الحديث عن السلم واللاعنف في حكومة الرسول يتطلب من الجهد والسعة ما يفوق سعة هذه الصفحات وهذا الجهد من قبل كاتب هذه السطور، وذلك لمكان أهمية هذين المبدأين في حركة النبي والحيز الكبير الذي يشغلانه في هذه الحركة الإنسانية. والخوض في موضوع كهذا يختلف عن...
بقلم: حيدر البصري
إن الحديث عن السلم واللاعنف في حكومة الرسول الأكرم محمد (ص) يتطلب من الجهد والسعة ما يفوق سعة هذه الصفحات وهذا الجهد من قبل كاتب هذه السطور، وذلك لمكان أهمية هذين المبدأين في حركة النبي (ص)، والحيز الكبير الذي يشغلانه في هذه الحركة الإنسانية.
ثم إن الحديث والخوض في موضوع كهذا يختلف عن الخوض في حركات وحكومات أخرى غير الحكومة الإسلامية، فالقوانين والدساتير بالنسبة إلى غير دولة الرسول(ص) تجدها ملأى بما يضج بهذين المبدأين، وما يمت إليهما بصلة، ويستطيع الباحث في هذه المجالات أن يقطع بعدم خلو قانون أي دولة في العالم من هذه المبادئ ولكن مع ذلك نجد العالم يضج بالمظلوميات، والانتهاكات لحقوق الإنسان، فأين يكمن السر في ذلك يا ترى؟.
إن السر يكمن في وجود هذين المبدأين (السلم واللاعنف) على الورق، وخلو الواقع منهما، فالقضية بالنسبة للقوانين قضية صورية لا حقيقية، باستثناء تلك الدول التي تنتهج النهج الديمقراطي، فإن النجاح حليفها في خلق الجو السلمي واللاعنفي، وإن كانت أخفقت في بعض الأصعدة ممّا لا مجال لذكره.
أما بالنسبة إلى حكومة الرسول (ص) فإنّ الأمر مختلف تماماً إذ إنك تجد السلم واللاعنف نظرياً وعملياً، وهناك أمر آخر يتوجب علينا خوضه ها هنا، وهو الدعوة إلى السلم واللاعنف في حركة الرسول على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهذا ما تميزت به الحكومة الإسلامية عن غيرها من الحكومات، وخاصة الديمقراطية التي تعاني من مسألة الازدواجية في هذا المقام. ففي الوقت الذي تحرص الحكومات الديمقراطية على خلق الجو السلمي واللاعنفي على الصعيد الداخلي، تجدها لا تعبأ بهذين الأمرين على الصعيد الخارجي، فأنت ترى حكومات هذه الدول تحرص على زعزعة الأمن في المناطق الأخرى كي توفر الأمن لشعوبها، وتخلق الحروب والصراعات في سبيل توفير السلم الداخلي، في حين خلت سياسة الرسول الأكرم(ص) من هذه الازدواجية، وهو ما يدفعنا إلى الخوض في هذا المجال.
بناءاً على ما تقدم ذكره من أمور ارتأيت أن تكون النقاط التي أتناولها في هذه الدراسة حسب الترتيب التالي:
1- السلم واللاعنف في الجانب التشريعي
2- السلم واللاعنف في الجانب التطبيقي.
3- السلم واللاعنف على الصعيد الداخلي لدولة الرسول (ص).
4- السلم واللاعنف على الصعيد الخارجي لدولة الرسول (ص).
مع ملاحظة أن المقام لا يمكن أن يتسع لإحصاء تفاصيل ما تقدم ذكره من النقاط وعليه سنتناول ذلك بصورة نماذج.
السلم واللاعنف في الجانب التشريعي
ليس هناك وسيلة أضمن لبقاء الأمم وديمومتها من انتهاجها منهج السلم، وإلا فالتاريخ ينقل لنا عن تلك الأمم التي وضعت أول مسمار في نعشها بيدها، حين اتخذت الحرب والعنف وسيلة للحفاظ على السلطة فلم يبق لتلك الأمم غير الذكر السيء.
(إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء، وحتى إذا عثر بهم الزمان وسقطوا فإن السقوط يكون وقتياً، فالقائمون بالحركة إذا أحاطوا أنفسهم بجو من السلام كفوا أعداءهم أولاً فلا يتمكنون من القضاء عليهم، وثانياً إذا تمكن الأعداء منهم فسيكون تمكنهم وقتياً وينتهي الأمر بتقدم المسالمين)(1).
من هذا المنطلق تجد حركات الأنبياء عموماً، والرسول الكريم خصوصاً تتبنى السلم منهجاً تقوم على أساسه حركاتهم.
لقد شغل السلم حيزاً كبيراً من التشريع الإسلامي متمثلاً بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وهذا الحيز لم يعبر عنه في كل الأحوال بلفظ السلم، إنما يأتي ذلك بتعبير السلم تارة، وبالإشارة إليه تارة أخرى، وفيما يلي نورد البعض من الآيات القرآنية التي تدل صراحة أو إشارة على مفهوم السلم:
1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(2).
2) وللأهمية الفائقة التي توليها الشريعة الإسلامية للسلم والسلام، تجد مصدر الشريعة الإسلامية، الحق تبارك وتعالى قد جعل السلام اسماً من أسمائه، يقول تعالى في ذلك: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ... ) (3).
3) اكثر من ذلك تجد الشريعة الإسلامية جعلت التحية التي هي عنوان التعارف والمحبة بين الناس باسم السلام سواء لأهل الجنة، أم للأحياء من الناس كما في قوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ)(4).
4) (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(5).
5) (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(6).
هذا بالنسبة للسلام في القرآن الكريم، أما اللاعنف فإن الأغلبية الساحقة من آيات الذكر الحكيم هي ممّا يتعلق بمبدأ اللاعنف(7)، وسوف أشير هنا إلى بعض الموارد ممّا ورد ذكره في القرآن الكريم حول موضوع اللاعنف.
1) (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (8).
2) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (9).
3) (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (10).
ما تقدم ذكره كان عن السلم واللاعنف في القرآن الكريم، أما ما يخص السلم واللاعنف في السنة النبوية الشريفة فإن بطون الكتب التاريخية، وموسوعات الأخبار ملأى بما يدل على كل من مبدأي السلم واللاعنف.
إن السلم واللاعنف لم يكونا في فكر رسول الله (ص) مبدأين مرحليين يوماً ما وإنما كانا من الأمور الاستراتيجية التي كان (ص) يدعو إليها في كل فرصة تحين لذلك.
لقد كان (السلام شعاراً لهم، يعني النبي (ص) والأئمة الطاهرين، في كل شؤونهم وحتى في حروبهم، وهذا النجاح المنقطع النظير لنبي الإسلام والأئمة إنما هو لأسباب من جملتها السلام الذي كانوا يتحلون به في كل شؤونهم) (11).
وفيما يلي نورد بعض الأمثلة من التشريعات الإسلامية التي تخص مبدأي السلام واللاعنف مجتمعين، ولم نرتأي الفصل بينهما في ذكر الشواهد، وذلك لمكان الصلة الوثيقة والترابط العميق، والتداخل الذي يجمع هذين المبدأين.
فكما هو الأسلوب الذي درج عليه القرآن الكريم في الإحاطة بكل ما يخص السلم والسلام واللاعنف تصريحاً تارة، وإشارة تارة أخرى، نجد السنة النبوية الشريفة قد نهج صاحبها (ص) النهج نفسه في التأسيس لكل ما يمت بصلة إلى هذين المبدأين ولكن ليس بالضرورة تصريحاً، وإنما تصريحاً وتلويحاً.
فمن أهم الأمور التي أسست لها السنة النبوية الشريفة، أنها -كما هو النهج القرآني- قرنت السلام بأهم الأمور في حياة الإنسان إلا وهو موضوع التحية.
فالتحية كما هو معروف هي عنوان للتقارب البشري، إذ إن التعارف، والتواصل إنما يبدءان بالتحية ثم يتطوران ليبلغا بعد ذلك من الصلات أوثقها.
فالرسول الأكرم(ص) - كما ينقل عنه في كتب التاريخ والأخبار - كان قد قرن التحية بنوع خاص من المفاهيم، اختلف فيه عن غيره من الأمم والمذاهب، وهذا المبدأ الذي قرن الرسول الأكرم(ص) التحية الإسلامية به هو مبدأ السلام.
فقد ورد عنه (ص) قوله: (من علامات المؤمن، إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام) (12).
كما ورد عن الصادق (ع) أيضاً قوله: (أفشوا السلام تسلموا.. ) (13).
وقوله (ص) : (إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم) (14).
وأجاب (ص) حين سئل عن خير أخلاق أهل الدنيا والآخرة قائلاً: (إفشاء السلام في العالم) (15).
ومن الأسس الهامة التي قام عليها التشريع الإسلامي أنه كان يعتبر مقياس العلاقات الاجتماعية الإنسانية قائماً على أساس الرحمة والمحبة، وعلى أساس العدالة، بل جعل الرحمة والمحبة تطغى على التعامل الإسلامي و(تخالط بشاشة قلوب المؤمنين في كل وقت، وتعلو فوق القوة والسلاح في كل حال) (16) حتى أن رسول الله (ص) كان يقولها مطلقة دون تقييد بمسلم وغيره: (أنا نبي المرحمة).
وهذا هو عين ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (17).
أما العدالة المطلقة فهي (أساس كل علاقة إنسانية في الإسلام، لأن الظلم والطغيان أساس خراب المدنيات وزوال السلطان، وانهيار الظلم) (18).
ولذلك انطلق الرسول (ص) من الحديث القدسي (يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظلموا) ليقول في هذا المقام: (إن الله كتب على نفسه العدل فلا تظالموا).
هذه نماذج من التشريع الإسلامي في السنة الشريفة، تخص مبدأ السلام أما ما يخص مبدأ اللاعنف فإنّ في ذلك الكثير ممّا سنورده الآن، ولكن سنورد مثالاً واحداً لبعض العناوين التي ترتبط بمبدأ اللاعنف، وذلك لضيق المقام.
1) ففيما يختص بالترابط الاجتماعي، والصلات الاجتماعية بين الناس جميعا، لا المسلمين فحسب، ورد عن رسول الله (ص) قوله: (أقربكم غداً مني في الموقف أحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس) (19).
2) هذا بالنسبة للعلاقات الإنسانية بوجه عام، أما فيما يخص العلاقة بين المؤمنين فقد جاء عنه (ص) قوله: (لا والله، لا يكون المؤمن مؤمناً أبداً حتى يكون لأخيه مثل الجسد إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه) (20).
3) وقد ذمّ رسول الله البغي، وجعله سبب هلاك الأمم والناس، حين قال: (إن أعجل الشر عقوبة البغي) (21).
4) ولم يغادر الرسول الأكرم (ص) مسألة هامة كالرحمة والتراحم، وذم الظالم للناس حيث قال(ص): (ارحم نفسك، وارحم خلق الله يرحمك الله) (22).
5) لقد كان رسول الله (ص) حتى أواخر أيامه يوصي، ويؤسس لهذه المبادئ الإنسانية، كي لا يقال إن رسول الله (ص) كان يدعو إلى هذه المبادئ حين كان الإسلام ضعيفاً، وبخلافه حين قوت شوكته، واشتد عوده، وبهذا سد الرسول (ص) الطريق على أولئك الذين يتحينون الفرص للتهجم على الإسلام.
فقد ورد عنه في خطبة الوداع قوله:
(أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، و(ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟) (23).
6) وكان (ص) يوصي بالعدل، ويؤكد عليه في كل الأحوال، كما يؤكد كذلك على العفو عند المقدرة، حيث يقول (ص): (أوصاني ربّي بتسع، أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب... وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني) (24).
السلم واللاعنف في الجانب التطبيقي.
إن نظرة بسيطة في السيرة العملية لرسول الله (ص)، تكشف للباحث بوضوح مدى الاتحاد بين الجانبين العملي والنظري في دولته(ص)، وهذه هي الميزة التي أخذت بمجامع قلوب كل من اطلع على الدين الإسلامي بموضوعية بعيداً عن الخلفيات التي يحملها المطلع، كما أنها الميزة التي ميزت الدولة الإسلامية بقيادة الرسول الأكرم(ص) عن غيرها من الدول التي قلما تتحد فيها النظريات مع الواقع.
وفيما يلي سنورد بعض القصص من سيرة الرسول الأكرم (ص)، والتي يتجسد فيها السلم واللاعنف.
إن أول ما يتبادر إلى الذهن في سيرته(ص) فيما يختص بموضوع السلم واللاعنف قضية دخول مكة.
فالكل يعرف مدى الأذى الذي تسبب فيه أهل مكة لرسول الله (ص)، والذي تدرجوا فيه من البصق في وجهه الشريف، وإفراغ أحشاء الشاة على رأسه، إلى اتهامه بالسحر والجنون، والمس، ثم دفعه إلى مغادرة وطنه مكرهاً، ومصادرة ما كان يملك، حتى أنه(ص) قال: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)(25).
فبمقتضى ما تحمل النفس البشرية من الغرائز والشرور، يتوقع أن يضمر الرسول(ص) ذلك في نفسه حتى تحين الفرصة المناسبة فينتقم لها، ولكن هل تجد النبي المصطفى(ص) فعل ذلك حين دخل مكة منتصراً فاتحاً، بعد أن خرج منها مكرهاً مستضعفاً؟.
إن التاريخ الذي نقل لنا سيرته الشريفة(ص) يروي لنا عكس ذلك تماماً، فحين رأى سادة قريش عند فتح مكة، توجه إليهم قائلاً:
(ما تقولون إني فاعل بكم؟
قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم.
فقال(ص): أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء) (26).
وأكثر من ذلك أنه (ص) عفا عن جماعة من الكفار كان قد أهدر دماءهم من قبل، وذلك لما كانوا يمثلونه من عقبة أمام الرسالة الإسلامية، (حيث أنهم كانوا جرثومة الفساد، وعين الانحراف، لكن بعد ذلك عفا عنهم كعكرمة بن أبي جهل...، وصفوان بن أمية بن خلف، وكان شديداً على النبي (ص)، وكان يمون جيوش المشركين بمختلف التموين، ممّا يصح أن يقال له في مثل هذه الأيام بأنه كان وزير دفاع الكفار) (27).
لقد كان رسول الله (لا يترك أحداً حتى يرضيه، وإذا غضب عليه إنسان ثم رضي عنه كان يطلب منه أن يعلن لأصحابه أنه رضي عنه) (28).
وورد عنه (ص) أن أعرابياً جاءه يوماً يطلب شيئاً، فأعطاه الرسول(ص)ثم قال له: أحسنت إليك؟
فأجابه الأعرابي: لا، ولا أجملت.
فأثار جواب الأعرابي المسلمين الذين كانوا حاضري المجلس فهمّوا بضرب الأعرابي، إلا أن رسول الله هدأهم، وأشار إليهم أن يكفوا عن ذلك، ثم قام(ص) ودخل منزله، وأرسل إليه وزاده شيئاً ثم قال (ص):
أحسنت إليك؟
قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
فقال له النبي (ص): إنك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك؟
قال الأعرابي: نعم.
فلما كان الغداة أو العشي جاء الرسول (ص) فقال: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، انه رضي، أكذلك؟
قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
أليست حروب الرسول(ص) ضد السلام؟!!
هناك كلام كثيراً ما يروج له أعداء الإسلام وأضرابهم، ويستندون إليه فيما يدعون ضد الإسلام.
فهؤلاء يقولون: إذا كان الدين الإسلامي هو دين السلم واللاعنف، فكيف يمكن أن تغضوا الطرف عن حروب، وغزوات للرسول فاقت الثمانين، أليست هذه الحروب تفند مدعياتكم في كون الدين الإسلامي هو دين السلم واللاعنف؟
ومن هذا المنطلق بدأوا يتفرعون في كيل التهم تلو التهم التي يحاولون من خلالها تشويه الصورة الناصعة للدين الإسلامي، كي يصدوا الناس عن قبوله.
والذي يخوض في موضوع السلم، واللاعنف في الإسلام، لابد له من المرور بهذه الإشكاليات التي يروج لها أعداء الإسلام، فلا سبيل إلى تخطيها.
إن الجواب عن هذه الإشكالية يمكن درجه في صورة نقاط:
1- لا يمكن لنا أن نغض الطرف عن الحروب التي خاضها رسول الله (ص)، فهي واقع نقره ونعترف به أمام العالم أجمع.
ولكن قبل الإجابة على هذا الأمر نقول لهؤلاء الذين يثيرون اشكالاتهم على الدولة الإسلامية، هل يمكن أن تقف دولهم التي ينتمون إليها مكتوفة الأيدي إزاء ما يتهددها من أخطار خارجية بحجة السلام واللاعنف؟
فهل يعقل أن يقال لمن يدافع عن نفسه إزاء الأخطار الخارجية بأنه عنيف، ومعتد في حين يغض الطرف عن المعتدي؟
بعد هذا نقول: إن الجهاد، والقتال من الأمور التي يقرها الدين الإسلامي ولكنه لا يدعو إليهما، إذ إنه دين السلم واللاعنف.
(الجهاد مشروع في الإسلام اضطراراً. قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) (29)... ) (30).
لم تكن (الحرب والمقاطعة وأساليب العنف إلا وسائل اضطرارية استثنائية، على خلاف الأصول الأولية الإسلامية، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه وإنما الأصل السلام، ولذا تقدر الحرب بقدرها في الإسلام، ومع ذلك يقول تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (31) ثم في مكان آخر يقول: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (32)... ) (33).
2- إن من مقتضيات الدقة والأمانة العلمية، أن لا تطرح الادعاءات على عواهنها وإنما يجب طرح الادعاءات والآراء الأخرى بجميع تفاصيلها، وذلك كي لا ينعت الآخر بما ليس فيه، ولا تشوش أفكار أولئك الذين ليس بمقدورهم استقصاء الحقائق وإنما اعتمدوا تلقي الأفكار، جاعلين نقل الحقائق من الأمانات العلمية التي يفترض في الباحث أن يراعيها.
والادعاء على الدولة الإسلامية، بقيادة رسول الله(ص) كونها دولة معتدية والاستناد في هذا الادعاء على الحروب التي خاضها النبي(ص) يجب أن يطرح كل ما يحيط هذه الحروب من خفايا تعمد هؤلاء المدعون حجبها عن الناس.
فالمتابع للتاريخ، والقارئ الجيد له يجد أن هذه الحروب لا تخلو أسبابها من ثلاثة:
أ- الدفاع عن النفس؛ فالكل يعرف أن الكثير من الحروب التي خاضها الرسول الأكرم (ص) إنما هي حروب دفاعية، ولا يمكن للعاقل أن يصف المدافع عن نفسه بأنه معتدٍ عنيف، إذ الدفاع عن النفس من طبيعة النفس البشرية وكل كائن حي، وهذا حق طبيعي تقرّه كل السنن والقوانين بغض النظر عن كونها إلهية، أم غيرها.
ب- إجهاض المؤامرات التي تحاك ضد الدولة الإسلامية: هناك بعض الغزوات التي خاضها المسلمون يعود السبب فيها إلى وجود تآمر ضد الدولة الإسلامية للإطاحة بها، فكان الرسول(ص) يضطر لمباغتة العدو قبل أن يتم خيوط مؤامرته، فيقتل الفتنة في مهدها، وهذا لا يخرج عن كونه دفاعاً عن النفس كذلك.
ج- وقوف بعض الأعداء حائلاً بين الناس وبين سماعهم الدعوة الإسلامية: إن الرسول (ص) إنما بعث مبشراً ومبلغاً للناس كافة، فمقتضى مبشريته وعالمية رسالته أن يوصل النداء الإلهي إلى كافة الناس، فمن شاء آمن ومن شاء كفر، ولكن بعض الأعداء كانوا يمنعون الناس عن سماع صوت الحق فاضطر الرسول لخوض الحروب ضدهم، ولو أنهم خلوا بين الناس وسماع الرسالة الإلهية لما اضطر الرسول لقتالهم. ثم إن الإسلام لم يكن قد انتشر بالسيف كما كان يدعي أعداؤه، إذ كيف والقرآن يصرح (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (34). و(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (35). فهل يتناسب هذا مع السيف والإكراه؟
إن هذه الحقيقة هي التي دفعت بعض الموضوعيين من غير المسلمين إلى التصريح والإشادة بها، ومن جملة هؤلاء غوستاف لوبون الذي قال: (ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل، ولا أرحم من العرب) (36).
إذن فمن الإنصاف أن يتخلى بعض الكتاب والباحثين عن الرواسب، والخلفيات التي يحملونها حين يريدون الكتابة عن الدولة الإسلامية، وتقييمها، وهذا هو أهم مقتضيات الأمانة العلمية.
السلم واللاعنف على الصعيد الداخلي لدولة الرسول (ص)
ما لم يكن هناك سلم داخلي يحمله الإنسان في نفسه، لا يمكن أن يكون هناك سلم في المجتمع، لذلك تجد رسول الله (ص) بدأ بتلقين المسلمين مبادئ السلم واللاعنف، لما للتلقين من أثر كبير (في داخل النفس، فالإنسان بطبيعته يغضب ويثور، ويذكر معايب الآخرين، ويدخل مع الناس في صراع ونزاع وحقد، وبغضاء وعداء ومقاطعة وما أشبه. فاللازم اجتثاث جذور هذه الأمور من قلب الإنسان، ومن ثم من جوارحه وذلك بالتلقين الدائم بأنه إنسان مسالم، حازم، عاقل، مفكر مدبر، فإذا لقن نفسه بهذا التلقين في ليله ونهاره وشهره، وسنته فإنّه يتطبع بطابع السلم) (37) لقد كان لهذا التلقين من قبل الرسول(ص) للمسلمين بالتحلي بصفتي السلام واللاعنف حتى تكونا ملكتين راسختين في نفوس المسلمين آثاره الإيجابية التي انعكست على المجتمع الإسلامي الذي صار الطابع العام له هو طابع السلم واللاعنف.
لقد كان العرب قبل الإسلام مجرد قبائل متناحرة لا يعرف التسامح مع من يختلفون معه إلى قلوبهم سبيلاً، وبين ليلة وضحاها صاروا يتخذون اللاعنف منطلقاً ينطلقون منه في علاقاتهم مع الغير وأثر السلم أثره في النفوس التي لم تدخل هذا المبدأ الإنساني في حساباتها يوماً. لقد رسخ الإسلام في قلوب أبنائه الأخوة، فأول شيء قام به رسول الله (ص) عند هجرته إلى المدينة، وإقامة أركان دولته على أرضها، هو المؤاخاة بين المسلمين الذين سبق أن زرع حب السلم واللاعنف في نفوسهم.
لقد صار المهاجر مع رسول الله (ص) أخاً للأنصاري، وصار الأوسي الذي قضى حياته بين كر وفر مع الخزرجي أخاً له في الإيمان وفي حب الله. إن ما زرعه رسول الله(ص) من هذه المبادئ في نفوس المسلمين انعكس في إقدام الأنصاري على اقتسام بيته ورغيفه مع المهاجر،وفي إقدام من له أكثر من زوجة منهم على تطليق بعض نسائه، وتزويجهن للبعض من المهاجرين الذين لا زوجات لهم.
أية مبادئ عظيمة هذه التي زرعها رسول الله(ص) في نفوس المسلمين الذين جففت قلوبهم حرارة رمال صحراء الجزيرة العربية، حتى صارت من الليونة بحيث انها لا تحتمل المبيت على صرخات الجائعين، والمساكين، والمظلومين؟
حقيقة الأخوة الإيمانية التي صنعها رسول الله (ص) في زمن قياسي أسس لها القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (38).
إن رسول الله لم يكن قد أسس للسلم واللاعنف على مستوى التنظير وحسب، وإنما كان من خلال سيرته يعلم المسلمين أن يعتادوا ترتيب الأثر على السلم والسلام واللاعنف وتنظيم شأن هذه المبادئ.
فيروى أن رسول الله (ص) كان جالساً يوماً فجاءه رجل من خلفه فألقى له التحية وحين التفت رسول الله (ص) فوجئ بأنه وحشي قاتل عمه حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) حينها قال له النبي (ص): أوحشي؟
قال: نعم.
قال: أخبرني كيف قتلت عمي؟
فبدأ وحشي يروي له ذلك، فعفا عنه رسول الله(ص).
وهكذا فعل (ص) مع من روّع ابنته زينب، وهو هبّار بن الأسود، الذي كان السبب في إسقاط ما في بطن زينب (رضي الله عنها)، ثم موتها.
لقد أباح رسول الله (ص) دم هبّار بن الأسود، وحين عرف من أخلاق رسول الله ما عرف جاء إليه معتذراً وقال:
يا رسول الله كنا على شركٍ فهدانا الله بك، وانقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عني، فإني مقر بسوء فعلي، معترف بذنبي.
فقال رسول الله (ص): قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام والإسلام يجبُّ ما قبله.
السلم واللاعنف على الصعيد الخارجي لدولة الرسول(ص)
قلنا إنه ما لم يكن هناك سلم داخلي في مجتمع ما، لا يمكن أن يكون ذلك المجتمع قادراً على تحقيق السلم واللاعنف مع الآخرين، ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن يفتقد السلم واللاعنف مع أخيه، كيف يمكنه أن يمنحه للآخرين؟
لقد كان للسلم واللاعنف الداخليين في دولة الرسول (ص) انعكاساتهما الإيجابية على العلاقات التي كانت تربط المسلمين مع غيرهم.
لقد كان المجتمع الإسلامي بقيادة الرسول (ص)، يتحرك في علاقاته مع غير المسلمين من منطلق: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (39).
ومن منطلق قوله (ص): (كلكم لآدم وآدم من تراب).
وقوله (ص): (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى).
روي أنه جيء لرسول الله (ص) بالمرأة اليهودية التي كانت قد دست له السم في فخذ شاة مشوي قدمته له(ص)، ولكنه سلم بإخبار الوحي له بعدم الأكل فقال لها النبي (ص): ما حملك على ما صنعتِ؟
فقالت: قلت إن كان نبياً لم يضره، وإن كان ملكاً أرحتُ الناس منه.
فعفا الرسول (ص) عنها.
وهكذا لم يثبت عن رسول الله (ص) انه اعتدى يوماً على حقوق جيرانه، ومعاهديه من غير المسلمين، بل كان على العكس من ذلك تماماً، يراعي شروط السلم ويدعو إليه وإن كان في موقع القوة.
لقد كان من آثار دعوة الرسول (ص) إلى السلم والسعي نحوه، انه لم يكن يمنع إقامة السلام حتى لو تعارض ذلك مع بعض ما يؤمن به ويعتقد.
ففي صلح الحديبية لم يصرّ الرسول(ص) على كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) في كتاب الصلح حين رفض الكفار ذلك، وأصر المسلمون عليه، وذلك لإيمانه (ص) أن ثمار السلام أهم من كتابة عبارة وعدم كتابتها على الرغم ممّا تتمتع به هذه العبارة من الأهمية.
ولأن الرسول (ص) نشر السلم واعتمد اللاعنف في سياساته الداخلية والخارجية عمّ الخير والأمان - وهما النعمتان اللتان تسعى إليهما البشرية - دولة الإسلام في زمنه (ص) حتى صارت محط أنظار الناس قديماً وحديثاً.
اضف تعليق