتصاد هو المحرك لكل نواحي المجتمع الإنساني، فالاقتصاد هو الحياة وقوامها، فهو كالماء بالنسبة للأحياء، زيادته مضرة، ونقصه مهلكة وجفاف.
ولذا كانت المشكلات الاقتصادية هي أكثر ما يواجه المصلحين عبر العصور والدهور، وهذا ما نراه واضحاً وجلياً في هذا العصر المتطور والمتقدم مادياً إلا أننا نعيش أزمة اقتصادية مستعصية على الحل على جميع القادة والساسة حتى في رأس الهرم العالمي اليوم، في قيادة الإمبراطورية الأقوى التي تُعاني من مشكلات اقتصادية تكاد أن تُسقطها لولا القوة العسكرة وهيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، وكم كان خبيثاً وماكراً الذي جعل الدولار ميزاناً ليضمن بقاءه وسيطرته على عصب الحياة الرقمية في الكرة الأرضية.
المشكلة الاقتصادية الإسلامية
عرَّفوا المشكلة الاقتصادية: "بأنها حدوث مشكلة عدم تناسب ما بين حاجة أفراد المجتمع وحاجة المجتمع وبين الموارد المحدودة والمتاحة"، وهو ما يُسمونه؛ "ﻣﺷﻛﻠﺔ اﻟﻧَّدرة": وهي تمثل ﺟوﻫر ﻣوﺿوع ﻋلم الاقتصاد، وﺗﻛﻣن ﻓﻲ ﻣﺣدودﯾﺔ اﻟﻣوارد اﻻﻗﺗﺻﺎدﯾﺔ وﻧدرﺗﻬﺎ باﻟﻧﺳﺑﺔ اﻟﻼزﻣﺔ ﻟﺗﻠﺑﯾﺔ اﻟﺣﺎجات اﻻﻧﺳﺎﻧﯾﺔ اﻟﻣﺗﻌددة واﻟﻣﺗزاﯾدة ﺑﺎﺳﺗﻣرار، ﻓﺎﻟﻣﺷﻛﻠﺔ اﻻﻗﺗﺻﺎدﯾﺔ واﺟﻬت اﻻﻧﺳﺎن واﻟﻣﺟﺗﻣﻌﺎت اﻟﺑﺷرﯾﺔ ﻣﻧذ اﻷزل وإلى الآن"، وستستمر إلى قيام دولة الحق والعدل المنتظرة.
فالمشكلة تنبع من الخلل ما بين الموجود والمطلوب، ولكن حاجات الناس لا تنتهي، ومتطلباتهم ليس لها حد، فالطمع، والجشع، ولا سيما في الموارد التكميلية والغير ضرورية للحياة الاجتماعية وهي ما نسميها بالكماليات، لأن الإنسان يلزمه للعيش الماء حتى الرواء، والطعام لحفظ الحياة، وما يستره من اللباس، والمأوى الذي يحفظه ويحميه، وكل ما سواها هي من الكماليات التي يمكن لكل الناس العيش بدونها، كما كان آباؤنا وأجدادنا يعيشون ببساطة وسعادة وهناء أكثر منا جميعاً ومن هنا كانت التعاليم الدينية لنا بالقناعة بالمقسوم، والرضا عن الله في الرزق، وعدم الطمع بما في أيدي الناس.
لأن لب المشكلة الاقتصادية الإنسان يصنعها، وهو الذي يختلقها، لأنها في الحقيقة لا وجود لها لأن الخالق هو الرازق، وهو حكيم وعادل، ولكن أين المشكلة إذن قد تسألني؟
المشكلة فينا نحن البشر، قال أمير المؤمنين (ع): (إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ وَاللَّهُ تَعَالَى سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ)، فالله الحاكم الحكيم والعادل الكريم قسَّم الأرزاق وامتحن الناس بعضهم ببعض، ولكن جزع الفقراء، وطمع الأغنياء خلقوا المشكلة الاقتصادية التي تستعصي على الحل، لأن الحل بيد الأغنياء وهم المشكلة وسببها وأصلها وفصلها فكيف نرجو الحل منهم وهنا المقتل في المسألة الاقتصادية.
الإسلام العظيم لم يترك شاردة ولا واردة ولا صغيرة ولا كبيرة إلا وجعل لها حلاً عادلاً، وقسَّم الأرزاق كما قسَّم الأعمار، ولكن البشر أنفسهم يتظالمون فيظلم بعضهم بعضاً ولا يرحم غنيهم فقيرهم، ولا قويهم ضعيفهم، حتى غدونا في هذا العصر أشبه بغابة يأكل القوي الضعيف وما نعيشه في مشكلة كورونا أكبر دليل على ظلم البشر وطمعهم وجشعهم وعدم إنسانيتهم.
الإمام محمد الباقر (ع)
هو الإمام الخامس من أئمة المسلمين الذي عاش في عصر بني أمية الكارثي على الأمة، وحضر في مأساة عاشوراء الخالدة، مع أبيه وجده سيد الشهداء (ع) ورأى كل ما جرى من ظلم وجور وقتل وسبي وكل ما فعلته السلطة الأموية، وهو إمام الأمة وقائدها لعقدين من الزمن فكيف عاش في المجتمع الإسلامي ويرى الفقر، والجوع، والحرمان من الأمة، والتخمة والبذخ والسَّرف من السلطان وأعوانه من صبيان النار الأموية، والأوزاغ المروانية، الذين حوَّلوا الملك إلى ملك عضوض كما أخبر جده رسول الله (ص) من قبل.
الإمام هو القائد والمسؤول عن حلِّ كل المشكلات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والتجارية، وكل ما يعترض الأمة من مشكلات لو كان مبسوط اليد، ولكن ما الحيلة وهو أول المحارَبين من السلطة القرشية الظالمة، والإمام الخامس (ع) كان من نعم الله على هذه الأمة وجوده المبارك لأنه الذي بقر علوم الأولين والآخرين، والأنبياء والمرسلين، ولو فوَّضوا إليه مشاكل الأرض كلها لحلَّها لهم ولكن الأغبياء كانوا ينظرون إليه بعين المشكلة والعداء.
الإمام يعمل في أرضه
ومما يُحدِّث به التاريخ عن سيرة ومسيرة هذا الإمام العظيم، أنه كان جسيماً، وسيماً، ومن أجمل أئمة المسلمين لأنه أول مَنْ جمع جمال الحسنين (ع) فكان حسينياً وحسنياً، فاجتمع فيه الجمال الفاطمي، والخصال العلوي، وكان في أوقات الفراغ يذهب ويعمل في بستانه يروي محمد بن المنذر يقول: خرجتُ إلى بعض نواحي المدينة، فلقيني أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) وكان بادناً ثقيلاً، وهو متكئ على غلامين أسودين، وموليين، فقلتُ في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الحالة، وفي هذه الساعة يخرج في طلب الدنيا!! أما أني لأعظنه فدنوتُ منه، فسلمتُ عليه، وهو يتصبَّبُ عرقاً، فقلتُ له: أصلحك الله، شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة يخرج لطلب الدنيا؟! أرأيتَ لو جاء أجلك على هذه الحالة ما كنتَ تصنع؟)
فأجابه الإمام بمنطق الإسلام قائلاً: (لو جاءني الموت، وأنا في طاعة من طاعات الله عز وجل أعمل فأكفُّ نفسي وعيالي عنكَ وعن الناس، وإنما كنتُ أخاف لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله).
فخجل الرجل، فانصرف وهو يقول: (صدقتَ يرحمك الله أردتُ أن أعظك فوعظتني).
فالعمل فخر وشرف وعز للرجل وكان رسول الله (ص) يقول للرجل: (أُغدُ إلى عزِّك) أي إلى السوق، والجبل لقطع الحطب فالعمل مقدس في الإسلام وهو من الجهاد الأكبر، والعمل هو الوصفة السحرية لحل كل المشكلات الاقتصادية، فلو أننا نعمل جميعاً لكفينا أنفسنا وعيالنا عن وجوه الناس والحاجة إليهم، ولكن الجميع يُريد أن يعيش برفاهية ورغد عيش وهو جالس في بيته لا يخرج للعمل والكد والنشاط، ونحن في عصر المعلومات وأكبر ثروة هي المعلومة واستثمار الآخرين في العمل، وإن لم يكن لديك رأسمال فاجعل رأسمالك مع الآخرين وأنت أحسن إدارتهم.
الإمام الباقر (ع) ومشكلة السكة
يروي التاريخ أن الدولة الأموية وقعت بمشكلة عويصة في عهد عبد الملك بن مروان، ذاك الطاغية الخبيث الذي اختلف مع هرقل الروم، فهدده وتوعَّده هرقل بالسكة التي كانت حصرية في بلاده – كما الدولار اليوم – فاحتار عبد الملك وقال كلمته المشهورة: " أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام"، فجمع ملأه واستشارهم؛ فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به.
فقال له روح بن زنباغ: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر، ولكنك تتعمد تركه.
فقال: ويحك؟ مَنْ؟ فقال: عليك بمحمد بن علي الباقر من أهل بيت النبي (ص).
قال: صدقت، ولكنه ارتج عليَّ الرأي فيه؛ فكتب إلى عامله بالمدينة: أن أشخص إليَّ محمد بن علي بن الحسين مكرماً، ومتِّعه بمئتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأزح علته في جهازه، وجهاز مَنْ يخرج معه من أصحابه.
فلما جاء الإمام الباقر (ع) قال له: (لا يعظم هذا عليك؛ فإنه ليس بشيء من جهتين:
إحداهما: إن الله عز وجل لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله (ص).
والأخرى وجود الحيلة فيه)، فقال عبد الملك: وما هي؟!
قال (ع): (تدعو في هذه الساعة بصناع يضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها سورة التوحيد، وذكر رسول الله (ص) أحدهما: في وجه الدراهم والدنانير.
والآخر: في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدراهم والدنانير ذلك البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير).
ثم بيَّن له الإمام (ع) الأوزان والمثاقيل وكل شيء وبالفعل ضرب السكة ذهباً وفضة وحلَّ تلك المشكلة المعضلة التي أرتجت على الحاكم الأموي، ولو استعان الطاغية بالإمام لحل له كل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الأمة الإسلامية، فالحل بالإسلام وتطبيقه بكل حدوده وتشريعاته، وأن يقوده إنسان عظيم يتقي الله في البلاد والعباد.
فالمشكلة الاقتصادية المعاصرة وخاصة في دولنا وبلداننا ممكنة الحل وبكل يسر وسهولة لو تصدى لها القادة الربانيون والمراجع الكبار الذين هم جزء الحل وليس كغيرهم الذين هم كل المشكلة في السياسة والاقتصاد.
السلام على إمامنا الباقر (ع) يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
اضف تعليق