|
|||||
|
|||||
حرب قصف العقول وكسب القلوب |
|||||
سعد سلوم* |
|||||
(إذا أزلت معاداة الأمريكية، لايبقى هناك شيء من الفكر السياسي الفرنسي اليوم، على اليمين أو على اليسار على السواء) جان فرانسوا ريفيل حاجز العداء النفسي لعصرنا يتعرض الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ريفيل في كتابه (رياح التغير الجديدة) إلى أوسع الحواجز النفسية في عصرنا وهو (العداء لأمريكا). ما هي مصادر العداء لأمريكا وما هي مظاهره؟ يرى ريفيل انه من الصعب تبين الأولى دون وصف الثانية. فالدراستان لا تفترقان أبدا، رغم انه يمكن تحليل المظاهر، أما الأسباب فيمكن تخيلها فقط (نتحفظ على ذلك لان منطقتنا تزخر بأسباب عداء لها ثقل على ارض الواقع) ويرى انه عند تحليل المظاهر يصعب التفريق بين ما هو نابع من الانتقاد القائم على أسس ومعطيات صحيحة وبين ما هو ناتج عن فكرة ثابتة شاملة ترفض التقدير المعقول والمفهوم على الأقل. ويرى ريفيل أن التنديد بأمريكا بسبب الحوادث التي تجري بها يشبه المثل القائل: يرى الخصم القذى في عين خصمه ولا يرى العمود الذي في عينه. وبهذا فهو يحاول تحليل جذور العداء لأمريكا عن طريق المقارنة ليصل إلى أن معظم آراء الأوربيين عن أمريكا غير صحيحة وإذا فرضنا أنها كانت صحيحة فكيف يفسر الأوربيون أن موسوليني وهتلر ومحاكمات موسكو ومعسكرات الاعتقال والاضطهادات العنصرية والغستابو... الخ، فكيف نفسر أن كل هذا حدث في أوربا لا في أمريكا؟ ويضع تساؤلا أساسيا يفصح عن جوهر نقده للتعصب الاعمى ضد أمريكا: فكيف استطاعت أمريكا أن تحافظ دائما على سلامة مؤسساتها الديمقراطية حتى لو تعرضت للتهديدات والمخالفات ونجحت في عدم الوقوع في الفاشية بينما اجتاحت انظمة الحكم الدكتاتورية الجزء الأكبر من تاريخ اوربا في القرن العشرين؟ ويضع ريفيل الاراء السائدة على طاولة المفارقة بقوله: إذا صدقنا جميع الاراء المقبولة بصورة طبيعية فان جميع اسباب الفاشية كانت ولا تزال مجتمعة في امريكا ولكنها صدفة وبطريقة مبهمة لم تزدهر الا عندنا! وبعد أن يضرب الكثير من الأمثلة المقنعة يصل ريفيل إلى استنتاج سيكولوجي رئيس يفضح الطابع المتحيز للعداء لأمريكا حيث يذهب إلى (أن العداء لأمريكا يعزز حينا شعورنا بالتفوق الفكري والخلقي، ويرفض حينا الإقرار بما يمكن أن يؤثر في حكم مسبق، فيظهر هذا العداء عند ذلك، براعة لا حدود لها، في تفسير أية حقيقة كانت، بشكل متحيز). في نظر ريفيل كانت وظيفة المعاداة لأميركا هي السماح لأوربا والحركة اليسارية في أوربا بتنقية أنفسها من كافة الاخفاقات الأخلاقية والأخطاء الايديولوجية وبهذا المعنى عملت معاداة الأميركية بمثابة طريقة تضمن بها فرنسا حماية ثقافتها. بين بؤس المعادين وبؤس المعاداة ويذهب المثقف الفرنسي جاك جوليار- وهو مدير التحرير لمجلة لونوفيل ابسرفاتور الأسبوعية الفرنسية ومؤلف (معجم المثقفين الفرنسيين1999) في مقال له حمل عنوان (بؤس النزعة المعادية لأمريكا) صدر بمناسبة الرد على مقال جاك دريدا (ذهنية الإرهاب) الذي أصدره لتحليل الحدث الدرامي المفاجئ في 11 من أيلول: إلى انه لا جديد في انفجار النزعة الفكرية المعادية لأمريكا بعيد انقصاف مركز التجارة العالمي، وانه بعد انهيار الماركسية صارت النزعة المعادية لأمريكا القيمة التي تلوذ بها الطبقة المتعلمة بآسرها وسالب كل الآمال المنقضية وربما عتبة لأوهام جديدة. وهو يرى أن بؤس القضية واحد بؤس المعادين وبؤس المعاداة وهو يهاجم الرؤية التي ترى أن عقاب الأميركيين جاء بقدر آثامهم وعوض أن يستحقوا الشفقة عن هذه البلية توجه إليهم أصابع الاتهام (ينطلق تفكيك جوليار هنا من الكتاب المقدس). كما انه يرى آر- أو يسخر بالتأكيد- أن هناك منطقا هذيانيا يصدر من رؤية تجعل الولايات المتحدة مسؤولة عن البؤس في موزمبيق أو أفغانستان، وتاريخيا حسب نظرته تماهى الحقد على أمريكا-من قبل المثقفين- ومنذ نهاية القرن التاسع عشر مع الحقد على التقدم وخصوصا التقدم التقني. ويضرب مثلا بكل من: رينان، جورج دوهاميل، وكل الذين على الضد من الايديولوجين وماركس، مرورا باوغست كونت وفكتور هيغو ممن يرون الانتقال من الشمعة إلى الكهرباء تقهقرا للأنوار. ويهاجم جوليار المثقفين الاشتراكيين الذين كانوا– من وجهة نظره- يفتنهم في الاشتراكية، السلطة وان ما سيفتنهم غدا في الإرهاب المعدي للرأسمالية ليس العداء للرأسمالية بل رعب الإرهاب! (أنظر ترجمة المقال في: ذهنية الإرهاب، المركز الثقافي العربي، 2003) معاداة الأميركية ومخالفة الأميركية إلا أن أهم كتاب حلل أسس معاداة الأميركية هو كتاب (التفرد الأمريكي) لمؤلفيه ستيفان هالبر وجوناثان كلارك وذلك في معرض تناول كتابهما لفهم عزلة أميركا المتزايدة ضمن المجتمع الدولي بعد احتلال العراق، حيث يرجعان بها إلى تجربة 200 سنة أدت فيها التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والفروق الفلسفية على نشوء مفاهيم عالمية عن أمريكا تختلف عن أدراك الأمريكيين لأنفسهم– وان يكن الكتاب يتفحص جذور هذا العداء في أوربا وبريطانيا- ويفرق المؤلفان بين مخالفة الأميركية ومعاداة الأميركية: فالأولى تنطبق على الأميركيين في حين تشير الثانية إلى غير الأميركيين. ويستشهدان بعدة تعاريف لمعاداة الأميركية منها تعريف ديفيد ستراوس (أنها انتقاد حاد للسياسات الأميركية يؤدي في الغالب إلى مظاهر عنيفة ضد رموز القوة الأميركية في الخارج) ويضيف أنها قد تشير إلى فلسفة أو إيديولوجية أو إطار مرجعي استنادا إلى افتراضات أو مبادىء تخالف الموقف الأميركي. ويشير الكتاب إلى تمييز هولاندر الانتقادات الموجهة إلى أمريكا عن معاداة الأميركية فهو يرى أن معاداة الأميركية غير عقلانية بذاتها وأنها (وليدة دافع لإيجاد كبش فداء تغذيه العديد من الاحباطات والمظالم) وفي كتابه (من مانهاتن إلى بغداد) يذهب الكاتب العربي حسن حنفي في معرض تقديمه جوابا عربيا لسؤال أمريكي: لماذا تكرهوننا؟ إلى أن سؤال الإعلام الأمريكي في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول (لماذا يكرهوننا) يوحي بأن هناك موقفا ثابتا معاديا من شعوب العالم كله تجاه الأمريكيين ينم ربما عن عنصرية أو حقد أو حسد منها وهي الفقيرة المتخلفة تجاه أمريكا- نموذج الثروة والتقدم- وهذا في رأي حنفي غير صحيح، فالشعوب تكره أمريكا ليس لجوهر ثابت لدى الشعب الكاره تجاه الشعب المكروه، بل لأسباب سياسية واقتصادية وثقافية وتاريخية محددة. ويرى أنها تنصب على السياسة الأمريكية وليس على الشعب، على الإدارة وليس على البشر. ومن جانبنا سنشير إلى هذه الأسباب المحددة التي ترتبط أساسا اليوم بالتجربة العراقية. تاريخ صناعة الكراهية (الحقيقة ثمينة إلى حد انه لا بد من حمايتها بموكب من الأكاذيب) ونستون تشرشل لقد ذكرنا في مقالنا عن (الموجة الرابعة للديمقراطية) إلى أننا لا يمكن أن نتغاضى عن عدم استجابة الولايات المتحدة لقضية الديمقراطية في منطقتنا طوال النصف قرن الأخير من القرن الماضي بل انها عملت بالضد من ظهورها وعملت على تصفيتها فمن اجل إبعاد شبح الديمقراطية عن المنطقة! تم الترويج لفكرة مؤداها ان الدول النامية– بما فيها دولنا العربية-غير مؤهلة للديمقراطية وذلك بسبب تخلفها الاقتصادي وانخفاض مستواها التعليمي أو عدم توفر الشروط التي تسمح بقيام التعددية السياسية وقد صاحب الترويج لمثل هذه الفكرة المغلوطة- والتي تم التنكر لها في ما بعد- هجوم فعلي على الديمقراطيات الناشئة في هذه البلدان عن طريق دعم الانقلابات العسكرية بل والتبرير لها بوصفها ضرورة للتحديث! وفرصة لتهيئة أرضية الاستقرار اللازمة للانتقال إلى الديمقراطية. وقد جاءت الانقلابات العسكرية- التي سميت بالثورات لتجميل وجهها الوطني- بقطار أمريكي لتقوم بتصفية الحركة الوطنية والمشروع الوطني للتحديث. وهكذا تنضم للأسباب المعاصرة للعداء أسباب تاريخية تجعل من جذور العداء تتجمع على نحو تراكمي، يضاف اليها عامل سايكولوجي هام يتمثل في أن إحدى المكونات النفسية في صياغة الشعور بالوطنية لدى شعوب المنطقة غالبا ما يعبر عنها بالشعور بالعداء للأجنبي وقد ظل مواطنو دول المنطقة في حالة كره تجاه حكوماتهم الوطنية الرشيدة! لإحساسهم بانها تمثل الأجنبي أو أنها من صنعه أو تعبر عن مصالحها الخاصة المتطابقة مع مصالح الأجنبي وبذلك ينضم إلى تاريخ كراهية المستعمر فصل جديد ملحق يفسر استمرار الكراهية له في ظل تجسده الماثل في شكل الحكومات المحلية اللا وطنية. إن مفاهيم الذاكرة الجمعية هي مفاهيم خطرة تؤجج حمم كراهية دائمة لامنظورة سرعان ما تنفجر من فوهة بركان الواقع، ومن ميراث هذه النيران كان الشعور بالعداء لأميركا يستقي جذوره. وتحولات الخطاب الإعلامي الأمريكي تقع دوما في فخ المفارقة التاريخية ولا تستطيع تجاوز التناقض الذي يتغذى على معطيات مسجلة وموثقة في الذاكرة الجمعية لسكان المنطقة، فعلاقات الولايات المتحدة مع صدام حسين في الثمانينات معروفة للجميع وكانت تدعمه وتسلّحه.. وحين صرح دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الامريكي سنة 2002، (إن نظام صدام حسين فاسد وشرير للغاية، وقد قتل عدداً كبيراً من افراد شعبه، واستعمل الاسلحة الكيماوية ضدهم.. انه أحد أشد الانظمة فساداً ووحشية على وجه البسيطة). ولكن ذلك لم يكن مهما حين كان زار رامسفيلد الدكتاتور العراقي في الثمانينات بهدف تقوية العلاقات العراقية الامريكية ويذكر بعض المؤلفين الغربيين نكتة راجت ايام الحرب الاخيرة، وتروي عن رامسفيلد انه كان يقول لكل من يرغب في الاستماع، (ان لدى العراق اسلحة دمار شامل). فسأله أحد المتشككين قائلاً: (وكيف عرفت ذلك؟). قال: (لأن إيصالات بيع تلك الاسلحة معي؟! وقد فضح الكاتب الفرنسي اريك لوران في كتابه (حرب آل بوش) العلاقة المتينة التي كانت تربط صدام بواشنطن ويتوسع في شرح العلاقات التي تربط بين عائلتي بوش وبن لادن (وصدام حسين- حسب قول لوران- مثل بن لادن عندما كان يقاتل ضد الشيوعيين عاش وازدهر بمشيئة الولايات المتحدة وتحديدا بوش ورفاقه). كما هناك تشكك عام بالسياسات الأمريكية وضعف في مصداقيتها عمقته الحالة العراقية فالتقرير الذي رفعه العراق إلى الأمم المتحدة عن أسلحته وبرامجه التسليحية، على سبيل المثال وكان يتألف من 12 ألف صفحة قامت الولايات المتحدة (بقرصنته) ثم أعادته إلى الأمم المتحدة ولم تبق منه سوى 3500 صفحة.. فما الذي حوته الصفحات الناقصة وعددها 8500؟ لقد بات مفهوما من ذلك أن الولايات المتحدة تريد إخفاء معلومات تحرج الشركات الأمريكية وإدارة بوش. والنتيجة: حصول الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن- وعامة الناس- على نسخة أمريكية مصححة، فقط، من تقرير برامج الأسلحة العراقية. تستبعد التواطؤ الأمريكي في مسألة تسليح صدام حسين. وقائع سنوات الجمر كما يتذكر العراقيون بمرارة كيف أن إدارة جورج بوش الأب قد وقّفت زحف قواتها نحو بغداد في كانون الثاني 1991 لإسقاط نظام صدام حسين– بعد القضاء على البقية الباقية من قوات الدكتاتور التي احتلت الكويت – بحجة (أن الظروف الدولية القائمة– آنذاك– لم تكن تساعد على ذلك، أو خوفا من ملء إيران للفراغ السياسي في العراق). وأعقب ذلك فصل حزين من العزلة الدولية للشعب العراقي استمر مدة تزيد على ثلاثة عشر عاما عبر فرض العقوبات الاقتصادية التي ساهمت في إضعاف المجتمع المدني العراقي وقوت من شوكة الدكتاتور وتسلطه وهكذا تم إحباط الشعب العراقي من قوة ادعت تحريره. وفي أعقاب سقوط نظام صدام وبالتحديد في آيار 2003، هبط جورج بوش بطائرته الحربية (توب غان) على سطح حاملة الطائرات ابراهام لنكولن، وأعلن بلهجة واثقة وفخورة: (في أوقات نستخدم القوة العسكرية لتحطيم أمة. ولكن اليوم لدينا قوة عظيمة لتحرير أمة عبر تحطيم نظام خطر وعدواني) هذه التصريحات التي سوقت في إطار مسرحي معد مسبقا ربما ساهمت في تسويق صورة بوش لكنها لم تفعل شيئا لتحسين صورة الولايات المتحدة إذ لم يستقبلها العراقيون بعاطفية أو بتصديق ولم يروا فيها سوى أمر للتسويق الداخلي الأمريكي لان التجربة في العراق تناقض تلك التفاؤلية التي تقف وراء الخطاب والصورة القوية للرئيس الأمريكي، أو على أقل احتمال توحي بأن (تحرير أمة) يتطلب اكثر من إسقاط نظام صدام الظالم الذي دعم من قبل الأمريكيين أنفسهم ضد شعبه وجيرانه. والصورة الإيجابية لإمبراطورية عصرنا، لن تنشأ تلقائيا لو أن الدوافع الأمريكية كانت صادقة– بنظر العراقيين-في وقت لم تعد فيه القوة العسكرية كافية لردع أعداء أمريكا، من الذين أصبحت الأراضي العراقية جبهتهم الأولى في الحرب والحرب المضادة ضد خصمهم، ومن ثم دفع كبش الفداء العراقي ضريبة الدم نيابة عن شعوب أخرى، -انظر مقالنا (كبش الفداء العراقي)- وجاء الإخفاق الإعلامي الأمريكي في تحسين صورة الولايات المتحدة ليعزز التصور المسبق عن الإعلام الأمريكي في الإدراك العراقي الشعبي الذي ساعد نظام صدام على تنميطه وهو تصور سلبي يختلط بنوع من الريبة والشك عميق وترجع بدايات تشكيله إلى زمن اعتمد فيه الأعلام الأمريكي منذ الغزو العراقي للكويت على التلفيق والتفخيم بدءا من قصة حاضنات الأطفال في مستشفى الكويت والتي كشفت على نطاق واسع لكن من الصعب محوها من الذاكرة العراقية، وصولا إلى أسلحة الدمار الشامل المزعوم أن العراق يتملكها والتي لم ينجح الخطاب الإعلامي في تغطية العجز السياسي الأمريكي عن تقديم تبرير بديل أو شاف. ولم يكن مجرد التخلص من حكم صدام الدموي بكاف لإنسان تتعرض حياته يوميا لألوان الدمار والإذلال بل أن خطابا مضادا يصاغ منذ سقوط النظام البائد نجح في غزو الضمير الشعبي إزاء الفشل الأمريكي في العراق وعدم النجاح في تحقيق الاستقرار وتوفير متطلبات الأمن والحياة التي شكلت وعدا زائفا أدى إلى رد فعل معاد للخطاب الإعلامي ومن ورائه للوعود الأمريكية السياسية. صلاة الشكر لمنحة الفوضى! يتصاعد اليوم وبعد إسقاط النظام الدكتاتوري ارتباط سكان المنطقة بعذاباتهم التي طالما غفل عنها الإدراك الأمريكي ويستنكرون داخل نفوسهم موقف الإدارات الأمريكية التي ظلت على الدوام تأخذ جانب الطغاة والمستبدين وتساندهم ضد شعوبهم بل إنها كثيرا ما تنكّرت للأنظمة الديمقراطية وعملت على الإطاحة بها، ولهذا فلا عجب أن تكون الكراهية التي تكنها للولايات المتحدة بعض الشعوب المظلومة عميقة وتحتاج معالجتها إلى طول صبر وسياسات ثابتة واستراتيجيات ذات جدوى وليس مجرد التسويق الدعائي الأعمى عن مجريات الواقع. فالوضع بعد الظفر بالحرب يضحى مطحونا بالصراع بين البنتاغون ووزراة الخارجية وكأنه ساحة خلفية لتلك الوزارتين وهو صراع ذو جذور ترجع لعام 1991 وكيفية معالجة الوضع العراقي بحيث أصبحت السياسة تجاه العراق مثل بيضة القبان بينهما على حد تعبير الكاتبين (ستيفان هالبر وجوناثان كلارك) ونجم عن ذلك التخبط في مجيء غارنر ليحاول إدارة العراق لفترة معينة- يلفها الغموض- وفجأة يغادره دون أسباب تذكر وأحوال العراقيين في خط بياني يأخذ في الانحدار ودول الجوار تنتظر فرصتها الذهبية للتدخل في الشأن العراقي. (غارنر يغادر وبريمر يأتي ليزيد الأمر سوءا). بريمر يصدر قراراته الشهيرة التي كانت وبالا على استقرار البلاد يحل الجيش ويحل بعض الوزارات ومنها الإعلام دون استيعاب حقيقي لدور الإعلام كوزارة ومؤسسات وتأثير يومي في صياغة الإدراك المباشر للواقع بالنسبة لرجل الشارع العراقي. لقد فشل بريمر في إدراك هذا الدور وتوظيفه لصالح التسريع في تشكيل العراق الجديد دون المرور بدوامات كثيرة مثل دوامة العنف ودوامة الحكومات الانتقالية غير المؤهلة لموجة إعادة الأعمار ودوامة التدخل الخارجي في الأمر العراقي. من هنا بدأت فصول مأساة جديدة غذت أسباب العداء بوقود يومي جديد. مما جعل من السخرية أن تمن الولايات المتحدة على سكان المنطقة بالتحرير أو تدعي قدرة عجائبية لتحويل مجتمعاتهم إلى نسخة أمريكية فكثير من العراقيين مؤمنون بأن الأشياء التي قدمها الأمريكيون للعراقيين، لا تختلف عن خطوط السكك الحديدية التي مدها الإنجليز في بعض مستعمراتهم. فتلك أمور أريد بها خدمة الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وإذا ما أفادت الناس بصورة أو أخرى، فلا ينبغي أن يتم التعامل معها بحسبانها فضائل موجبة لتحسين الصورة الأمريكية التي يمزقها التناقض بين السياسات المنفذة على الأرض والادعاء الإعلامي الذي يحاول التجمل بها، بعيدا عن الشيء الحقيقي الذي قدمه لنا وهو منحة الفوضى التي غرقنا بها. القلب الزجاجي المكسور كما أن الطبقات المسحوقة تحس أن بلدها لم يعد ملكا لها وانه يعرض للبيع، إنها حقيقة تستجيب لعنوان من قبيل (العراق للبيع) وان البلاد لم تعد ملكا لهم. وهو بالمناسبة قريب من عنوان اختارته صحيفة (الاندبندنت) البريطانية والذي يقول: (أمريكا تعرض العراق للبيع). وهي صياغة قد يستجيب لها المتلقي العراقي لأنها تشرح إحساسه أكثر من استجابته لعناوين صحيفة (نيويورك تايمز) مثلا الذي يقول: (العراق يطرح قوانين تحث على الاستثمار من الخارج). فالعراقيون تعودوا على وجود سلطة قوية تسيطر على كل شيء ولا يفهمون بسهولة الدوافع لخصخصة وبيع قطاعات كاملة من الاقتصاد العراقي، من الاتصالات عن بعد، حتى المصارف والبنوك. وصار بوسع الشركات الأجنبية أن تشتري 100% من الشركات العراقية وان ترحل جميع الأرباح إلى الخارج؟!! في حين تبقى البلاد أشبه بمستودع خلفي للنفايات الإيديولوجية والعسكرية وساحة للإحتراب بين جهات لا علاقة للشعب العراقي بها. وفاقم من تشويه صورة الولايات المتحدة ما حدث من فظاعات في (أبو غريب)، فعلى الرغم من توجيه الرئيس الأمريكي جورج بوش رسالة عبر عدد من قنوات التلفزيون العربية لمحاولة استعادة ثقة العرب والعراقيين بعد الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الأمريكية في سجن (أبو غريب) بالعراق. فإن تلقي الرسالة لم يكن كاملا لجميع العراقيين ولم تنجح في إيصال اعتذار أو تبرير ملائم. وقد قال متحدث باسم الرئيس الأمريكي: "إنه سيقول إن ما قام به الجنود غير مقبول ومعيب. ولكن هل هذا كاف بالنسبة للعراقيين؟! وقال المتحدث باسم البيت الأبيض سكوت ماكليلان أن الرئيس وافق على إجراء مقابلات معه في قناة الحرة الأمريكية الناطقة بالعربية وفي قناة العربية وقال ماكليلان: (هذه فرصة للرئيس للحديث مباشرة إلى الدول العربية ليبين لها أن الصور التي شاهدها العرب غير مقبولة ومعيبة كما أن هذه الصور لا تمثل قيم أمريكا ولا تمثل المثل العليا التي تلتزم بها قواتنا)، كما كان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد قد قال أن المسؤولين عن السلوك (غير المقبول الذي لا ينسجم مع القيم الأمريكية) سوف يقدمون للمحاكمة كما أدان الانتهاكات التي تعرض لها أسرى عراقيون على أيدي جنود أمريكيين واصفا إياها بأنها (سلوك غير أمريكي وغير مقبول بأي حال)، وتعهد رامسفيلد في مؤتمر صحفي باتخاذ كل ما يلزم لعقاب من قاموا بهذه الانتهاكات، مشددا على انهم انتهكوا بسلوكهم هذا قواعد السلوك في الجيش الأمريكي، وخانوا الثقة التي أولاهم إياها الشعب الأمريكي. ولكن أحدا لم يتحدث عن ثقة الشعب العراقي مع إنها الفيصل الأساس بالقضية؟! المسؤولون الأمريكيون لا يقدرون الضرر الذي لحق بالسمعة الدولية لأمريكا جراء ذلك وحين رد السيد رامسفيلد على سؤال حول الضرر الذي ألحقته هذه الصور بمصداقية الولايات المتحدة دوليا، اقر رامسفيلد بأنها أوقعت ضررا بالفعل، إلا أنه أضاف أنها تظل حالة استثنائية. وهذا تخفيف من حدة الأضرار الواقعة بل إنكار لها. هل يمكن لهذه الأسباب والموجبات العميقة أن تتغير بفعل التوجه الأمريكي متعدد المسارات؛ الذي يوفر مخصصات مالية سخية من الكونغرس لصالح برامج الإعلام الخارجي دونما تأثير عميق؟!! الصورة الممزقة وصناعة الأعداء لقد أعرب الرئيس الأمريكي جورج بوش عن استيائه من الإعلام العربي ووسائله بسبب انتقاده للولايات المتحدة، واخذ على عاتقه مهمة التصدي له من خلال تعيين السيدة كارن هيوز مستشارته المقربة، لكي تقوم بمهمة تحسين الصورة الأمريكية في الخارج. ومن تصريحاته يفهم جانبان: الأول هو كيفية التصدي لهذا الاعلام، والثاني هو كيفية تحسين الصورة الامريكية في الخارج. ولكن كيف يمكن تجاوز ملاحظات من قبيل ان الصحف البريطانية والاوروبية الاخرى مليئة بالمقالات التي تتهجم على الرئيس بوش وادارته، وتتهمه بانه مجرم حرب يقود العالم إلى الكوارث، ولكن الرئيس بوش غير مستاء من هذه الصحف، ولا من كتابها، ولكنه لا يتورع عن انتقاد الاعلام العربي ورصد المليارات لتغيير نبرته ولكنهم يغفلون عن التحديات التي تواجه المنطقة وضرورات اصلاحها التي ينبغي اقناع المواطن العربي بجدواها. لذا فإظهار مدى جدوى هذه الاصلاحات هو ما يجب ان يركز عليه الخطاب الاعلامي الامريكي في هذه الفترة الحرجة. وتلك مهمة ليست باليسيرة وسط جو عام معاد فالرئيس بوش اعترف بأن أسباب موجة الانتقادات الإعلامية لبلاده راجعة إلى صداقتها القوية مع إسرائيل، وصرح بأنه لن يتخلى عن هذه الصداقة مطلقا. وهذا الأمر لا يزال الكثيرون لا يستمرئونه وهم يرون الفضائيات العربية تنقل يوميا الفظاعات الإسرائيلية والتأييد الأمريكي لها. أما عن الصورة الأمريكية فهي سيئة ليس في المنطقة العربية فقط. وإنما في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك أوروبا، وكل أموال العالم لن تنجح في إصلاحها، طالما استمرت السياسة الأمريكية الراهنة على حالها. وكيف يمكن التوقف عن كراهية الإدارة الأمريكية وهي تعين اكبر عدو للأمم المتحدة جون بولتون مندوبا لها فيها، ومكلفا بمهمة إصلاح هذه المنظمة الدولية. واكبر مهندس للحرب على العراق وأفغانستان بول وولفوفيتز رئيسا للبنك الدولي، الذي من أبرز مهماته مكافحة الفقر ومساعدة مليار إنسان في العالم يقل دخلهم عن دولار في اليوم على العيش حياة كريمة؟! تواجه الولايات المتحدة اليوم ظهور تحديات حقيقية وتبرز ضرورة لدور إعلامي جديد وصياغة لخطاب إعلامي متوازن ومدروس لكسب ود الشعوب العربية والمساهمة في بلورة عملية التغيير نحو الديمقراطية ومجابهة الإرهاب في المنطقة العربية ولكن هل تراها ستنجح طبقا لنمط أدائها الحالي؟ نشك في ذلك لأسباب كثيرة ويكفي أن نتأمل في بعض الوقائع التي يوحي الفشل المرتبط بها بغياب الرؤية والتعامل الفوقي الغافل عن الإمساك بإطار الصورة التي تشكل الواقع وليس تمزيقها على خلفية من التعنت والصلف اليوتوبي. وتلميع صورة الولايات المتحدة لن ينجح عبر استراتيجية الاداء الإعلامي الحالية فما نحن بحاجة حقيقة له بالنسبة للقضية العراقية تحديدا هو إعادة بناء العقل العراقي وتشفيف القلب العراقي بدلا من قصف العقل العراقي بالمنتجات الثقافية الامريكية السطحية والتطبيل على مشاعر القلب العراقي المجروح بتاريخ دكتاتوريات الرعب وفوضى الحروب الدولية والاقليمية والمحلية ومنجزات الدمار الرهيبة. ونختتم موضوعنا بنصيحة الكولونيل المتقاعد دوغلاس إي. ماكريغور الذي قال بصدد تصرفات الجيش الامريكي في العراق (لقد ألقينا القبض على أناس أمام أسرهم، وجررناهم بعيدا وأيديهم مكبلة بالأصفاد والأكياس تغطي وجوههم ثم لم نوفر معلومات لعائلات اولئك المحتجزين........ ولم تكن نسبة 90 بالمئة من هؤلاء من الأعداء، أما الآن فقد اصبحوا كذلك) * مدير مركز المشرق للدراسات الاستراتيجية - رئيس تحرير مجلة مسارات. |
رؤية مقترحة للتعاطي مع نزعة التجاوز لمحات من سيرة الامامين العسكريين (ع) التنوير العراقي بين جدلية الدولة مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي الأ بعاد الروحية للشعائر الإسلامية محمد علي شمس الدّين وألـفـة المكان الشّعري |
||||
|