ان أفضل نموذج للمرأة في كل العالم، هو الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
إن شهري جمادى الأولى وجمادى الثانية يتعلقان بسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء صلوات وسلامه عليها.
للحديث عن الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) نمهّد بمقدمة، وهي إن ثلاثة أدوار من الإنحراف في نظام الحكم مرّت على الأمة الاسلامية: الدور الأول تَمثّل في حكومة الثلاثة الأوائل، والدور الثاني تمثّل في الحكومة الأموية، والدور الثالث تمثّل في الحكومة العباسية.
هنالك ملاحظة تتعلق بهذه الأدوار الثلاثة، لكن للخوض في هذا الحديث، نشير إلى نقطة، وهي: إن ثمة طريقين لتقييم الأفكار والنظريات والمبادئ:
الأول هو الطريق المباشر، ويعني التوجه إلى الفكرة مباشرةً وتقييمها من خلال ذاتها، والتحقق ما إذا كانت الفكرة تتناقض مع ذاتها أم لا؟، أو هل انها تتناقض مع الواقع الخارجي أم لا؟
الثاني: الطريق غير المباشر، وذلك من خلال ملاحظة آثار الفكرة ونتائجها في الواقع، فهذا الطريق يمثل فرداً من أفراد البرهان الإنّي ـ مقابل اللمي ـ المذكور في علم المنطق، وهو الذي يُنتقل فيه من المعلول إلى العلة، وذلك مثل الانتقال من وجود الدخان إلى وجود النار، في هذا الطريق تُلاحظ نتائج الفكرة في الواقع الخارجى والحياة العملية، ثم يُحكم من خلالها على الفكرة ذاتها وفيما إذا كانت حقاً أم باطلا!
إن الواقع القائم يفيد بان الناس عادةً يقيّمون الأفكار من خلال نتائجها، فيما يقيّم بعض المفكرين -وليس كلهم- الأفكار من خلال ذاتها، ولكن الطابع العام في المجتمعات هو تقييم الفكرة من خلال نتائجها، فإذا قيّم المفكرون الإقتصادَ الشيوعي وأثبتوا بطلانه من خلال الفكرة ذاتها، فان غالبية الناس لا يعرفون نظرية فائض القيمة التي طرحها (ماركس) في مؤلفاته، كما لا يعرفون الأدوار التاريخية التي طرحتها الشيوعية، وهي: مرحلة الشيوعية الأولى، ومرحلة الرّق، ومرحلة الإقطاع، ومرحلة الرأسمالية، ومرحلة الشيوعية الثانية، إنما ثبت للناس فشل الفكرة الشيوعية في كل العالم، من خلال نتائجها، فالإتحاد السوفيتي الذي كان يوماً إحدى القوتين العُظمَيين، تحوّل إلى إحدى دول العالم المتخلّف، فيما إنهار الإقتصاد الشيوعي في العالم، لذا فان دليل فشل الشيوعية والإقتصاد الشيوعي هو ما تمخض عنهما من نتائج.
الادوار الثلاث والانطباع البشع
نحن نعتقد أن الأدوار الثلاثة التي ذكرناها آنفاً (حكومة الثلاثة الأوائل، الحكومة الأموية، والدور والحكومة العباسية)، أعطت انطباعاً سلبياً وعكست صورة بشعة عن الإسلام لدى كثير من الناس في العالم، ولا ننكر أن هناك مفكرين ومنصفين درسوا الإسلام من خلال ذاته، ولكن كما قلنا في المقدمة الأولى لايقيّم كل الناس الأفكار من خلال ذاتها، بل يحكمون عليها من خلال آثارها وتطبيقاتها، ومن ثَم فإن هذه الحكومات الثلاث أعطتهم انطباعاً سيئاً عن الإسلام.
إن كثيراً من هؤلاء الحكام الذين حكموا في الأدوار الثلاثة كان يشبه صداماً!، فهل يوجد من يرضى بالرضوخ لحكم صدام الذي ساد بالحديد والنار، لذا فان مفردة (الخلفاء) غير دقيقة، وقد حاول الحكام الأمويون والعباسيون إضفاءها على حكمهم.
عندما أراد معاوية تعيين ابنه يزيد من بعده، قام أحد الحاضرين وقال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية فإن مات؛ فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى؛ فهذا، وجرّد سيفه[1]، وهذا المنطق كان مطابقاً لمنطق صدام، لذا قال معاوية له: إجلس؛ فأنت أخطب الخطباء! لأنه قال: (ومن أبى فهذا).
وقبل ذلك حصل في السقيفة أن اعترض زعيم الخزرج على ترشيح الرجل الاول وقال: (منا أميرٌ ومنكم أمير)، لكن الرجل (...) قال: (طَؤُوه)! وهو ما تذكره مصادرهم وليست مصادرنا، (فوطؤوه بأقدامهم حتى كاد أن يموت)[2]، ثم بقي عليلاً ومريضاً وهو سيد الخزرج، ثم ذكروا في كتبهم أن الجن قتلوه! ووضعوا بيتين على لسان الجن، إذ كان الرجل خارجاً إلى مكان وقتلوه، وذكروا هذين البيتين:
نحن قتلنا سيد الخزرج.......سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين.......فلم تخطئ فؤاده [3]
وهذا هو منهج الإرهاب، حيث ان يزيد أخذ البيعة من الناس على أنهم خدمٌ له يباعُون ويُشتَرون كالعبيد، لذا لا يوجد شخص عاقل اليوم يرضى بالعودة إلى حكم صدام، أو إلى حكم الحجاج أو هشام بن عبد الملك أو هارون أو المتوكل، لأن هؤلاء لم يمثلوا الدين.
الزهراء.. المقياس
النقطة المحورية في هذا البحث أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بأجمعهم قاموا عبر أقوالهم ومواقفهم ومظلوميتهم في الفصل بين الحكومات الجائرة والإسلام. وكان لثلاثة من المعصومين
من الأربعة عشر (صلوات الله عليهم) دورٌ كبير في فضح وإدانة ثلاث حكومات تشكلت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي: حكومة الدور الأول والحكومة الأموية والحكومة العباسية.
فكان لسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) الدور الأساسي في فضح الحكومة الأموية وإسقاطها.
وقد فضح الامام موسى بن جعفر الكاظم (صلوات الله عليه) الحكومة العباسية بمظلوميته وسجنه.
لكن الدور الأخطر والأهم كان ضد حكومة الدور الأول، فهذا الدور هو الذي مهّد للأدوار التالية في تاريخ الاسلام، ففي العراق –مثلاً- كان البكر أكثر خطورة من صدام، رغم حجم الجرائم التي ارتكبها الأخير، إلا إن صداماً إحدى سيئات البكر، فإذا لم يكن البكر لم تكن ثمة فرصة لظهور صدام، فهو الذي مهّد له هذه الأرضية، ثم صعد على أكتافه، لذا تسجل كل جرائم صدام في ديوان البكر.
من هنا فان حكومة الأوائل هي التي مهّدت الطريق لجميع جرائم الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن بعهدهم لأن الانحراف بدأ من ذلك الوقت، وهنالك ثلاثة أبيات لطيفة يقرؤها الخطباء (حفظهم الله):
سهمٌ أتى من جانب السقيفة.....وقوسه على يد الخليفة
اليوم من إسقاط فاطمة محسنا.....سقط الحسين من الجواد صريعا
كفٌ بها أمك الزهراء قد ضربوا.....هي التي أختك الحورا بها سلبوا[4]
لقد قامت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)، بفضح حكومة الدور الأول وذلك بموقفها وبمظلوميتها وبشهادتها؛ هنا الموقف مهمٌ جداً، لأنه يشكل العقدة الأساسية التي إن لم نحلّها لن نتمكن من دعوة العالم إلى الدين الاسلامي، والعقدة هي إن تلك الحكومات لم تكن لتمثل هذا الدين، فقد فصَلت الصديقة الكبرى بين الإسلام وبين هؤلاء، وقالت للعالم: ان هؤلاء لا يمثّلون الإسلام، ولا يمثّلون النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وجاء ذلك من خلال (الخطبة الفدكية)[5]، وهي خطبة غايةً في الأهمية.
- أحد الأشخاص تشيّع بعد سماعه هذه الخطبة من أحد الخطباء في شريط كاسيت، وقال: لقد أحدثت عندي هذه الخطبة هزّة من الاعماق –
والوسيلة الأخرى للفضح والفصل، هي مجهولية قبرها، فهم قد يتمكنون من إنكار أشياء كثيرة ما عدا هذا الأمر، فالكل له قبر معروف، فعائشة وبقية زوجات النبي لهن قبور معروفة، بيد أنَّ ابنة النبي الوحيدة لا يعرف لها قبر واضح لها، فنجد الموالين يذهبون يبحثون ولا يجدون.
وهذا الموقف هو من المواقف المهمة التي فصلت بين الممارسة وبين الفكرة، فالذين جاؤوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يمثّلون الدين، كما كانوا حكاماً متخلفين أيضاً، فأولئك كانوا حكاماً حكموا المجتمعات الاسلامية بمنطق الحديد والنار، وعليه فإن علينا إحياء ذكرى الصديقة الكبرى (صلوات الله عليها) ما استطعنا الى ذلك سبيلا، ليكون عاملاً مساعداً لتحقيق هذه المهمة.
الزهراء.. قدوة للرجل والمرأة
يقوم الغرب حالياً بصناعة الرموز في مختلف الأبعاد، ففي الغرب ثمة رموز إجتماعية ورموز فكرية، لكنها مصنوعة ومقصودة، وليست قضية طبيعية، كما يصنعون الرموز السياسية، وهذا بحثٌ طويل لا مجال لنا في خوضه، ومن أخطر الميادين التي دخلها الغرب وصناعته للرمزية، هو ميدان المرأة، فقد صنع رموزاً للمرأة في العالم، ويحصل ذلك في ظل (العولمة) السائدة اليوم، إذ لم يعد ممكناً إخفاء شيء، كما كان في سابق الأيام، واذا ما أراد الناس التعرف على شيء يذهبون الى الغرب بأنفسهم، أما اليوم فان الغرب هو الذي جاء الى بيوتنا، وهو موجود في كل بيت شئنا أم أبينا؛ هذه الرموز المصنوعة للمرأة تتمتع بجذابية وإغراء للمرأة، فان إمكانية قيادة المرأة لطائرة شيءٌ مُغرٍ، أو أن تكون نائبة في البرلمان فانه شيءٌ مُغرٍ أيضاً، أو تكون رئيسة جمهورية، أو رئيسة وزراء –كما هو في بعض البلدان- فهذا إغراء كبير.
لكننا نعتقد أن الغرب فشل في تحقيق هدفه ومراميه من وراء دفع المرأة الى ميدان العمل، فهو دفعها الى قمة المادية دون النظر الى حجم الثمن الباهض الذي يتعين على المرأة أن تدفعه، وهذه النقطة المهمة –كما أعتقد- أشار اليها الوالد (قدس سره)[6]، حيث كان يقول: علينا دائماً ان نبحث عن الثمن الذي يجب ان ندفعه... فالمصاب بداء السكّري –مثلاً- اذا جلس على مائدة مليئة بأصناف الأطعمة وألذّها ثم أكل منها مع انها محظورة عليه، فلابد أن يفكر بالثمن الذي سيدفعه لقاء ذلك.
الثمن الباهظ للتحرر المزيف
إن الثمن الذي دفعته المرأة في الغرب هو الدمار والتفكك الأسري، فالعائلة الغربية محطّمة، والعلاقة بين الرجل وزوجته مفككة، فيحصل أن تموت المرأة وحيدةً في بيتها دون أن يشعر بها أحد، وبعد ثلاثة أو اربعة أعوام يتوصلون بان هذه المرأة ميتة، وربما تحوّلت إلى هيكل عظمي! لذا يجب القول بان وضع المرأة عندنا أفضل بكثير مما هو سائد في الغرب، وكذلك النسيج العائلي، حيث يسود بيننا التقارب والتلاحم والتزاور، وهي أمور غير مفهومة في الغرب، وعليه فان الثمن الذي دفعته المرأة الغربية من وراء الحضارة الغربية المادية، كان باهظاً، فما قيمة أنْ يكونَ الإنسانُ طيّاراً مقابل أن يخسر ذاته، أو أن يكون رئيساً للجمهورية ويخسر كيانه.
وقد بدأت في الغرب اليوم ردود فعل تجاه هذه الحالة، منها ما نقله أحد الخطباء الكبار، وهو ما يثير العجب، حيث تشكلت في إحدى الدول الغربية جمعية تحت إسم (جمعية المرأة المُستسلمة لزوجها)[7]، وقد كسبت هذه الجمعية عشرات الآلاف من النسوة الغربيات، وقد ألفت رئيسة هذه الجمعية كتاباً طُبع منه حتى الآن نصف مليون نسخة وعنوانه (المرأة المستسلمة لزوجها)، أما فكرة هذه الجمعية، فهي لطيفة ومثيرة، وقد جاء في الكتاب: إنَّ الحضارة المادية أججت الصراع في داخل العائلة بين الرجل والمرأة، فالخطابات التحريضية التي تعطيها الحضارة الغربية للرجل وللمرأة جعلت الرجل في البيت ضد المرأة والمرأة في البيت ضد الرجل.
علماً إن هذه الحالة في طريقها للإنتقال الى مجتمعاتنا الاسلامية، ولو بمقدار تأثرنا بالحضارة الغربية، فهذه الحضارة تقول للمرأة: لك كيانك المستقل وشخصيتك المستقلة، ويمكنك التمرد على الرجل، وليس له حق القيمومة عليك، ثم أنت متساوية مع الرجل! فإذا وضعنا قائدين في مكان واحد ثم أججنا الخلاف فيما بينهما فان ذلك المكان لن يبقى سالماً، لذا نجد التفكك والتمزق يسود كيان العائلة في الغرب، حيث يكثر الطلاق وترتفع أرقام المنتحرين من الرجال والنساء، عندما لايجدون الوسيلة للتفاهم والسبيل للعيش الصحيح والمشترك.[8]
أما الخيانات الزوجية هناك فانها أسهل من شرب الماء! وعلى ذلك فكرت هذه الجمعية بالعودة الى الحالة القديمة، حيث كانت المرأة خاضعة لزوجها، وهو ما يؤكده القرآن الكريم: (الرجال قوّامون على النساء)[9]، فتدعو هذه الجمعية النساء الغربيات الى الخضوع لأزواجهن ليضمنّ الراحة والاطمئنان.
فاطمة عليها السلام الانموذج الافضل
نحن نعتقد أن أفضل نموذج للمرأة في كل العالم، هو الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)، وهو نموذج خافٍ عن الكثير في العالم اليوم، فهنالك إمرأة يابانية قرأت حياة فاطمة (صلوات الله عليها) فأعلنت إسلامها، بعد أن تأثرت بسيرة الصديقة الكبرى، وقالت: هذا هو النموذج الذي كنتُ أبحث عنه، فالمرأة في الغرب وفي كل أرجاء العالم وحتى المرأة المسلمة بحاجة إلى هذا النموذج المتكامل والراقي...
ونحن بحاجة الى هذا النموذج لبيوتنا ولعوائلنا، فقد كانت الزهراء (صلوات الله عليها) قمّةً في حياتها الزوجية حتى قال عنها زوجها الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام): فو الله ما أغضبتُها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عزوجل، ولاأغضبتْني ولاعصت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان[10].
وفي وصيتها هي (صلوات الله عليها) تقول للإمام (عليه السلام): يابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني. فقال (عليه السلام) لها: معاذ الله أنت أعلم بالله وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي[11].
أفلا نحتاج اليوم لمثل هذا النموذج؟ أوَ لا يحتاجه العالم كله أيضاً؟ ألا تشكل الزهراء (صلوات الله عليها) بديلاً أفضل من هذه النماذج المعروضة؟
وقد ذكر المؤرخون: أنه دخل الإمام (صلوات الله عليه) الدار يوماً فقال لها: يا فاطمة هل عندك شيء؟ قالت: والذي عظّم حقك ما كان عندنا منذ ثلاث إلاّ شيء آثرتك به؟ قال: أفلا أخبرتني؟ قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهاني أن أسألك شيئاً[12].
أفتوجد اليوم امرأة لا تطلب من زوجها شيئاً وتصبر على ذلك ثلاثة أيام؟ ألا يحتاج العالم لهذا النموذج الذي يأخذ بيده من هوّة الماديات السحيقة إلى قمة المعنويات والكمال والحياة السعيدة؟
لقد أنجبت السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) وربّت خيرة النساء: زينب وأم كلثوم، وخيرة الرجال: الحسن والحسين (سلام الله عليهم أجمعين). فما أحوجنا اليوم إلى الاقتداء بها في حياتها العائلية; مع زوجها وأبنائها؟
وما أحوجنا إلى الاقتداء بجهادها (صلوات الله عليها) وصبرها، فلقد كانت مجاهدة من الطراز الأول، وأنجبت أئمة معصومين (صلوات الله عليهم) جاهدوا ضد الطغاة والحكومات المستبدة، فكانوا بحقّ قلاع الحرية الحقيقية، ونحن اليوم بحاجة إلى هذه النماذج، وينبغي لنا عرضهم رموزاً وقدوات في بلادنا وفي العالم كله.
الغرب بأمسّ الحاجة إلى الرموز المعنوية
ينقل أحد الأخوة وكان في لندن، ويقول: كان هنالك جسر أعبر من خلاله يومياً، وذات يوم رأيت حاجزين قد نصبا على طول الجسر يفصل الشارع عن رصيف المشاة، وبعد أن سألت قالوا: إنَّ الناسَ يأتون فوق هذا الجسر ويلقون أنفسهم وسط الشارع لينتحروا تحت عجلات السيارات[13]، إذن الحياة التي يعيشها الغربيون ليست حياة، رغم مظاهر الترف والجذابية التي تحملها، إذ أنَّ الخواء ينخر من الداخل، وحالهم- والعياذ بالله- مثل المُصاب بالسرطان، فهو يموت بعد أيام، ولكنه يحافظ على مظهره الجميل والطبيعي، وهذا هو حال الحضارات الغربية، لذلك فانهم يعلنون قبولهم عندما يُعرض عليهم الإسلام بشكل صحيح، لكن المشكلة في عرضنا الضعيف.
أعطى أحد الأخوة كتاباً من مؤلفات الوالد لأحد التجار في العاصمة الايرانية طهران، والكتاب بعنوان: (ما هو الإسلام؟)، وكان مختصراً ومترجماً الى اللغة الإنجليزية، بعد فترة ذكر ذلك التاجر أنه كان في رحلة عمل الى إحدى الدول الأجنبية، وكانت هناك إمرأة تعمل في الشركة، فاعطيتها الكتاب، وبعد يومين جاءت وأعلنت تشيّعها![14]
فراغات لابد من ملئها
هناك فراغات كثيرة فيما يتعلق بمسؤوليتنا تجاه الزهراء (صلوات الله عليها) وبخاصة في شهري جمادى الاولى والثانية، ومنها:
أولاً: كان للعامة (فقه عائشة)، إذ لها فقهٌ، وهل من فقهها أنها خرجت على إمام زمانها، الذي قال النبي الأكرم: (حربه حربي)[15]، لكن هنالك فراغاً فيما يتعلق بفقه فاطمة، وفي حدود علمي، و أنا لا أدّعي الإحاطة، بان هنالك فراغاً في هذا الجانب، الوالد (قدس سره) من جانبه ملأ جانباً من هذا الفراغ، وكتب مجموعة من المجلدات في فقه فاطمة (صلوات الله عليها)، بعضه تمت طباعته والبعض الآخر بقى مخطوطاً[16].
ثانياً: هنالك فراغ في مخاطبة العقل الجامعي، فالكتب الموجودة لدينا جيدة، ولكن بما ان لكل جيل عقلية معينة، يجب علينا أن نكتب كتباً حول فاطمة (صلوات الله عليها) تخاطب عقلية الجامعيين، فمن الذي يكتب؟ الجواب: هو نحن من عليه أن يكتب، لنلاحظ عدد الكتب المطبوعة حول الحجاب، عندنا كتب كثيرة وكل هذه الكتب تملأ جانباً من القضية، ولكنَّ قليلاً من هذه الكتب تخاطب عقول الجامعيات وتتحدث بلغتهن، وهذا هو الفراغ بعينه، فينبغي ملء هذا الفراغ.
ثالثاً: نحن بحاجة الى كتب حول فاطمة (صلوات الله عليها) تخاطب العقل الغربي، فالغربيون لهم عقلية معيّنة تختلف عن عقلية الشرقيين، والكلام الذي تقوله للشرقي ربما لا يمكن أن تقوله للغربي- وقد وصل الى يدي كتاب ألفه صاحبه خصيصاً لمخاطبة العقل الغربي حول الزهراء (صلوات الله عليها)- لذا فان عدم وجود هكذا كتاب يُعد فراغاً فيما يتعلق بمناسبة مولد ووفاة الصديقة الكبرى (صلوات الله عليها).
المجالس البيتية حصن تربوي
رابعاً: هنالك فراغ في المؤسسات الإجتماعية الصغيرة، وهي بعبارة واضحة تعني المجالس البيتية، وهذه المؤسسات لها أهمية كبيرة، فالكيانات الكبيرة، مثل الحسينيات والمساجد مهمة ومؤثرة، ولكنَّ للمجالس الصغيرة دوراً كبيراً ومهمّاً، فلابد من التشجيع على ظاهرة إقامة المجالس في البيوت، وهي الظاهرة التي انتشرت في الكويت، حيث تبنّى بعض الشباب إقامة هذه المجالس في شهري جمادى الأولى وجمادى الثانية، ففي كل ليلة هنالك مجلس عزاء أو إحتفال في إحدى البيوت، إن هذه المجالس تقوم بدورٍ ربما لا تقوم به الحسينيات والمساجد الكبيرة، لذا يجب التشجيع على هذه المبادرات فهي مؤثرة جداً، وهي حصن لأولادنا ولبناتنا وعامل للبركة في بيوتنا.
ينقل عن أحد الأخيار في الكويت، وهي قضية تعود الى أكثر من إثنين وأربعين عاماً، قال: ذهبت إلى البحرين في عمل تجاري، وكنا نتعامل مع أحد أبناء العامة، فيقول: وعدته بالمجيء إليه بعد غد، فقال لي: ان غداً عطلة، يقول الرجل التاجر: فكرت في نفسي عن مناسبة العطلة وسألته فقال: أنت الشيعي كيف لا تعلم؟! قلت كيف، قال غداً ذكرى وفاة فاطمة (صلوات الله عليها)، وعندنا عطلة، يقول الرجل التاجر: هذه الكلمة أثّرت فيّ كثيراً، فعاد إلى الكويت وبدأ إقامة مجلس العزاء في أيام جمادى الأولى، وهذا المجلس مستمر عنده منذ أكثر من أربعين عاماً، وهو مبعث للخيرات والبركات الكثيرة.
شجعوا أفراد المجتمع على إقامة هكذا مجالس، وربما يبقى هذا البناء الذي تقيمونه إلى مئة عام، فهناك مجالس حسينية في طهران مضى على تأسيسها أكثر من مئة عام، وقد شجع الوالد هذا العمل كثيراً عندما كان في الكويت، واليوم ربما نجد المجالس البيتية بالمئات في الكويت، ولا أتذكر أحداً بدأ إقامة المجلس وانقطع، لأن الذين بدأوا لمسوا الخيرات والبركات، ونحن بقدر ما نتمكن يجب أن نحاول ملء هذه الفراغات، حتى تكون إن شاء الله كلها ذخائر للآخرة.
يروي الأخوة الذين شاركوا في دفن الخطيب السيد كاظم القزويني (رحمة الله عليه)، انهم وضعوا في مقابل وجهه – كما وصّى- كتابه (فاطمة من المهد إلى اللحد)، فهذه وثيقة من وثائق الشفاعة، فهو يأتي (رحمة الله عليه) ومعه هذا الكتاب وكتابه (عليٌ من المهد إلى اللحد)، ويأتي السيد كاظم الكفائي ومعه كتابه المشهور (الزهراء في الأدب والتاريخ) ذلك الكتاب الذي حُكم عليه بسببه بالإعدام في عهد الحكم البائد في العراق، ولكن الله تعالى نجّاه،، كما يأتي العلامة الأميني ومعه (الغدير)، ويأتي صاحب العبقات ومعه كتاب (العبقات)، ويأتي العلامة الحلّي ومعه (تشيّع إيران)، حيث ان أجزاءً كبيرة من إيران تشيّعت على يد العلامة الحلي.
وقد نقل عن أحد علمائنا الماضين (رحمهم الله تعالى) أنه سأل عن أشدّ المناطق نصباً لأهل البيت (عليهم السلام)؟ فيشدّ الرحال إليها لكي ينشر بينهم الولاء لآل البيت (عليهم السلام)؟!
وثمة شخص آخر استشاط المخالفون غضباً من جهوده في خط أهل البيت (عليهم السلام) فقرروا الانتقام منه ومن الذين اهتدوا على يديه، فأحاطوا بالمسجد الذي كان فيه وأحرقوه بمن فيه، فاستشهد هو والمؤمنون الذين كانوا معه رحمهم الله جميعاً.
أو تلك المرأة التي باعت حليّها لتمويل طباعة كتاب حول حياة أمير المؤمنين، أو الشيخ محمد جواد البلاغي[17] الذي باع بيته ليطبع كتاباً حول الدين.
فكل شخص من هؤلاء يأتي يوم القيامة ومعه وثيقة الشفاعة، ونحن أيضاً يجب ان نفكّر بوثيقة نحملها معنا في ذلك اليوم العصيب، في يوم القيامة بإذن الله تعالى (يوم لاينفع مال ولا بنون)[18].
أسأل الله تعالى التوفيق لي ولكم لذلك.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق