تأملات عيٍّ بتعابير بليغ مبين واطلالة عاجز على بيان مكين ورؤية قاصر إلى همة عملاق بصير تأملات إن لم نجد فيها حكمة نافعة، فإنا سنجد فيها طرفة نادرة،، ذلك لأنها قطعاً مفارقة بين حقيقة وواقع. (إنما مثلي بينكم مثل السراج في الظلمة، يستضيء به من ولجها...
عبد الله العارف
إنها تأملات عيٍّ بتعابير بليغ مبين.. واطلالة عاجز على بيان مكين.. ورؤية قاصر إلى همة عملاق بصير.. تأملات إن لم نجد فيها حكمة نافعة، فإنا سنجد فيها طرفة نادرة،، ذلك لأنها قطعاً مفارقة بين حقيقة وواقع.
علي(ع) سراج الدنيا
(إنما مثلي بينكم مثل السراج في الظلمة، يستضيء به من ولجها فاسمعوا أيها الناس وعوا واحضروا آذان قلوبكم تفهموا)(1).
إن الإنسان لا يستطيع مهما اوتي من علم وحكمة إذا لم يكن نبيّاً أن يقول: (إن مثلي بينكم مثل السراج...)، ذلك لأن من مقتضيات الحكمة والعلم احتمال الفوت والسهو والخطأ والغفلة في أحكام النفس.. ثم انه لا يشك أحد في أن معنى هذا القول يدل بوضوح انه لا غنى للناس في حياتهم عن السراج، إلا من آثر أن يحيا متخبطا في الظلام طوال حياته.
فتأمل رؤى ذي الهمة وبيان الحكيم المقتدر وتعابير المكلف المتمكن.. فعليّ (ع) إنما هو معنى الحسن في خلق الإنسان، وهو بنصوص كثيرة من القرآن والسنة، انه كنفس الرسول الأعظم(ص)، كما في آية المباهلة(2)، وحديث الراية في خيبر(3)، وفي حديث واقعة الخندق(4) وفي حديث خاصف النعل(5)... ومثله كثير جداً.
ولا ريب عند كل مؤمن له نصيب من الإيمان بمعناه الذي أشّره الرسول الأعظم(ص) (يا علي لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق)(6).
ذلك لأن الإمام علي(ع) هو بذاته بيان متجسد للحسن الرباني في خلق الناس يبرز في:
كمال وتمام الطاعة لله
من خبر ضرار بن ضمرة الضبابي عند دخوله على معاوية ومسألته له عن أمير المؤمنين قال:
(فاشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد ارخى الليل سدوله، وهو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت أم اليّ تشوقت، لا حان حينك، هيهات غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير واملك حقير، آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد)(7).
ومن عظيم قوله(ع) في الزهد: (والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم)(8) ومثل ذلك كثير في اقواله(ع).
علي(ع) رحمة للعالمين
وفي كونه(ع) تجسيداً لرحمة الله في خلقه، فقد كان(ع) بما حباه الله جل وعلا من فضل هو صنيعة ربه الرحمن الرحيم وخالصته من عباده، ولم يكن له صنو في تلك الحبوة، إلا رسول الله(ص).. فقد طهره من دنس الجاهلية وجعله وليد كعبته وربيب حجر خير خلقه، كسر اصنام الشرك وضرب خراطيم اسيادهم حتى اسلموا، وقد قرن الرسول الأعظم(ص) مشيئة الله تعالى بعبادة عباده بنصر علي يوم الخندق: (إن شئت أن تعبد فانصر عليا..).. وأن الرسول الأعظم(ص) ليصف علياً(ع) كنفسه في مواقع كثيرة، وأن الله سبحانه يقول عنه (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين).
وهذا أمير المؤمنين يقول عن نفسه:
(وإنما انا قطب الرحى تدور عليّ وأنا بمكاني فإذا فارقته استحار مدارها واضطرب ثقالها).
انه(ع) مركز ثقل الحرب والامامة والقيادة، بل هو مركز ثقل الكون كله.. يقول عنه عمر بن الخطاب: (اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها أبو الحسن).. وعن كونه مركز ثقل الكون كله في معاني الإمامة كسنة كونية حسنة يقول(ع):
(وسيهلك فيّ صـــنفان، محب مفرط يـــذهب به الحب إلـــى غير الحق ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق)(9).
علمه وعدله(ع)
وعن تجسيده للحق عدلاً نستمع إليه يتحدث(ع):
(وإيم الله لقد كنت من ساقتها حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفت ولا جبنت ولا خنت ولا وهنت، وأيم الله لأبقرن الباطل حتى اخرج الحق من خاصرته)(10).
وعن محيط علمه يقول(ع):
(والله لو شئت أن اخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكن اخاف أن تكفروا فيّ برسول الله(ص) وإني مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحق واصطفاه على الخلق ما انطق إلا صادقاً. وقد عهد اليّ بذلك كله وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو ومآل هذا الأمر. وما ابقى شيئاً يمر على راسي إلا افرغه في أذني وأفضى به اليّ)(11).
لقد احصى الله تعالى كل شيء في الإمام علي(ع)، فهو صنيعته لإرادته جل شأنه وها هو يصف نفسه(ع):
(أنا وضعت في الصغر بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر وقد علمتم موضعي من رسول الله(ص) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به(ص) من لدن أن كان فطيماً اعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله(ص) وخديجة وأنا ثالثهما. ارى نور الوحي والرسالة واشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه(ص) فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال هذا الشيطان آيس من عبادته، انك تسمع ما اسمع وترى ما ارى إلا انك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير...)(12).
إن الحق، هو مشيئة الله تعالى وسنته الحسنة في خلقه، وهو الصدق الثابت المنقول عن الواقع. وعلي(ع) أدرى بمعاني الحق والأعلم بمواضعه في واقع الناس، وهو(ع) الاقدر على فعله وتجسيده عدلاً ينظر ويلمس، وهو(ع) الذي يمتلك الوسيلة التي تعيد الحق إلى نصابه - لو ثُنيَتْ له الوسادة - كما يقول هو(ع):
علي ومعاني الحق والعدل
نجد معاني الحق والعدل متجسده في وجود الإمام علي(ع)، تأتي من الشواخص الواقعية لحياته وسيرته، وتأتي من البيان لمعاني الحق في القضايا حين يستدعي معانيها(ع) فيما قدمه من حلول غابت حتى عن الذين استخلفوا بعد رسول الله(ص). وتأتي معاني الحق والعدل عند الإمام(ع) فيما يتأمله المتأمل من اقواله في نهج البلاغة:
(لو اعطيت الاقاليم السبع بما تحت افلاكها على أن اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها...)(13).
أي شموخ في العدل هذا، وهل لابن أنشى مهما كان عظيماً أن يطاول ابا الحسن(ع) في هذه الهمة البالغة في التزام العدل واحتقار الدنيا؟!
والابلغ من هذا انه يعلم(ع) في أي موقع من الشموخ في مجد الله وعزه هو، وأن احداً لا يستطيع أن يطاوله واننا لا نقدر على ما هو قادر عليه:
(ألا وإن لكل مأموم اماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وانكم لا تقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا اعددت لبالي ثوبي طمرا. بلى كانت في ايدينا فدك من كل ما اظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله. وما اصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدثٍ تنقطع في ظلمته اثارها، وتغيب اخبارها، وحفيرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يد حافرها لاضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، إنما هي نفسي اروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الاكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الاطعمة ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى واكباد حرى؟ اوَ أكون كما قال القائل:
وحسبك داءً أن تبيت ببطنة.....وحولك اكباد تحن إلى القد
أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا اشاركهم في مكاره الدهر؟ أو اكون اسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني اكل الطيبات كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من اعلافها وتلهو عما يراد بها، اوَ اترك سدى؟ أو اهمل عابثاً؟ أو اجر حبل الضلالة أو اعتسف طريق المتاهة؟
وكأني بقائلكم يقول إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الاقتران ومنازلة الشجعان. ألا وإن الشجرة البرية اصلب عودا، والروائع الخضرة ارق جلوداً والنباتات البدوية اقوى وقوداً وابطأ خموداً، وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد.. والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو امكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها. وسأجهد في أن اطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد.
إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك، قد انسللت من مخالبك وافلت من حبائلك. واجتنبت الذهاب إلى مداحظك.
الإمام علي(ع)، روح ربانية طوعت النفس البشرية فيه...إذا البشر له نفس. ولكنه مصداق لخواص الله الصالحين، ونحن البشر مصاديقنا أنفسنا وليس ارواحنا، فأين الناس من علي(ع)!!
علي(ع) ومعاني الذنب
وعلي(ع) على هذا النسيج الرباني والاختبار الجليل نجده يضج بالدعاء والبكاء بين يدي ربه، يطلب الصفح والمغفرة ويتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين.
(اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم.. اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم.. اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم.. اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الداء.. اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء..) دعاء كميل.
معنى الذنب عند أمير المؤمنين(ع) لا يتضمن المعصية، كما سنلمسه من البيانات التالية:
اولاً: راينا في قوله الآنف، الفقرة التالية، والتي يستقبح فيها حالاً لا تناسب شموخه وجديته في عبوديته لله، وكونه خليفة كأجمل ما خلق الله تعالى في الكون من المخلوقات، إذ هي رسالة الإنسان على هذا الكوكب: (... ويأكل عليّ من زاده فيهجع، قرت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة...).
والمعروف أن يأكل أحد من زاده فيهجع فذلك عمل طبيعي لا معصية فيه، إلا أن يكون علياً(ع)، فإن للذنب عنده حدود اكبر إلى كل ما ينال منه شموخه في عز الله تعالى الذي يعز به خواصه من اوليائه.
ثانياً: زهد أمير المؤمنين(ع) واحتقاره للدنيا بما لا يساويه ولا يوازيه احد، تجعل رؤياه في تقييم الأعمال غير ما نراه ويزحف عنده حد الذنب إلى كل ما تستقبحه روحه السامية إلى كل ما تصالح(ع) من حب الدنيا، إذ يصف(ع) الدنيا وأهلها فيقول عنها إنها جيفة:
(اقبلوا على جيفة افتضحوا باكلها واصطلحوا على حبها، ومن عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بإذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها ولمن في يده شيء منها)(14).
إذاً فهو(ع) يرى ما لا نرى قد رفع صدق عبوديته لله القصور عن عقله.. وما تصالحنا عليه من حب للدينا فأعشى ابصارنا واصم اسماعنا واخرق عقولنا وامرض قلوبنا وانقادت إليه نفوسنا... كل هذا الذي اصابنا لم يصب علياً شيء منه.. فهو لا يعيش الغفلة التي نحياها، بل يحيا لربه الذي يعرفه، فهو منه على حياء عظيم مما يرى من فعلنا في التكالب على الجيفة والاصطلاح على حبها.
ثالثاً: أمير المؤمنين(ع): جدّي غاية الجدية في عبوديته لله، مما جعله يستوفي في كيانه كامل بعد عقيدته الروحي، نرى ذلك في تأمل قوله(ع):
(فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمعصيته).. وقوله(ع): (وما بين الله وأحد من خلقه هواده).. وقوله(ع): (ما كان الله ليدخل الجنة بشراً بأمر اخرج به منها ملكاً إن حكمه في أهل السماء واهل الأرض لواحد)(15).
إن جدّيته(ع) في العبودية لله هي التي منحته اللاهوادة في طلب رضا الله سبحانه وتعالى، المنعم بلا حدود لأنعمه، فكيف الجد بتحصيل الشكر؟! والمحسن بلا حدود لإحسانه.. فكيف الجد بالإحسان كما احسن الله إلينا؟!
وإن جدية الإمام علي(ع) في عبوديته لله تعالى، اظلته(ع) بالعظمة والقوة في قدرته على البيان. وفي الجلد والبطش في جنب الله في ساحات الوغى مع تضائله أمام ربه في محرابه تذللاً وحياءً وبكاءً واستغفاراً.
والآن صار واضحاً أن عبادة أمير المؤمنين(ع) إنما تزداد نصوعاً ونقاءاً بما يدعو الله به من مظاهر الندم وطلب المغفرة وهذا بحد ذاته دليل نقاء العبادة وصفائها من أن يشوبها الكبر والعجب. فالمتكبر موسوم بالعصيان.. والمعجب بنفسه موسوم بعدم الندم، ذلك لأنه كيف يطيع المتكبر وهو في موقع معصية، وكيف يندم المعجب بنفسه وهو معجب بها.. ثم بعد ذلك كيف يأتي الاستغفار مع المعصية ومع عدم الندم؟!!
في جانب آخر نجد أن كل جلف من علوج الدنيا، ومن مترفيها، قلوبهم قاسية لا يذكرون الله ولا يندمون على قبيح فعل سادرون في غيهم حتى يقبرهم الموت.
رابعاً: انه(ع) يملك نفسه لدرجة انه جعلها تهش إلى القرص - كما مر معنا - مأدوماً بالملح.. وهو أيضا يقول: (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل ألا تنبذها فقلت اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى)(16).
ومما لنا به بيان هنا، مثال قوله(ع) اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم.
ترى ولو كان معيارنا للذنب وللنعم كما نرى نحن، فهل يخاف(ع) من أن تتغير مدرعته التي استحيى من راقعها، أو من أن يتغير القرص المأدوم بالملح؟! أو بما هو عليه من خصومة مع الدنيا واحتقار لزخارفها يخاف أن يفقد شيئاً منها!؟
إن الذنوب التي يطلب أمير المؤمنين مغفرتها - كما أشرنا - ليست المعاصي وإنما هو أن لا يشعر بالذنب اتجاه العظيم الذي لا يعلم عظمته جل شأنه غير النبي(ص) وعلي(ع). وإن اكثر الناس شعوراً بالذنب وحساسية له هو المعصوم بل واقل الناس شعوراً بالذنب هو المجرم، بل وينعدم الشعور بالذنب عند الموغلين بالاجرام والمعاصي.
إن اظهار الندم وطلب المغفرة هو بحد ذاته حصن من أكبر الذنوب واخطرها وهو الكبر والعجب والحيف.
اضف تعليق