بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
في هذه المحاضرة نتحدث عن موعظة للإمام الثاني من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأحد الخمسة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، الإمام المجتبى (صلوات الله وسلامه عليه)، وهي الموعظة التي وعظها وهو في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة، تلك اللحظات الصعبة الحرجة التي أخذ السُّم مداه في جسد الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) حيث كان يقذف كبده قطعة قطعة. في تلك اللحظات الحرجة دخل جُنادة [1] على الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) وقال له: (عظني)، لاحظ هذا التوجه والإلتفات من جُنادة..
فكلٌّ منّا يحتاج بدايةً لإصلاح الذات، ولكن هنالك بعض الأفراد يظنون أنهم لا يحتاجون للنصيحة والموعظة، ولا تخطر في بالهم، إن الفرد قد يشعر في أعماقه أحياناً بأنه متكامل ولا إشكال عليه، ولا يعاني من نقص مّا، فلا يحتاج إلى الموعظة، وهذا يعني التأخر.
كان هنالك خليفة أموي، أو بالأحرى حاكم أموي مثله مثل مئات الحُكام في بلدان العالم إذا لم يكن أقل شأناً منهم، وهو هشام بن عبد الملك، عندما كانوا يدخلون عليه ويقولون له: (اتَّقِ اللهَ) كان يغضب، علماً بأنّ اللهَ تعالى يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله): (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ)[2]، ولكن هذا الخليفة أو الحاكم كان يقول: لا أسمح لأحد أن يقول لي: اتَّقِ الله، وإلاّ ضربت عنقه.
فإذا قال له أحدٌ ما: اتق الله، كان جزاؤه الموت بضرب العنق!.
يقول تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)[3].
فهناك بعض الأفراد لا يشعرون بالحاجة إلى النصيحة، وإذا نصحهم أحد يتأثرون وينزعجون من ذلك، لكن من ينصحك يريد مصلحتك، أو لعلّ نصيحته تصب في مصلحتك، فيقول لك: إعمل هذا العمل ولا تعمل ذاك.. ولكن بعضهم يتأثر وينزعج من ذلك، ويظنك عدواً له، ومع أنك تقول له: إنك ناصح له ولستُ عدواً، لا يتقبل النصيحة.
اطلب الموعظة
إن النبي (صلى الله عليه وآله) يُشكّل ويمثل قمّة هرم الوجود الإمكاني، بمعنى لو كان للوجود الإمكاني درجات ومراحل، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) يُمثّل قمة هذا الهرم، والأنبياء والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم) هم صفوة البشرية وقممها، أما قمة هذه القمم فهو رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)، لكن جبرائيل (عليه السلام) الذي يفتخر بكونه خادماً لحفيد النبي (صلى الله عليه وآله) ولهذه الصفوة الطاهرة، عندما كان يأتي للنبي (صلى الله عليه وآله) يقول النبي (صلى الله عليه وآله) له: يا جبرائيل عظني موعظة، فالنبي (صلى الله عليه وآله) يطلب الموعظة من خادمه، لذلك إذا وعظك إنسان فلا تتأثر من ذلك، هذا أولاً، وثانياً: أطلب الموعظة بنفسك.
إن الشيخ الأنصاري (رحمة الله تعالى عليه) وهو عالم زاهد ورع، وتأخذ حوزاتنا العلمية من علمه منذ أكثر من مائة عام إلى يومنا هذا، إذ لا زالت دراسات الحوزات تدور حول المحور العلمي والفقهي والأصولي الذي أوجده الشيخ، ومع ذلك كان هنالك واعظ في زمانه، ربما هو الشيخ جعفر الشوُشتري أو غيره، حينما كان يراه الشيخ الأنصاري وهو المرجع الأعلى كان يقول له: يا شيخ جعفر عِظنا فقد قست قلوبنا، لأن القلب يصبح قاسياً بسرعة..
وقد أشار القرآن الكريم إلى قسوة القلوب حيث قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)[4]. فحتى الحجر الصلب القاسي يتفجر منه الماء والعيون، ولكن بعض القلوب أقسى من ذلك وأشد.
كيف نعيش في الدنيا؟
وتُحسب لجُنادة هذا الالتفات منه، وذلك في اللحظات الحرجة للإمام (صلوات الله وسلامه عليه وآله) إذ لم يُفوّت الفرصة حين قال: عظني يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله).. مع أن الإمام (عليه السلام) كان يعاني ما يعانيه، ولكنه كدأبهم (عليهم السلام) لا يأبى النصحية ولا يأبى الموعظة، كما أن سيد الشهداء (صلوات الله عليه) أخذ يعظ أعداءه حتى في يوم عاشوراء، فقال (عليه السلام): (عباد الله إتقوا الله.. واحذروا هذه الدنيا)[5].
فوافق الإمام الحسن (صلوات الله عليه) فأخذ يعظ جُنادة ويعظنا جميعاً، فقال (عليه السلام):
(نعم، استعد لسفرك، وحصّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك، واعلم أن في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة، خذ منها ما يكفيك...)، إلى آخر كلامه (صلوات الله وسلامه عليه).
وهذه الكلمات تتناول أحد أعقد الأشياء التي شغلت الإنسان منذ أن وُجد وإلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا الشيء الذي شغل بال الإنسان ويشغلنا جميعاً، هو أنه كيف ينبغي أن تكون علاقتنا مع هذه الدنيا التي نعيش فيها سبعين أو ثمانين أو مائة عام ثم نرحل عنها، وينتهي كل شيء في هذه الدنيا، فما هي طبيعة علاقتنا معها؟
يوجد تصوران حول هذا الموضوع، بل أكثر:
التصور الأول:
إن علاقتنا مع هذه الدنيا كعلاقة الطائر مع القفص، فالقفص يعتبر سجناً لهذا الطائر، إذن نحن سجناء في هذه الدنيا، والدنيا هي سجن المؤمن[6]، فهذه الروح العظيمة مسجونة في هذا البدن وفي هذه الدنيا، يقول ذلك الرجل:
أنا عصفور وهذا قفصــــي....كان ثوبي وقميصي زمناً[7]
فنحن في الواقع سجناء هذا البدن العنصري، وسجناء هذه المعادلات التي تحكم هذه الحياة، ويوم نموت نتحرر من هذا السجن وتلك المشاكل ونتحرر من المعادلات التي تحكمنا جميعاً.
التصور الثاني:
لا أراه مناقضاً للتصور الأول، بل لعله مكمّل له، إن علاقة الإنسان مع هذه الحياة كعلاقة الجنين بأمه، قد يكون الرحم سجناً لهذا الجنين، ولكن هذا لا ينفي وجود علاقة ثانية بين الجنين وبين الرحم، وبين الجنين وأُمِّه، فالعلاقة إذن هي علاقة استكمال وتزوّد.
فالجنين مُقْدِم على مرحلة يحتاج فيها إلى مقوّمات ووسائل، وهو يمرّ بالمرحلة الجنينية، في تلك الظلمات الثلاث، ظُلمة البطن، وظُلمة الرحم، وظُلمة المشيمة، حيث يتكامل الجنين فيها، فأي اختلال أو نقص يتعرض له الجنين في هذه المرحلة سيؤثر على حياته القادمة كلّها، فإذا راعت الأُمّ حال الطفل الجنين سيعود عليه ذلك بالخير، حيث ترى التعليمات الشرعية بأن هذه المراعاة قد تؤثر في سلامة الطفل أو حتى في جماله. يُروى عن الإمام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) أنه نظر إلى طفل جميل فقال: إن والد هذا الطفل أكل السفرجل[8]. والسفرجل يؤثر في جمال الطفل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأم الحامل، يقول العلامة الطباطبائي في منظومته أو ابن الأعسم:
في سفرجل الحديث قد ورد
تأكله الحبلى فيحسن الولد[9]
بمعنى أن كل خطوة من الأم ستؤثر في سلامة الطفل، حيث يؤثر الطعام الذي تأكله الأُمّ في سلامته وجماله وربما في قبحه، فإذا لم تُراعِ الأُمّ ذلك؛ كأن تعيش حالة قلق واضطراب في مرحلة الحمل، فيؤثر هذا الوضع على الجنين، وإذا تعرضت الأُمّ لبعض الأشعة التي ينصح الأطباء بالابتعاد عنها، فمن المحتمل أن يُعاق الطفل حتى آخر حياته، فقد يولد أعمى أو مشلولاً وقد يصاب بعاهة دائمة لا فكاك له منها.
إذن قد يكون الرحم سجناً لهذا الجنين، ولكن هذا لا يُلغي أن تكون هذه المرحلة مرحلة استكمال له، فهذه الحياة الدنيا تكون سجناً للمؤمن، ومع ذلك مرحلة تكاملية يتزود منها للآخرة، والإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول: (الدنيا متجر أولياء الله)[10].
وفي الحديث الشريف: (الدنيا مزرعة الآخرة) [11].
وفي الشعر:
اليوم زرعٌ والحصاد غداً
ومن يجني الثمار تكن له أشجارُ
الاستعداد للرحلة
الإمام المجتبى (صلوات الله عليه) يشير في تلك اللحظات إلى مسألة الإعداد لتلك الحياة الحقيقية الأخروية، فينصح جُنادة ويقول له: (استعد لسفرك)، فأمامك سفر، وتحتاج إلى استعداد لذلك السفر.
ــ وكيف أستعد له يا بن رسول الله؟
يقول الإمام (عليه السلام): (حصّلْ زادك قبل حلول أجلك)، فهذه الرحلة تحتاج إلى زاد، وما هو هذا الزاد؟ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[12].
ــ وهل هناك مناص من هذا السفر يابن رسول الله؟
ــ لا، لو كان هناك مناص لبقيَ الملوك الذين يقتلون الملايين لكي يبقوا أياماً معدودات، ولكن لا يوجد هنالك خلود لهم.
يقول الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): (واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك)! كما لو أنَّ أحداً يركض وراء فريسة وهنالك شخص يأتي من خلفه ليغتاله.
قيل لأحد العلماء: لو أتاك وليٌّ من أولياء الله أو فرد من الأفراد الذين كشف الله لهم بعض حجب الغيب وقال لك: بأنك ستموت غداً، فماذا ستعمل؟
ولو وجّه لكل واحد منا مثل هذا السؤال ماذا سنعمل؟ ربما يكون الإنسان قد ارتكب في حياته مشاكل كثيرة ومعاصي عديدة والعياذ بالله، وهنالك كثير من الأفراد طالهم الاغتياب، ففي كل مجلس يُغتاب فيه المؤمنون هنالك حساب وعقاب، وهل الغيبة تبقى بلا حساب، وليس فيها كتاب؟.. يقول تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[13].
وإذا قيل لنا بأن غداً يوم وفاتنا، فهل نحن مستعدون؟ وكم علينا من أمور، ينبغي أن نذهب إلى جميع من له شيء بذمتنا ونستحلّهم ونقول لهم: إننا اغتبناكم فابرئوا ذمتنا، كذلك هنالك صلوات القضاء في رقابنا، وخصوصاً صلوات الصبح، يجب أن نقضيها، إنها الديون الإلهية، وكم في رقابنا من المعاصي التي ستتحول غداً إلى حيّات والعياذ بالله، ليس أنا من يقول هذا الكلام، بل الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يقولون ذلك، إذن علينا أن نؤدي ما علينا من ديون لله تعالى وللناس، ولكن ما كان جواب ذلك العالم الرباني الذي سُئل: اذا أُعلِمتَ بأنك ستموت غداً فماذا ستعمل؟ فأجاب: لا أعمل شيئاً جديداً، وسأستمر على عملي الذي واظبت عليه منذ ثلاثين عاماً، فإني أنتظر يوم وفاتي من ذلك الحين.
إن هذا الرجل الرباني كان مستعداً للأجل وللموت في كل لحظة منذ ثلاثين عاماً، فليأتِ الأجل أهلاً ومرحباً به.
إن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان لا يُبالي بالموت، أوَقَعَ على الموت أم الموت وقع عليه، لأنه حاضر ومستعد لذلك، فلا يخاف الموت[14].
الغيبة جريمة
أحد العلماء، ولم أذكر أسمه، ربما توفي قبل خمسين عاماً (رحمة الله عليه) وله من الآثار النافعة ما لا تُحصى فوائدها، وقد كان دقيقاً جداً، كما كتب عنه الآخرون، فلم يكن يجرأ أحد أن يغتاب مؤمناً في مجلسه، إذ كان يردع ذلك، ويعتبر أن الغيبة جريمة يشترك في ارتكابها شخصان، المُغتاب والسّامع، فكلاهما شريكان في الجريمة[15].
لذلك عندما تسمع غيبةً اردع صاحبها بلطف، وقل له: لا تغتبْ مؤمناً، فهذا عمل حرام. وإذا لم تستطع من الردع، فلا تلبث في ذلك المجلس، قم وغادر، أو حوّل مجرى الحديث، وإن لم تستطع فاشغل فكرك بأمر آخر على الأقل.
إن في كل إنسان نواقص.. فعليه أن يمتنع عن تتبع نواقص الآخرين، لأننا غارقون في النواقص والعيوب.
فلم يكن أي شخص يجرؤ أن يغتاب مؤمناً في مجلس ذلك العالم، لأنه كان يردع عنها..
يُقال في اليوم الذي تُوفي فيه ذلك العالم، وفي اللحظات الأخيرة من حياته دخل عليه أحد العلماء من طهران، فرآه مضطرباً جداً، لأن هؤلاء حقيقةً كانوا يؤمنون بسفر الموت ويعرفون عظم الحساب والكتاب، كما قال الإمام الحسن (عليه السلام): (استعد لسفرك، وحصّل زادك قبل حلول أجلك) فسأله: لماذا أنت مضطرب؟.
فأجابه العالم: لقد ارتكبت في حياتي ذنباً واحداً، وأنا الآن قلق من هذا الذنب!.
فقال له: شيخنا وما هو هذا الذنب؟.
فأجابه: قديماً وفي أحد أسفاري سألني شخصٌ شيئاً، فلم أبين له الصدق في الأمر بسبب ملاحظة معينة، ولذلك أنا قلق من أجل تلك الكذبة، إذ ماذا سيكون جوابي أمام الله عزوجل، وفي محضر العدل الإلهي، لماذا اقترفت هذه الكذبة؟ وماذا سأقول لله سبحانه وتعالى؟
إن مثل هؤلاء الذين يخافون الله في كذبة واحدة، آمنوا بالآخرة، ابحثوا في الكتب عن اسمه ولاحظوا كيف رفع الله سبحانه وتعالى اسمه ومقامه في هذه الحياة بسبب توجهه وموقفه هذا.
(قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)[16]، ربما تعني الآية الكريمة أن المؤمن مُشفق وخائف من ذنوبه، ومن موقفه أمام الله سبحانه وتعالى.
عليك بيومك هذا
يقول الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): (ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه).
لا يهمك ما سيحصل غداً، بل عليك بهذا اليوم:
ما مضى فات والمُؤمّل غيبٌ
ولك الساعة التي أنت فيها[17]
وفي بعض الكُتب المقدسة وإن حُرّفت، لكن ربما تكون هذه الجملة من الجمل غير المحرّفة، يخاطب العبد ربه تعالى ويقول: (خبزنا كفافنا أعطنا اليوم)[18].
إذن عليك باليوم ولا يشغلك الغد.. وهذا من أسرار نجاح الإنسان.
ومع ذلك يظل الإنسان قلقاً، فلماذا تقلق بسبب الغد؟ ومن قال لك بأن الغد سوف يأتي إليك؟
وقد يقضي الإنسان نصف عمره بالأسف على ما فاته، ونصفه الآخر قلقاً على ما يأتي، ويخسر الحاضر، وماذا يستفيد من ذلك؟
فعش اللحظة التي أنت فيها.. يقول الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): (ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه).
الزهد في الدنيا
وجاء في موعظة الإمام الحسن (عليه السلام) لجُنادة: (واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك). أيها الانسان ماذا تفعل بالأموال؟ ولمن تجمعها؟
وما قيمة قوتك؟ وما مقدار بيتك وبقية أموالك؟ وماذا تنفعك يوم رحيلك؟
وهل سيضعونها معك في قبرك؟ أولم ترحل من هذه الدنيا إلاّ كما جئت إليها عرياناً؟
لقد قال الإسكندر في وصيته: دعوا يدي خارجة من الكفن، وهي إشارة تعني: يا أيها الناس إنني عشت في هذه الحياة ملكاً، وحكمت الأقاليم، وتمتعت بالدنيا وزخارفها، ولكن لاحظوا يدي فارغة الآن من كل شيء.
فماذا تفعل بالمال؟ أنفِقهُ على الفقراء والمحتاجين في سبيل الله، لا أحد يدفن أموالك معك في قبرك، ولا ترحل من هذه الدنيا إلاّ بكفنٍ واحد، إذن فأنت خازنٌ لغيرك، وعندما تُحمل الجنازة كما في الروايات الواردة، سترفرف روح الميت فوقها وتنادي أهلها وذويها وتنصحهم ولكنهم لايسمعون. قال تعالى: (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[19]. ولكننا الآن لا نرى ولا نبصر ذلك.
نعم إن روح الميت تخاطب هؤلاء المشيّعين وتقول: يا أهلي، يا وُلدي، يا جماعة، لا تلعب بكم الدنيا كما لعبت بي، أنا صريع هذه الحياة، وصريع هذه الدنيا، فعليكم أن تفكروا قليلاً بهذا اليوم.
في الحديث أن الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) رأى الدنيا على شكل امرأة جميلة أو قبيحة، فقال لها ما معناه ــ مضمون الحديث التقريبي ــ: عن أي شيء تبحثين؟. فقالت: أبحثُ عن زوجٍ جديد.
فسألها الامام (عليه السلام): وما فعلتِ بأزواجك السابقين؟ قالت: لقد قتلتهم كلهم!.
نعم هكذا تكون الدنيا، لذلك يقول الإمام الحسن (عليه السلام) لجُنادة: (واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك).
اجتناب الشبهات
يقول الإمام المجتبى (عليه السلام) في وصيته: (واعلم أن الدنيا في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب).
كان السيد العالم محمد باقر الدُلجيي أو الدرجيي مواظباً ومتقيداً جداً كي لا يدخل في جوفه حرام، لأن الحرام يُحطّم دين الإنسان وآخرته كما يحطم دنياه أيضاً، وفي أحد الأيام دعاه شخص وقدّم له سفرة عامرة، فيها أنواع الأطعمة والأشربة، فأكل شيئاً قليلاً لأنه كان عالماً زاهداً، وبعد إنتهاء المائدة جاء ذلك الرجل صاحب الدعوة وقدّم إليه ورقة وقال له: سيدنا أمضِ هذه الورقة!.
فنظر السيد محمد باقر إلى هذه الورقة فرأى أن فيها قضية محرّمة، يريد ذلك الشخص أن يوقّع السيد عليها ويؤيدها، فعرف أن هذه الدعوة كانت مقدمة من أجل هذا التوقيع، فتأثر جداً وأخذ يرتعد، فقد تكون هذه اللقمة التي تناولها محرّمة أو مشبوهة.
أحياناً يقول أحدنا: إنَّ هذه كلمة مشبوهة، بمعنى أنه لا يعلم إن كانت حلالاً أم حراماً، فعلى هذه الكلمة هنالك حساب وعتاب، لماذا قلت هذه الكلمة؟.
نعم لم يكن من المعلوم أن ذلك الطعام كان محرّماً، ولكن يصح عليها وصف لقمة مشبوهة، فأخذ السيد يرتجف، وتوجه إلى صاحب الدعوة وقال له:
ما الذي فعلتُ لك حتى أدخلتَ هذا الزقوم في فمي، والزقوم هو طعام جهنم. (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)[20].
وقال: لماذا لم تخبرني بأمر توقيع الورقة حتى لا آكل من هذا الطعام؟.
ثم نهض السيد من ذلك المكان وهو يرتجف وخرج خارج البيت ووضع إصبعه في فمه وتقيّأ كل ما أكله، وبعد أن خرج كل ذلك الطعام المشبوه تنفس الصعداء وحمد الله لأنه سبحانه نجّاه من تلك اللقمة المشبوهة.
يقول الإمام الحسن (عليه السلام) لجنادة: (واعلم أن في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب).
وهذه بعض المواعظ التي وعظنا بها سيدنا وإمامنا المجتبى (صلوات الله وسلامه عليه)، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المُتعظّين، وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.
........................
نص موعظة الإمام الحسن (عليه السلام)
روى العلامة المجلسي في بحار الأنوار[21]، عن جنادة بن أبي أمية قال:
دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مرضه الذي توفي فيه وبين يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي أسقاه معاوية، فقلت: يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟
فقال (عليه السلام): (يا عبد الله بما ذا أعالج الموت)؟
قلت: (إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).
ثم التفت (عليه السلام) إليّ فقال: (والله لقد عهد إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منا إلاّ مسموم أو مقتول).
ثم رفعت الطست وبكى (صلوات الله عليه وآله)، قال: فقلت له: عظني يا ابن رسول الله.
قال (عليه السلام): (نعم، استعد لسفرك، وحصّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك، ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك، واعلم أن في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك، فإن كان ذلك حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر فأخذت كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فإن العتاب يسير، وأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، و إذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عز طاعة الله عزو جل، وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك، وإن نزلت إحدى الملمات به ساءك، من لا تأتيك منه البوائق، ولا يختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسما آثرك).
قال: ثم انقطع نفسه (عليه السلام) واصفر لونه حتى خشيت عليه، ودخل الحسين (عليه السلام) والأسود بن أبي الأسود فانكب عليه حتى قبل رأسه وبين عينيه، ثم قعد عنده فتسارا جميعا، فقال أبو الأسود: إنا لله إن الحسن قد نعيت إليه نفسه، وقد أوصى إلى الحسين (عليه السلام) وتوفي يوم الخميس في آخر صفر سنة خمسين من الهجرة وله سبع وأربعون سنة ودُفن بالبقيع.
اضف تعليق