كانت مهمَّة الإمام الباقر (ع) أن يبقر العلم ويعلمه الناس، فأنشأ تلك المدرسة العلمية الراقية، والتي تطورت بشكل رهيب في عهد ولده العظيم الإمام جعفر الصادق فتحولت إلى جامعة يزيد عدد طلابها اثنا عشر ألف، اجتمع منهم عنده في وقت واحد أربعة آلاف، وأحد أصحابه...
مقدمة وتاريخ
التاريخ البشري يقوم على قامات شامخات، وينهض على أكتاف أولئك العظماء من بني البشر، والعبقري مَنْ يستطيع أن يمارس رياضة الوقوف على أكتاف العمالقة كما فعل أبو الفيزياء الحديثة نيوتن فعندما سألوه: كيف استطعت أن تصل إلى ما وصلت إليه فقال: " لقد رأيتُ أبعد من غيري لأنني أقف على أكتاف العمالقة من العلماء الذين سبقوني"، فمَنْ يملك هذه الجرأة والشجاعة بممارسة هذه الرياضة سيكون عملاقاً ويصنع التاريخ والحضارة الإنسانية..
وفي تاريخنا الإسلامي قامات شامخات قامت الدنيا على أكتافهم وليس الحضارة الإنسانية وذلك لما يحملوه من علم عظيم، وفضل عميم، ولكن السياسة ورجالها تفتك بالأمة، وتنزلها إلى الحضيض في دنياها وإلى اسفل دركات الجحيم في أخراها لما تفعله من جرائم بحق أولئك العظماء من تضييق، وتشهير، وتطريد، وتبعيد، ومن ثم سجن، وسم، وتقتيل..
السياسة الأموية الظالمة
الباحث في التاريخ الإسلامي يجد أن كل المآسي التي حصلت فيها كانت نابعة من السياسة الظالمة المظلمة للعصابة القرشية، التي أوصلت السلطة والحكم إلى أبناء الشجرة الملعونة في القرآن الأموية الجهنمية الزقزمية، حيث حذَّرهم منها رسول الله (ص) وأمرهم بقتلهم إذا نزوا على منبره الشريف كالقردة، بل وأمرهم بالعديد من الروايات الصحيحة بقتل معاوية وبقر كرشه الواسع إذا نزا على كرسي الحكم والسلطة لأنها محرمة عليه وعلى أهل بيته، إلا أن الأمة لم تفعل ما أمرها به رسول الله (ص) ففعل بها بني أمية أبشع وأشنع الجرائم في التاريخ.
ففي حديث أمير المؤمنين الإمام علي (عليهم السلام): ( أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذته نَعسة، وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون(يقفزون) على منبره نزو القردة، يردون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالساً والحُزن يُعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) (الإسراء: 60)؛ يعني بني أمية.
فقال: يا جبرئيل أعلى عهدي يكونون، وفي زمني؟! قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مهاجرك، فتلبث بذلك عشراً، ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك، فتلبث بذلك خمساً، ثم لا بدَّ من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها، ثم ملك الفراعنة.
قال: وأنزل الله تعالى في ذلك: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 3)؛ تملكها بنو أمية ليس فيها ليلة القدر.
قال: فأطلع الله عز وجل نبيه (عليه السلام) أن بني أمية تملك سلطان هذه الأمة، وملكها طول هذه المدة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا، أخبر الله نبيه بما يلقى أهل بيت محمد وأهل مودتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم).
وعن النضر بن مالك قال: قلت للحسين بن علي (عليهما السلام): يا أبا عبد الله حدثني عن قوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ)؟ فقال: (نحن وبنو أمية اختصمنا في الله تعالى: قلنا صدق الله، وقالوا: كذب، فنحن الخصمان يوم القيامة)، هذه هي الحقيقة التي تغض الطرف عنها هذه الأمة وتُنكرها رغم وضوحها وضوح الشمس في رائعة النهار.
الإمام محمد الباقر (ع)
ورث الإمام محمد الباقر (ع) تلك المآثر عن أهل بيته الأطهار (ع)، فكان من القامات العظيمة التي قام عليها الدين والإسلام والعلم والفضيلة ولكن وجوده في تلك الحقبة الظالمة المظلمة من تاريخ بني أمية وظلمهم جعله مهملاً ويكاد يكون مغموراً رغم أنه بحر خضم من العلم لأنه بقر علم الأولين والآخرين، وورث علم الأنبياء والمرسلين (ع).
والإمام الباقر (ع) الذي ولد في مدينة جده (ص) وعاش في ظل جده السبط سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) اربع سنوات وشهد معه كربلاء ومأساتها الخالدة في عاشوراء، وعاش كل تفاصيلها وما بعدها ورآها بأم العين لا سيما الشام ومآسيها من السبي والأسر والظلم والشماتة، وعاش أكثر من أربع وثلاثين سنة في ظل حزن والده الإمام زين العابدين وسيد الساجدين (ع)، وهو ذاك النسيب النجيب الذي اجتمع فيه السبطان الحسنان، فكانت أمه السيدة فاطمة بنت الإمام الحسن، وكانت أشبه الخلق بجدتها فاطمة الزهراء (ع) وكان والده الإمام علي بن الحسين (ع) ولذا يُقال عنه: أنه كان من أجمل بني هاشم الأكارم في عصره وأهيبهم وأفضلهم وأعلمهم.
ولذا كان الإمام الباقر (ع) عندما تسلم منصبه بعد شهادة والده السجاد (ع) لا يتدخل في الشأن السياسي أبداً بل كان كل همَّه الإسلام وإعادته إلى الحياة بعد أن حاول دفنه صبيان النار الأموية، فعن زرارة، قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام، فذكر بني أمية ودولتهم، وقال له بعض أصحابه: إنما نرجو أن تكون صاحبهم، وأن يظهر الله عز وجل هذا الأمر على يدك؛ فقال (عليه السلام): (ما أنا بصاحبهم، ولا يسرني أن أكون صاحبهم، إن أصحابهم أولاد الزنا، إن الله تبارك وتعالى لم يخلق منذ خلق السماوات والأرض سنين ولا أياماً أقصر من سنيهم وأيامهم، إن الله عز وجل يأمر الملك الذي في يده الفلك فيطويه طياً).
فكانت مهمَّة الإمام الباقر (ع) أن يبقر العلم ويعلمه الناس، فأنشأ تلك المدرسة العلمية الراقية، والتي تطورت بشكل رهيب في عهد ولده العظيم الإمام جعفر الصادق فتحولت إلى جامعة يزيد عدد طلابها اثنا عشر ألف، اجتمع منهم عنده في وقت واحد أربعة آلاف، وأحد أصحابه كان يقول: "أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كل يقول: حدَّثني جعفر بن محمد".
فأسس الإمام الباقر (ع) تلك الجامعة وراح يُخرِّج منها العلماء والفقهاء والفضلاء ويرسلهم على كل بقاع الأمة الإسلامية ليبثوا علومه وينشروا أفكاره، ويُحدِّثوا بأحاديثه، فانتعشت الأمة من بعد ثبات، ونهضت من غفلتها، وقامت من كبوتها التي أوقعها فيها بني أمية، ولولا وجوده المبارك لكان الإسلام في خطر عظيم على وجوده، وعقائده، وأفكاره، وثقافته.
الإمام الباقر (ع) وبني أمية
التاريخ يشهد على الحقيقة التي تقدمت، والتي تقول: بأن الإمام الباقر (ع) لم يكن له شغل أو عمل بالقضايا السياسية، بل عمله كله كان دينياً وفقهياً وعقائدياً، ولكن الأوزاغ من حكام بني مروان لم يتركوه أبداً وكم حاولوا أن يسخروا منه لينزلوا من مكانته وشأنه في الأمة إلا انه كان يُريهم أنه ابن حيد الكرار الذي صدق قول القائل فيهم: " كبيرهم لا يُقاس، وصغيرهم جمرة لا تداس"، فهم أوتاد الأرض وأشرافها، وقادتها وساستها وعظماؤها فكيف يُقاس بهم غيرهم؟
يقول الإمام الراحل الشيرازي (رحمه الله): "لاقى الإمام الباقر (عليه السلام) من هشام بن عبد الملك أشد الظلم، وقد أشخص هشامُ الإمامَ إلى الشام لمزيد من الضغط والإيذاء، فلما جيء بالإمام (عليه السلام) إلى دمشق، ظهر من الإمام (عليه السلام) العديد من المعاجز والكرامات، ودار بين الإمام وبين هشام بعض الكلام، مما أثبت مكانة الإمام من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعظيم علمه".
فعن ولده الإمام الصادق (عليه السلام) الذي كان يُرافق والده العظيم في كل أسفاره (ع)، أنّه قال: "لمّا أشخص أبي محمّد بن عليّ إلى دمشق سمع الناس يقولون: هذا ابن أبي تراب؟ قال: فأسند ظهره إلى جدار القبلة، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله، ثمّ قال: اجتنبوا أهل الشِّقاق، وذريّة النِّفاق، وحشو النّار، وحصب جهنّم، عن البدر الزاهر، والبحر الزاخر، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) (النساء: 47)
ثمّ قال بعد كلام: أ بصنوِ رسول الله تستهزؤون؟ أم بيعسوب الدِّين تلمزون؟ وأيّ سبيل بعده تسلكون؟ وأيّ حزن بعده تدفعون؟ هيهات هيهات، برز والله بالسَّبق، وفاز بالخصل، واستوى على الغاية، وأحرز الخطار، (وأحرز على الختار)، فانحسرت عنه الأبصار، وخضعت دونه الرقاب، وفرع الذروة العليا، فكذَّب مَنْ رام من نفسه السعي، وأعياه الطلب، فأنّى لهم التناوش من مكان بعيد، وقال:
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أَباً لِأَبِيكُمُ ** مِنَ الَّلوْمِ أَوْ سُدُّوا (ال)مَكَانَ الَّذِي سَدُّوا
أُولَئِكَ قَوْمٌ إِنْ بَنُوا أَحْسَنُوا البِنَا ** وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفُوا وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
فأنّى يسدّ ثلمة أخي رسول الله إذ شفعوا، وشقيقه إذ نسبوا، ونديده إذ قتلوا (نثلوا)، وذي قرني كنزها إذ فتحوا، ومصلّي القبلتين إذ تحرّفوا، والمشهود له بالإيمان إذ كفروا، والمدّعي لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا، والخليفة على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا، والمستودع الأسرار ساعة الوداع)، الله الله.. روحي لك الفداء يا ابن رسول الله (ص) لقد ذكَّرتهم بخطبة أبيك في مجلس يزيد الشر من قبل لو كانوا يفقهون، أو يفهمون، ولكنهم تربوا على أيدي الأوزاغ الأموية.
وفي الحقيقة إن من هوان الدنيا على الله أن يحكم الوزغ في الأمة الإسلامية، ويُنتقص من ابن رسول الله أشبه الناس به الإمام محمد بن علي الباقر (ع)، لا سيما الأحول الزنديق هشام بن عبد الملك، يروي أبو بكر الحضرميّ قال: لمّا حمل أبو جعفر (عليه السلام) إلى الشام، إلى هشام بن عبد الملك، وصار ببابه قال لأصحابه ومَنْ كان بحضرته من بني أميّة: إذا رأيتموني قد وبّخت محمّد بن عليّ ثمّ رأيتموني قد سكتّ فليُقبل عليه كلّ رجل منكم فليوبّخه، ثمّ أمر أن يؤذن له، فلمّا دخل عليه أبو جعفر (عليه السلام) قال بيده: "السلام عليكم" فعمّهم جميعاً بالسلام ثمّ جلس، فازداد هشام عليه حنقاً بتركه السلام عليه بالخلافة، وجلوسه بغير إذن، فأقبل يوبّخه ويقول فيما يقول له: "يا محمّد بن عليّ لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنّه الإمام سفهاً وقلّة علم"، ووبّخه بما أراد أن يوبّخه، فلمّا سكت أقبل عليه القوم رجل بعد رجل يوبّخه، حتّى انقضى آخرهم، فلمّا سكت القوم نهض (عليه السلام) قائماً ثمّ قال: (أيّها الناس أين تذهبون؟ وأين يُراد بكم؟ بنا هدى الله أوّلكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل فإنّ لنا ملكاً مؤجّلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة، يقول الله عزَّ وجلَّ: (والعاقبة للمتّقين).
فأمر به إلى الحبس، فلمّا صار إلى الحبس تكلّم فلم يبق في الحبس رجل إلّا ترشّفه وحنّ إليه، فجاء صاحب الحبس إلى هشام فقال: يا أمير (المواطنين) إنّي خائف عليك من أهل الشام أن يحولوا بينك وبين مجلسك هذا، ثمّ أخبره بخبره، فأمر به فحمل على البريد هو وأصحابه ليردّوا إلى المدينة، فلما خرجوا من عند هشام كما يرويها الإمام الصادق (ع): (إذا ميدان ببابه وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير، قال أبي: مَنْ هؤلاء؟ فقال الحجاب هؤلاء القسيسون والرهبان وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم، فلفَّ أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه وفعلتُ أنا مثل فعل أبي، فأقبل نحوهم حتى قعد نحوهم وقعدت وراء أبي، ورفع ذلك الخبر إلى هشام، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي، فأقبل وأقبل عداد من المسلمين فأحاطوا بنا، وأقبل عالم النصارى وقد شدَّ حاجبيه بحريرة صفراء حتى توسطنا، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه، فجاؤوا به إلى صدر المجلس فقعد فيه، وأحاط به أصحابه وأبي وأنا بينهم، فأدار نظره ثم قال لأبي: أمِنا أم من هذه الأمة المرحومة ؟ فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة، فقال: من أيِّهم أنتَ من علمائها أم من جهالها؟
فقال له أبي: لستُ من جهالها فاضطرب اضطراباً شديداً. ثم قال له: أسألك؟ فقال له أبي: سل، فقال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون؟ وما الدليل فيما تدَّعونه من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي: دليل ما ندَّعي من شاهد لا يجهل الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث، قال: فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً، ثم قال: هلا زعمتَ أنك لستَ من علمائها؟ فقال له أبي: ولا من جهالها، وأصحاب هشام يسمعون ذلك.
فقال لأبي: أسألك عن مسألة أخرى؟ فقال له أبي: سلْ. فقال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبداً غضة طرية موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يجهل ؟ فقال له أبي: دليل ما ندَّعي أن ترابنا أبدا يكون غضاً طرياً موجوداً غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع، فاضطرب اضطراباً شديداً، ثم قال: هلا زعمتَ أنك لستَ من علمائها؟ فقال له أبي: ولا من جهالها. فقال له: أسألك عن مسألة؟ فقال: سل، فقال: أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار. فقال له أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يهدأ فيها المبتلى، ويرقد فيها الساهر، ويفيق المغمى عليه، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين لها دليلاً واضحاً وحجة بالغة على الجاحدين المتكبرين التاركين لها.
قال: فصاح النصراني صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة والله لأسألك عن مسألة لا تهدي إلى الجواب عنها أبداً. قال له أبي: سل فإنك حانث في يمينك. فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما خمسون سنة وعمر الآخر مائة وخمسون سنة في دار الدنيا. فقال له أبي: ذلك عُزيز وعُزيرة ولدا في يوم واحد، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عام، مر عزيز على حماره راكباً على قرية بأنطاكية وهي خاوية على عروشها (قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها)، وقد كان اصطفاه وهداه فلما قال ذلك القول غضب الله عليه فأماته الله مائة عام سخطاً عليه بما قال، ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه وعاد إلى داره، وعزيرة أخوه لا يعرفه فاستضافه فأضافه، وبعث إليه ولد عزيرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين سنة، فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم ويقولون: ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السِّنون والشهور، ويقول له عزيرة وهو شيخ كبير ابن مائة وخمسة وعشرين سنة: ما رأيتُ شاباً في سن خمسة وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزيز أيام شبابي منك! فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟
فقال: يا عزيرة أنا عزير سخط الله عليَّ بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني فأماتني مائة سنة ثم بعثني لتزدادوا بذلك يقيناً إن الله على كل شيء قدير، وها هو هذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجتُ به من عندكم أعاده الله تعالى كما كان، فعندها أيقنوا فأعاشه الله بينهم خمسة وعشرين سنة، ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد.
فنهض عالم النصارى عند ذلك قائماً وقاموا -النصارى- على أرجلهم فقال لهم عالمهم: جئتموني بأعلم مني وأقعدتموه معكم حتى هتكني وفضحني وأعلم المسلمين بأن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا، لا والله لا كلمتكم من رأسي كلمة واحدة، ولا قعدت لكم إن عشت سنة، فتفرقوا وأبى قاعد مكانه وأنا معه، ورفع ذلك الخبر إلى هشام.
فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه، فوافانا رسول هشام بالجائزة وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نجلس، لان الناس ماجوا وخاضوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى، فركبنا دوابنا منصرفين وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مَديَن على طريقنا إلى المدينة "أن ابني أبي تراب السَّاحرين: محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين - بل هو الكذاب لعنه الله - فيما يظهران من الإسلام وردا عليَّ ولما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الإسلام إلى الكفر دين النصارى وتقربا إليهم بالنصرانية، فكرهتُ أن أُنكِّل بهما لقرابتهما، فإذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس: برئت الذمة ممَنْ يُشاريهما أو يُبايعهما أو يُصافحهما أو يُسلم عليهما فإنهما قد ارتدا عن الإسلام، ورأى أمير (المواطنين) أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة.
قال: فورد البريد إلى مدينة مدين، فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلاً ويشروا لدوابنا علفاً، ولنا طعاماً، فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا وذكروا علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) فقالوا: لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع يا كفار، يا مشركين، يا مرتدين، يا كذابين، يا شر الخلائق أجمعين، فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي وليَّن لهم القول وقال لهم: اتقوا الله ولا تغلظوا فلسنا كما بلغكم ولا نحن كما تقولون فأسمعونا، فقال لهم: فهبنا كما تقولون افتحوا لنا الباب وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس، فقالوا: أنتم شر من اليهود، والنصارى، والمجوس، لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم ما تؤدون، فقال لهم أبي: فافتحوا لنا الباب وأنزلونا وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم، فقالوا: لا نفتح، ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعاً نياعاً أو تموت دوابكم تحتكم، فوعظهم أبي فازدادوا عتوا ونشوزا قال: فثنى أبي رجله عن سرجه ثم قال لي: مكانك يا جعفر لا تبرح، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وجسده، ثم وضع إصبعيه في أذنيه ثم نادى بأعلا صوته: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (هود: 85)
نحن والله بقية الله في أرضه، فأمر الله ريحاً سوداء مظلمة فهبَّت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والصبيان والنساء، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح، وأبي مشرف عليهم، وصعد فيمَنْ صعد شيخ من أهل مدين كبير السن، فنظر إلى أبي على الجبل، فنادى بأعلا صوته: اتقوا الله يا أهل مدين فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب (عليه السلام) حين دعا على قومه، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه جاءكم من الله العذاب فإني أخاف عليكم وقد أعذر من أنذر، ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا، وكتب بجميع ذلك إلى هشام فارتحلنا في اليوم الثاني، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة الله عليه وصلواته، وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سمِّ أبي في طعام أو شراب، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي من ذلك شيء). (البحار: ج46 ص313)
بذور الفكر الداعشي من بني أمية
هكذا هو الفكر الداعشي، ومن هنا كانت صناعة الفكر التكفيري، فمن أقدم العصور كان الفاسق الضال المنحرف يتهم المؤمن التقي، والنمرود يتهم إبراهيم الخليل، وفرعون يتهم موسى الكليم، بأنه يريد أن يبدِّل دينكم، واليوم ابن الأمس فهؤلاء الحكام الطغاة وأولئك القطعان الصهيووهابية التكفيرية المجرمة تعيش بنفس الأفكار، وعلى ذاك المنهج الأموي ضد البيت النبوي.
فالباحث في التاريخ الإسلامي يجد أن الإمام محمد الباقر (ع) شبيه رسول الله (ص) هو النور النبوي في تلك الفترة الحرجة جداً في تاريخ الأمة الإسلامية، ولولا وجود ونور وبركة وعلم الإمام الباقر (ع) لاندرس الدِّين الإسلامي وتحوَّل إلى ما يشبه اليهود والنصارى تماماً مجرد طقوس كنسية لا مكان لها في حياة الناس ولا شأن لها بالسياسة وبناء الحضارة الإسلامية.
اضف تعليق