|
|||||
|
|||||
آفاق الثقافة والحضارة الإسلاميتين وإمكانيات تنميتهما حوار مع الاستاذ زكي الميلاد حول التاريخ والحضارة والثقافة |
|||||
أجرى الحوار: المهندس غريبي مراد عبد الملك* |
|||||
تحاور النبأ المفكر الإسلامي زكي الميلاد حول واقعنا الثقافي الإسلامي وآفاق هذه الثقافة، وما تنهض به من مسائل حضارية، وقد عرفنا زكي الميلاد المثقف المنفتح مؤمنا بالحوار ضليع بكنه الثقافة والحضارة الإسلاميين والعلائق التي تشد أصرهما ومكانهما في حاضرنا. النبأ: أستاذي الفاضل، يقال أن التاريخ حقائق وأسرار، فهل الثقافة والحضارة كذلك؟ الثقافة والحضارة فكرتان تعبران عن روح ومنطق وفلسفة التاريخ، اللتان بواسطتهما يتحدد المعنى الكلي والمنطق التركيبي للتاريخ، بحيث يكون من الممكن النظر إلى التاريخ ليس باعتباره حوادث ووقائع سيالة ومتناثرة، لا رابط بينها، ولا تفاعل أو اتصال، وإنما باعتبار أن تلك الحوادث والوقائع محكومة بسنن وقوانين عامة وكلية، تنطبق على جميع الثقافات والحضارات والمجتمعات القديمة والحديثة، البائدة والسائدة، النامية والمتقدمة، القوية والضعيفة. ويمكن القول أن الثقافة والحضارة هما من حقائق التاريخ وأسراره، بمعنى أن الثقافة لازمت الإنسان منذ وجوده على هذا الكوكب، وكل ثقافة بطبيعتها تتطلع إلى الحضارة. وهما من أسرار التاريخ بمعنى أن العودة إلى التاريخ تعد ضرورية في تكوين المعرفة بهما. والرؤية التي تستحق الانتباه في العلاقة بين الثقافة والحضارة، تتحدد في منظورين متقابلين، الأول ما يذهب إليه المفكر الألماني اشبنجلر في كتابه الشهير (تدهور الغرب)حيث يرى أن الغرب أنجز مرحلة الثقافة، ودخل في مرحلة الحضارة، وبذلك فإن الغرب دخل مرحلة التدهور والانحطاط حسب تحليله. المنظور الثاني ما أذهب إليه، في أن الحضارة الإسلامية فقدت الحضارة، ولم تفقد الثقافة، وما بقيت الثقافة إلا بوجود القرآن الكريم. ومع وجود الثقافة فإن العالم الإسلامي سوف يظل يتطلع دوماً إلى الحضارة. مجلة النبأ: نستهل حوارنا بالسؤال عن مشروعكم الثقافي الذي تعملون على بعثه منذ أكثر من عقدين من الزمن ما هي ملامح ومكونات هذا المشروع؟ هو اجتهاد في بلورة ما يمكن أن نسميه بمشروع ثقافي، والمقصود به محاولة تحديد تأطير المؤلفات والكتابات والمشاركات في اتجاهات محددة، وبصورة تراكمية، ومتنامية ومتجددة قدر المستطاع. وقد وجدت من مجموع المؤلفات والكتابات والنشاطات، ومن طبيعة الميول والرغبات والتطلعات، وبعد زمن من الاشتغال الذي لم يتوقف أو ينقطع في المجال الثقافي، إن ما يمكن تسميته بمشروع ثقافي يتحدد في أربعة أبعاد أساسية: البعد الأول: التأكيد على قيمة الثقافة، والإعلاء من شأنها، والاستلهام منها، والتخلق بها، واعتمادها كمنظور في التحليل والنقد والاستشراف، مع التركيز على الجوهر الإسلامي للثقافة، والاهتمام بأبعادها الإنسانية والأخلاقية والحضارية. البعد الثاني: دراسة الفكر الإسلامي، وتكوين المعرفة بقضاياه ومسائله ومقولاته، و تطوراته وتحولات ومسلكياته، والتأكيد على ضرورة التواصل مع العصر، ومواكبة المعارف والعلوم الحديثة، والانخراط في حركة العالم. البعد الثالث: الاهتمام بالمسألة الحضارية، التي تعني النظر إلى القضايا والظواهر والمشكلات على أساس منهج التحليل الحضاري، الذي يأخذ بعين الاعتبار مشكلات التخلف من جهة وضرورات التقدم من جهة أخرى. البعد الرابع: الاهتمام بقضايا الوحدة الإسلامية والحوار الإسلامي والتقريب بين المذاهب الإسلامية، واعتبار وحدة الأمة من الضرورات المقدسة، والواجبات العليا. مجلة النبأ: لقد كتبتم طيلة العقد الأخير من القرن العشرين وحتى الآن، عن أسئلة العصر الحضارية (العلم، الثقافة، الحضارة، الحداثة، الحوار، التعايش، التجديد، الإصلاح، العولمة، المعرفة، الإرهاب، الديموقراطية، التسامح، والسلم، والسلام...الخ )وما هنالك من مواضيع الساعة، هل بنظركم الفكر الإسلامي تمكن بما فيه الكفاية من الإجابة على هذه الأسئلة الكبرى في مضمار الفكر العالمي؟ من الصعب الادعاء بأن الفكر الإسلامي قد تمكن بما فيه الكفاية من الإجابة على مثل هذه الأسئلة الكبرى، خصوصا وأن هذه الأسئلة، لها طبيعة متجددة من جهة، ولها طبيعة تراكمية من جهة أخرى، ولها طبيعة تعددية من جهة ثالثة. ولهذا فإن هذه الأسئلة ستظل دوما تفرض حالها، وسوف يظل الفكر الإسلامي بحاجة دائمة لأن يجدد ويراكم إجاباته على تلك الأسئلة. والمهم في هذه الإجابات هو أن تصبح مفاتيح الفكر الإسلامي للنفوذ إلى العصر، والانخراط في حركة العالم، ولاكتشاف الطريق إلى المستقبل، وبناء الحداثة المستقلة، والاستقلال الحضاري في إنجاز مهام التمدن والتقدم. لذلك لا ينبغي أن نستهين بتلك الأسئلة، ونتعامل معها بسطحية أو سذاجة، فهي تتطلب أن ينجز الفكر الإسلامي ما يمكن أن نسميه بالثورات المنهجية، ويتقدم خطوات بعيدة وعميقة نحو التجديد المعرفي، والعمل بمفهوم الاجتهاد الذي يستدعي استفراغ ما بالوسع من طاقة، وبذل أقصى الجهد في البحث والنظر والتحليل والنقد، وفي الاستنباط والإبداع والتجديد. والإسلام كعقيدة وشريعة وأخلاق، وكحضارة وتراث وتاريخ، فيه من التجلي والتخلق والثراء ما يمكن الفكر الإسلامي على الاستنباط والاجتهاد والاكتشاف، بالمستوى الذي يعطيه القدرة على إنجاز تلك المهام، وفي مضمار الفكر العالمي وليس خارجه. مجلة النبأ: التنمية الثقافية، الإصلاح، التجديد، السلم، الحوار واللا عنف والوحدة، مفاهيم مشتركة مع مفاهيم أخرى ضمن الإطار الحضاري العام، ما الذي تعنيه التنمية الثقافية كعامل رئيسي للبناء الحضاري في الفكر الإسلامي؟ وما موقعها في سلم الأولويات الإسلامية الراهنة؟ هذه المفاهيم المشتركة ينبغي أن تدعونا إلى الانفتاح على الثقافات والمعارف الإنسانية، فالحكمة هي دوما ضالة المؤمن، وهو أحق بها أنى وجدها، ولا بد من الاستماع إلى كل ما يحمل صفة القول، لانتخاب الأحسن وإتباعه، بتحكيم قيم الوحي، وقيم العقل، مصداقا لقوله تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) الزمر، آية 18. فالحكمة بحاجة إلى من يبحث عنها، ولا يجوز الادعاء بأننا من يمتلك الحكمة دون غيرنا، ففي هذه الحالة لن تكون الحكمة هي ضالة المؤمن، فالحكمة موجودة بين كل البشر بدون أي وصف أو تحديد، هي موجودة في كل عقل، وتنبعث من كل فطرة. أما التنمية الثقافية فنحن أخر من يلتفت إليها، ويفكر فيها، ويخطط لها، ويستشرف من خلالها. في حين أن العالم اخذ يلتفت بعناية كبيرة لهذا النمط من التنمية، كما ظهر وتجلى في التقرير البديع للغاية الذي حمل عنوان (التنوع البشري الخلاق) الصادر عام 1995م، من إعداد اللجنة العالمية للثقافة والتنمية. وقد حاول هذا التقرير أن يلفت بقوة إلى أهمية وعظمة الثقافة، ويرفع من شأنها ومنزلتها، ويعطيها درجة عالية من الأولوية. واعتبر التقرير في مفتتح ملخصه: أن التنمية إذا انفصلت عن سياقها الإنساني والثقافي، تصبح كائنا بلا روح، وأن التنمية الاقتصادية هي جزء من ثقافة أي شعب، والثقافة هي منبع تقدمنا وإبداعنا. ونحن ما لم ندرك أهمية وعظمة التنمية الثقافية، فلن نبرح مكاننا، ولن يتغير موقعنا، أو تتبدل صورتنا في العالم. مجلة النبأ: في خضم مساءلة الفكر الإسلامي عن التنمية الثقافية، ترتسم في الواجهة إشكالية المثقف ونظائرها (الفقيه، الملتزم، الطوباوي، الحداثي، وأضدادها) وهذا المبحث سبق وأن أغنيتموه بالتحليل والمناقشة في معظم كتاباتكم وبإسهاب، لكن الأمر الذي يحضرني الآن هو نموذج فريد من نوعه في عالم الثقافة العربية والعالمية المفكر والناقد الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، صاحب كتاب (صورة المثقف (حيث كان في هذا الكتاب صارما جدا مع شخصية المثقف، حتى قيل في الغرب إنه غرق في سحر الإبداع النقدي. هل لكم أستاذي الفاضل أن تتفضلوا بموازنة بسيطة لاسم المثقف على غرار وضوء المخاض العسير الذي عاشه المثقف العلماني إدوارد سعيد فترجمه في تمثيلاته التي وردت في هذا الكتاب؟ لقد وجدت فعلا أن ألمع صورة للمثقف تلك التي حاول تشكيلها إدوارد سعيد في كتابه البليغ (صور المثقف)، ولعله أكثر كتاب يحرج المثقف العربي، وينتقص من قدره، ويعيب عليه رؤيته لذاته ودوره، لأنه قد لا يجد نفسه متمثلا في الصورة التي حاول إدوارد سعيد الدفاع عنها، والتبشير بها، وفي تأكيد تلك النزعة الأخلاقية الشفافة، والروح النقدية الشجاعة، والتغلب على إغراءات السلطة والثروة والمكانة. أما المثقف الذي أحاول الدفاع عنه، فهو المثقف الديني، الذي يتخذ من الدين مرجعية له، ينطلق منها، وينتظم فيها، ويتحاكم إليها، وهو مثقف الحضارة الإسلامية. بمعنى أن المثقف الذي أنجبته الحضارة الإسلامية، كان مثقفا دينيا بطبيعته، فالفارابي وابن سينا والبيروني وابن رشد هؤلاء وغيرهم كانوا مثقفين دينيين. في حين أن مثقف الحضارة الغربية كان مثقفا غير ديني، وهذا النموذج للمثقف الديني هو الذي شكل صورة المثقف في العالم العربي والإسلامي، ومن هنا نشأة أزمة المثقف في المجتمعات العربية والإسلامية. والدفاع عن المثقف الديني جاء في مرحلة أعلن فيها هذا المثقف عن حضوره في الحياة الفكرية والثقافية، فقد كان تعبيرا عن انخراط شريحة من المثقفين الدينيين اللامعين، الذين ساهموا بتقديم أعمال وكتابات لافتة وخلاقة. لكن الذي وجدته منذ أن طرحت مفهوم المثقف الديني، هو أن بعض المثقفين يتحرجون من التعامل مع هذا المفهوم، ولعل منشأ هذا الحرج في أمرين: الأول: الحرج من التعامل مع الدين بصفة عامة، إما بسبب عدم امتلاك المعرفة الدينية، وإما لغياب المعرفة الدينية عن المجال الثقافي. الثاني: أن هذا الاقتران ليس مألوفا، ولعله ليس مرغوبا فيه أيضا عند شريحة واسعة من المثقفين. مجلة النبأ: ما هي بنظركم السبل الكفيلة بجعل المجتمع الإسلامي قادرا على البقاء في المستقبل، وأكثر قدرة على التجديد والإبداع وتطوير ثقافة الإصلاح؟ القدرة على البقاء بحاجة إلى إرادة وفعل وإنجاز. بحاجة إلى إرادة للتغلب على الشعور بالضعف والعجز والإحباط، وهذا الشعور من أشد العوامل فتكا وتدميرا للأمم والمجتمعات، وبحاجة إلى فعل يكون انعكاسا لتلك الإرادة، وتجسيدا لها، لأن البقاء بحاجة إلى أفعال وليس مجرد أقوال، فإن أكبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.والعمل هو الذي يرى ويظهر وليس مجرد الأقوال (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ـ التوبة105ـ ولأن العمل هو الذي يبقى وببقائه نمتلك القدرة على البقاء، وبحاجة إلى إنجاز يظهر المستوى الكيفي والنوعي لذلك العمل، لأن العبرة ليس بكثرة العمل، وإنما العبرة بنوعية العمل وصلاحه وإصلاحه. هذه العناصر الثلاثة: الإرادة والفعل والإنجاز، هي أطوار متصلة ومتكاملة، فالإرادة هي انبعاث الروح من الداخل، والفعل هو تمثل وتجسيد لتلك الروح في الخارج، والإنجاز هو تحويل الفعل من كم إلى كيف، ومن تكديس إلى بناء، ومن عمل إلى صناعة. كما أن القدرة على البقاء تتطلب القدرة على التجديد، لأن الحياة في تغير مستمر، ولأن العلم في تراكم متصاعد، ولأن العالم في تحول مستمر، وتحول سريع ومتقلب، لذلك لا بد من امتلاك القدرة على التجديد.والقدرة على التجديد بحاجة إلى ثقافة ينبعث منها التجديد، وتحرض عليه، وتحافظ على ضبطه والسيطرة عليه. مجلة النبأ: صدر لكم عن مؤسسة اليمامة الصحفية بالرياض كتاب بعنوان (نحن والعالم...) هل كلمة “نحن” إبتكارية بما فيه الكفاية لإثارة الوعي الإسلامي، أم أنها رمزية إنسانية فقط؟ لعلنا الأمة التي هي بأمس الحاجة إلى أن تجدد في رؤيتها إلي العالم، وتجتهد في بناء رؤية جديدة. فقد تغير العالم بصورة لم تحدث من قبل في التاريخ الإنساني، وأصبحت وتيرة التغير سريعة ومتصاعدة في العالم، الوضع الذي يدفع بقوة إلى إعادة النظر في رؤية العالم. فالعولمة قد دخلت حياتنا، وجعلت من العالم حاضرا ومؤثرا في حياة الناس، وباتت العامل الأكثر تأثيرا في مجريات حياة الناس الخاصة والعامة. والعولمة هي التي جاءت بالعالم إلى الناس، وانتصرت لعامل الزمان على عامل المكان، وأصبح العالم وكأنه يعيش على إيقاع زمن واحد، كما جعلت العلم ينتصر على الجغرافيا بعد ثورة المعلومات، والتطورات المذهلة في تكنولوجيا الاتصالات، وشبكات الإعلام. ولأول مرة أصبح الحديث عن العالم وكأنه حديث عن القرية أو المدينة، أو عن البلد أو الوطن الواحد، وهذا يكشف عن مستوى التغير والتحول الذي حصل في العالم، وفي منظورات الرؤية إلى العالم. وجميع الأمم انشغلت بصورة من الصور في تجديد رؤيتها إلى العالم، إدراكا منها أن العالم قد تغير، ودخل عصر التغير، فهل نحن انشغلنا أيضا بتجديد رؤيتنا إلى العالم. من هنا جاء الحديث عن نحن والعالم. مجلة النبأ: لقد تحدثتم في بداية الحوار عن مشروعكم الثقافي بشمولية، لكن كما تعلمون أن العطاء الحضاري العام يستدعي عملية أعمق وأصعب ألا وهي عملية التثاقف، وما لها من محاسن ومساوئ فما هي مرجعية ومنهجية التثاقف في مشروعكم الثقافي، بغض النظر عن آلياته؟ التثاقف هو عملية تبادل التأثير الثقافي، وتحدث بطريقتين، بطريقة طبيعية لا تدخل فيها لإرادة الإنسان ولا تأثير، وبطريقة إرادية ومنهجية. في الطريقة الأولى هناك تثاقف يحدث طبيعيا بين الثقافات، فجميع الثقافات الإنسانية تتبادل التأثير فيما بينها، وتأخذ من بعضها بعضا بصورة غير ظاهرة أو مرئية، وعلى طول الخط، وبشكل دائم ومستمر، وبدون أي تحديد كمي لهذا التبادل، أو تصنيف كيفي له. وحسب الدراسات الثقافية الحديثة فان الثقافات لا تتسم بالعزلة ولا بالجمود، بل تتسم بالتفاعل والتطور. ويكفي أن نبرهن على هذه الحقيقة بما نراه في تركيبة اللغات الإنسانية الحية حيث لا نجد واحدة من هذه اللغات تخلو من الاقتباس اللغوي، ومن وجود كلمات تنتمي إلى لغات أخرى. وفي الطريقة الثانية يجري التثاقف بشكل اختياري، ويكون موجها بطريقة معيارية، وينطلق من خلفيات محددة، وفي تقديري أن التثاقف ينطلق من قاعدة أن أعلم الناس من علوم الناس إلى علمه، وأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، كما جاء في حديث شريف. والعلم ينبغي أن يطلب ولو كان بالصين. وأن الله تعالى فطر الناس على فطرته ولا تبديل لخلق الله. وأن الذين يستمعون القول هم الذين يتبعون أحسنه، هذا هو الاستدلال الشرعي على ضرورة الانفتاح والتواصل والتثاقف مع العلوم والثقافات والمعارف الإنسانية. مجلة النبأ: لو تسمحون أن نعرج قليلا باتجاه نموذج من نماذج الفكر الحضاري الإسلامي، هو الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، واحد ممن درستم أفكاره وتجربته وآفاق مشروعه الثقافي، حيث يقول في كتابه (مشكلة الثقافة- الصفحة119 ) من أول خطوة في طريقنا نجد أنفسنا أمام اختيار رئيسي، فإما أن نعرف الثقافة وسيلة للإمبراطورية، وإما أن نعرفها طريقا إلى الحضارة)من هنا يظهر أن هناك مأزقا مفاهيمي غالبا ما نتجاهله بشكل يجعل من الصعب علينا السير قدما في مشروعنا الحضاري، إنه بتعبير علمي أدق، سر تطوري، ما هو الفرق بين الثقافة والتثاقف وأين تكمن مساحة التوافق بين المفهومين؟ أم أن كلاهما جزء لمركب؟ أراد الأستاذ مالك بن نبي من هذه المقولة، الكشف عن أن الطبيعة النفسية لكل أمة تؤثر في توجيه وتحريك ثقافتها، فإذا كان الإغريق والرومان قد سارا كل في طريق، فان ذلك لم يكن ابتداء نتيجة اختياري، وإنما اتجها بكل بساطة إلى ما تميل إليه طباعهما، فنوع الثقافة يتحدد في كل شعب تبعا لحتمية منبعثة من نفسيته، وعلى أساس هذه النفسية اتجه الرومان نحو الإمبراطورية، بينما فرغ الإغريق لتحقيق معجزتهم في صورة حضارة. أما الفرق بين الثقافة والتثاقف، فإن الثقافة ناظرة إلى الداخل، والتثاقف ناظر إلى الخارج. الثقافة ناظرة إلى الذات، والتثاقف ناظر إلى الآخر. وكل ثقافة بحاجة إلى تثاقف، حاجة إلى الكسب، وحاجة إلى العطاء. بغض النظر عن طبيعة هذه الثقافات من حيث القوة أو الضعف، أو من حيث التقدم أو التراجع، بمعنى أن كل ثقافة لا تكتمل بذاتها كليا وبشكل تام ومطلق، وإنما هي بحاجة إلى الثقافات الأخرى، لاكتساب المعرفة والخبرة والتراث والتاريخ. لأن كل ثقافة فيها من الثراء والغنى والتخلق الذي يمكن أن تعطيه للثقافات الأخرى. مجلة النبأ: نظرا لتباين الثقافات الإنسانية واختلاف الظروف السائدة في المجتمعات والأمم، ما هي بنظركم القاعدة المشتركة التي تمكننا من التواصل مع الآخر ككل، وخدمة الإنسانية وتمكينها من معرفة الحقيقة الإسلامية الحقيقية؟ التواصل مع الآخر هو قدر وليس مجرد اختيار، وينبغي أن يعبر هذا التواصل عن حاجة إنسانية وأخلاقية قبل أي شيء أخر. وإحساسنا نحن المسلمين بالتواصل مع الآخر يفترض أن يكون جادا وعميقا لأن كل ما في الإسلام من قيم ومبادئ وأخلاق تدعو وتحرض على مثل هذا التواصل. فالقرآن الكريم دعانا إلى التعارف على مستوى الناس كافة شعوبا وقبائل، ونبهنا إلى أن الناس خلقوا من نفس واحدة، وأن الله أرسل رسوله رحمة للعالمين، وأنزل كتابه هدى ورحمة، وكتب على نفسه الرحمة. وهذا يعني أن الإنسان المسلم ينبغي أن يتسع أفقه على مستوى الإنسانية كافة، باعتبار أن الناس صنفان كما قال الإمام علي عليه السلام، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق. ومفهوم الخدمة الإنسانية هو من أعمق المفاهيم الإسلامية، لأن الدين المعاملة، ولأن الله يأمر بالعدل والإحسان، ولأن رسوله صلى الله عليه وآله قال: إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق. وبهذا المفهوم يمكن أن نقدم أفضل صورة للإسلام. فالإسلام هو دين الرحمة وليس دين العنف والقوة والكراهية. مجلة النبأ: من المسائل التي ركزتم عليها في مطارحاتكم الحضارية، مفهوم الوحدة الإسلامية، لما فيها من صالح ونفع كل المسلمين والبشرية برمتها، حيث تمخض عن ذلك ترشيحكم مؤخرا في عضوية المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ماذا عن الوحدة الإسلامية في الحاضر، وأين هي المشكلة بين المذاهب الإسلامية، ولماذا تعالت الأصوات التي تنادي بالتقريب مؤخرا؟ لدي إيمان عميق بقضايا الوحدة الإسلامية والحوار الإسلامي والتقريب بين المذاهب الإسلامية، وطالما ناديت وكتبت ودعيت إلى إحياء كل ما هو جامع في الأمة، وإلى رفض خطوط الانقسام بكافة صورها وأنماطها، واعتبرت أن التقريب بين المذاهب الإسلامية هو رسالة العقلاء في الأمة. وشاركت في ندوات ومؤتمرات حول هذه القضايا، ومنها اجتماع الخبراء الذي دعت إليه المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة-الإيسيسكو- لمناقشة استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية، وعقد في الأردن سنة 2001م. كما إني اعتبر وحدة الأمة من الضرورات المقدسة والواجبات العليا. وأن مصير الأمة ومستقبلها الحضاري يرتبط بوحدتها وتكاملها. وأقول مع الذين يقولون كالشيخ محمد مهدي شمس الدين أن وحدة الأمة هي من المقدسات وليست من السياسات، ونحن مكلفون بوحدة الأمة. وأرى أن هذا التكليف له أساس شرعي وعقلي، ويتصل بمصير ومستقبل وبقاء ووجود الأمة. والتباعد الموجود بين المذاهب الإسلامية ناشيء بصورة أساسية من أن التعارف والتواصل العلمي بين هذه المذاهب ليس كافياً من جهة، وليس نقياً من جهة أخرى. كما أن التواصل بين أهل المذاهب الإسلامية وعلمائها لا يرتقي إلى المستوى المطلوب، ولا يتناسب وطبيعة التحديات والمقتضيات في الأمة. وبروز هذه النداءات في الآونة الأخيرة كان بسبب بعض المخاوف الحقيقية التي طرت مؤخراً وكادت تؤثر على العلاقات بين المذاهب الإسلامية، وبسبب بعض التطورات الإيجابية التي حصلت في هذا الشأن. مجلة النبأ: ختاما، واضح جدا، أنه من أجمل الألطاف الإلهية أن يكون الإنسان مفكرا مؤمنا رساليا، وكل تطور جديد غير مجرب بعد، يمثل مجازفة جدية و كبيرة، والفشل في هذه الحال أخطر وأدهى، من هذا كله وفي ظل التنوع والتكتلات والعولمة والإرهاب والعنف والمعرفة والمعلوماتية وما هنالك من عناوين الحداثة والعصرنة والتحضر، أية كلمة يسجلها رئيس تحرير مجلة الكلمة الخلاقة بهذا الصدد، للشباب المسلم و لزملائه الفقهاء والمثقفين وهو الذي جمع بين الثلاثة في سن مبكرة؟ على الشباب المسلم أن يدرك طبيعة وأهمية مرحلة الشباب، فهي مرحلة القوة والحيوية وانفجار الطاقة، وعليه أن يستثمر هذه القوة والطاقة على أحسن وجه، ويحافظ عليها متوهجة، ويوجهها نحو مجالات البناء والتقدم، وبطريقة مستدامة، وبحوافز وبواعث تجعل من المستقبل أملا واعدا. ولهذا فان مرحلة الشباب هي أكثر مرحلة بحاجة إلى وعي وإدراك، لأنها مرحلة القوة والطاقة التي لا ينبغي أن تهدر، أو تعطل، أو تكبت، ولا أن تستنزف في مجالات الهدم التي لا تخدم بناء الشخصية وتكاملها، ولا ترجع بالنفع على الإنسان نفسه، وعلى أمته، ومستقبلهما. والمفارقة الخطيرة إننا في مجتمعات العالم العربي والإسلامي بين جيلين متصادمين من الشباب، في الرؤية والطباع والسلوك، بين جيل يبالغ وبإسراف في الاندفاع نحو تقمص مظاهرة الحياة الغربية، بكل صخبها ولهوها وانحرافاتها، وبين جيل يبالغ وبإسراف في الاندفاع نحو التشدد، واقتحام عالم الموت، والبحث عن مفارقة الحياة. وهذا يكشف عن أزمة خطيرة ينبغي أن نفتش عنها في الثقافة. والصورة التي ينبغي الدفاع عنها، هي صورة الشباب الملتزم بالدين، والذي يجد نفسه اجتهادا ومثابرة في ميادين العلم والمعرفة، بحثا وتطلعا عن مستقبل التقدم الحضاري في الأمة. وأما العلماء والمثقفون فهم الأكثر وعيا بذواتهم، وبالأدوار المطلوبة منهم، كما أنهم الأكثر دراية بواقع وحال أمتنا. وليس أمامنا خيار لكي نصلح حالنا، إلا أن نسعى سعينا نحو النهضة الحضارية في الأمة حتى نستعيد الأمل. الاستاذ زكي عبد الله الميلاد مواليد سنة 1385هـ - 1965م، محافظة القطيف، شرق المملكة العربية السعودية، متخصص في الدراسات الإسلامية، وباحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة، رئيس تحرير مجلة الكلمة، فصلية فكرية تصدر من بيروت، مستشار أكاديمي في المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالولايات المتحدة الأمريكية، له العديد من الكتابات دراسات ومقالات منشورة في أكثر من 40 بين دورية ومجلة وصحيفة، فصلية وشهرية وأسبوعية ويومية. وله مقالة أسبوعية ينشرها في صحيفة عكاظ السعودية، وصحيفة الغد الأردنية. * كاتب و باحث إسلامي جزائري |
رؤية مقترحة للتعاطي مع نزعة التجاوز لمحات من سيرة الامامين العسكريين (ع) التنوير العراقي بين جدلية الدولة مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي الأ بعاد الروحية للشعائر الإسلامية محمد علي شمس الدّين وألـفـة المكان الشّعري |
||||
|