مع استمرار عمليات تحرير مدينة الموصل من سيطرة عصابات تنظيم داعش الارهابي، الذي اجتاح المدينة في منتصف عام 2014، ظهرت بشكل واضح جرائم وانتهاكات هذا التنظيم الارهابي بعد تحرير اغلب مناطق المدينة من قبل إبطال القوات العراقية المشتركة، والتي منحت
سكان الموصل وكما نقلت بعض المصادر أمل في الحياة جديدة ومختلفة، بعد الخلاص من جحيم سيطرة تلك العصابات الإجرامية، التي نفذا بشع الجرائم والانتهاكات ضد ابناء هذه المدينة
وأجبرت القوات العراقية المتشددين على الانسحاب من شرق الموصل وهي تستعد لتوسعة حملتها إلى النصف الغربي من أكبر مدينة بشمال العراق. سبب هذا ارتياحا بعد حكم داعش العنيف الذي استمر لأكثر من عامين.
والموصل هي أكبر مدينة يسيطر عليها تنظيم داعش في دولة “الخلافة” التي أعلنها من جانب واحد في العراق وسوريا المجاورة. وكان التنظيم يسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي لكنها تتضاءل. وسيمثل سقوط الموصل نهاية ما يسمى بدولة الخلافة، لكن ذلك وبحسب بعض الخبراء لن ينسي ابناء الموصل معاناتهم الكبيرة في ظل حكم التنظيم وقوانينه المتشددة، فكل من خالف القواعد الخاصة بطول اللحية أو السروال كان يجلد. أما من كانوا ينتهكون حظرا لأجهزة التلفزيون والهواتف المحمولة فعوقبوا بالضرب والسجن أو أسوأ.
هاجس الماضي
وفي هذا الشأن اختفى أعضاء تنظيم داعش ممن تقل أعمارهم عن العشرين الذين استولوا على بيت محمد عبد الوهاب وروعوا عائلته على مدار ثلاثة أشهر. لكن انتصار الجيش العراقي في الحي الذي يعيش فيه في شرق الموصل لم ييسر له سبل المعيشة حتى الآن على الأقل. فقد سار هو وأسرته مثل مئات من العراقيين المتلهفين للاستقرار عدة كيلومترات في شوارع تهدمت مبانيها عائدين إلى بيتهم الذي استولى عليه التنظيم.
وقال عبد الوهاب "أعمار هؤلاء المسلحين كانت بين 12 و15 سنة. ظهروا فجأة وأشهروا سلاحهم في وجوهنا وقالوا ‘اخرجوا‘. ووضعوا قناصة على بيوتنا. وأداروا أحياءنا." وفي الاتجاه المعاكس سارت أسر استطاعت الاحتفاظ ببيوتها لكنها تهرب الآن من تجدد القتال في بعض مناطق الموصل التي لم تستردها القوات الحكومية من بعض جيوب المقاومة لتنظيم داعش. ولحق الدمار بالعديد من الأحياء في البداية على أيدي التنظيم ثم من جراء هجوم تحرير الموصل آخر معاقل التنظيم في العراق.
وقبل أيام فحسب كانت الأسر تختبئ في بيوتها في حي العربي بينما كان الجنود يشتبكون مع المتشددين في الشوارع القريبة وظهرت على صفوف من المباني آثار الطلقات النارية والأضرار التي تسببت فيها القذائف الصاروخية. وعلى امتداد الطريق الرئيسي كان النازحون العراقيون يسيرون حول حفرة هائلة ناجمة عن ضربة جوية لقوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. وتصاعدت أعمدة الدخان الأبيض بعد الضربة الأخيرة. وسارت نسوة يرتدين النقاب ويغطيهن السواد بجوار أزواجهن وقد أصاب الكل الإرهاق من جراء ما عاشوه من ترهيب وشهدوه من اشتباكات ضارية ومن نقص الخدمات الأساسية.
لم تظهر أي علامات تشير إلى وجود متاجر مفتوحة أو وجود إمدادات ضرورية يحتاجها النازحون بشدة باستثناء أن بعض النسوة كن يحملن على رؤوسهن أكياس أرز. وكان صبي يتوسل للعابرين لمساعدة جده وراح يسأل عما إذا كان الحي قد تحرر غير أنه لم يلق سوى التجاهل. وربما تلازم حالة الصدمة الكثيرين لبعض الوقت مما عانوه في ظل حكم الجهاديين الذين اجتاحوا الموصل عام 2014 دون أي مقاومة من الجيش العراقي وبدأوا يملون على الناس أفكارهم في كل جوانب الحياة بما في ذلك طول اللحى والسراويل.
ولا تزال ذكريات قطع الرؤوس والإعدامات حية في الأذهان. وقال أحد سكان المدينة اسمه محمود سليم "كانوا يرصون الناس في صف ثم يطلقون النار على رؤوسهم." وفي هذه الأيام يقف المتشددون موقف الدفاع ومن المتوقع على نطاق واسع أن تنهار دولة الخلافة التي أعلنها في العراق وسوريا إذا خسروا الموصل. غير أن من المرجح أن يلجأ المتشددون إلى شن حرب عصابات في العراق ويصبحوا مصدر إلهام لآخرين لشن هجمات في الغرب.
وبعد السيطرة على الشطر الشرقي كله من الموصل تقريبا تستعد القوات العراقية لدخول الشطر الغربي حيث يتوقع أن تكون المعركة أكثر تعقيدا. وبدت علامات الثقة على ضباط الجيش الذين كانوا يتجولون في حي العربي والأحياء القريبة منه أنه سيتم قريبا تطهير البيوت التي لا يزال يتحصن فيها متشددون استولوا عليها من أصحابها. وسارت قافلة الضباط في الشوارع الملتوية وتوقفت عند بيت كبير يطل على منطقة تنتشر فيها الأشجار. وبينما كانت طائرة هليكوبتر تطلق النار من مدفع رشاش على مخابئ المتشددين أطلق قناص النار في اتجاه الضباط. بحسب رويترز.
روى عمر العبيدي أحد الجنود الذين يحرسون الشارع الرئيسي كيف نجا بأعجوبة عندما وصل مقاتلو التنظيم إلى المدينة عام 2014 وبدأوا قتل أفراد قوات الأمن العراقية. وقال "كانوا ينقلونني بسيارة إلى موقع الإعدام وحدث شيء صرف انتباههم ففتحت نافذة العربة وهربت." ومن السهل عليه الآن أن يبتسم وهو يتذكر هذا الموقف الصعب. غير أنه يتعجب مثل الآخرين من سوء ما آلت إليه أحوال السكان هنا ويستعين بنظريات المؤامرة في محاولة تفسير كل ما حدث. ويقول العبيدي "هذه لعبة كبيرة لتدمير العراق. فعندما وصلت داعش بقوة صغيرة هرب الساسة والجيش. لابد من وجود أحد ورائهم."
غموض المستقبل
على صعيد متصل وعندما اجتاح مقاتلو تنظيم داعش الموصل عام 2014 دخلوا صالة البلياردو التي يملكها مناف يونس وأعلنوا أن هذه اللعبة حرام وأخذوا معهم كرات البلياردو ووجهوا له إنذارا شديد اللهجة. وفجأة أصبحت الصالة مهجورة بعد أن كانت تغص باللاعبين في كثير من الأحيان حتى منتصف الليل. ولمدة عامين علا التراب صور لجوائز كان يونس يفتخر بها وظلت مناضد البلياردو مغطاة. والآن أخرجت القوات الحكومية العراقية المتطرفين من شرق الموصل وأصبحت تتأهب لمهاجمة شطرها الغربي. ورغم الفرحة التي بدت على يونس مثل كثيرين غيره من أصحاب الأعمال الصغيرة في المدينة فإن هذه الفرحة يكبلها الغموض الذي يكتنف مساعيه لإعادة حياته إلى سيرتها الأولى.
وكان تنظيم داعش قد فرض تفسيره المتشدد للشريعة الإسلامية في الموصل ثانية أكبر المدن العراقية بعد أن جعل منها عاصمته الفعلية فمنع تدخين السجائر والتلفزيون والراديو وأرغم الرجال على إطالة لحاهم والنساء على تغطية أجسادهن من الرأس إلى أخمص القدمين. وقال يونس وهو يرفع تذكارا من بطولة يعيد إليه ذكريات الأيام الخوالى "أنا مفلس. اضطررت لبيع سيارتين كنت أملكهما لكي أعيش. والآن يطالبني صاحب السكن بإيجار متأخر لعامين."
قطب يونس جبينه عندما ترددت في البعد أصداء انفجارات إذ تتبادل القوات العراقية والمشتددون النيران على امتداد نهر دجلة الذي يقسم المدينة إلى شطرين. وكانت الموصل قبل اجتياحها مركزا تجاريا ومركزا للتعليم العالي. وقال يونس "هذه الانفجارات تضر بالنشاط. فهي تهز مناضد البلياردو وتخل بتوازنها." وتسبب القتال بالفعل في دمار واسع. فقد تهدمت عشرات المباني في القصف الجوي لطائرات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. وأحدث القصف حفرا ضخمة دمرت الطرق. وانهارت أسقف مبان على الأدوار السفلى. وبدت على مبان أخرى فتحات أحدثتها الصواريخ ونيران المدافع الرشاشة. ولاتزال قذائف المورتر تسقط على المدينة وأصداء النيران تتردد.
وعلى الناحية الأخرى من صالة البلياردو يقع ما تبقى من جامعة الموصل التي كانت في وقت من الأوقات من أرقى المؤسسات التعليمية في الشرق الأوسط. وقد باع تنظيم داعش المخطوطات الأثرية التي كانت بالجامعة وفرض نظاما تعليميا خاصا حظر فيه تداول كتب الفلسفة. وعندما وصل الجيش أحرق المتشددون الكثير من مباني الجامعة وتركوها أكواما من الرماد. بحسب رويترز.
وتناثرت على الأرض بضع صفحات من كتب جامعية عن علم أمراض الدم واختلطت بالركام. وفي طابق علوي حيث تقع الكافيتريا كانت الموائد والمقاعد محترقة تحت فتحات ضخمة في الأسقف من جراء الغارات الجوية. ووقف عدد قليل من أصحاب المخابز والمطاعم في الحي بلا عمل. وراحوا هم أيضا يتذكرون ما مروا به من صعوبات في ظل حكم التنظيم. وقالوا إن المتشددين وزوجاتهم كانوا يظهرون فجأة وهم يحملون بنادق كلاشنيكوف ويقفزون إلى الصفوف الأمامية ويطالبون بتخفيضات في الأسعار. وقال قصي أحمد الذي يملك مطعما إن المتشددين جروه جرا إلى سجن تابع لهم وعذبوه أربعة أشهر بعد أن اتهموه بالسرقة. وأضاف "انتزعوا أظافر قدمي." ربما يكون الجلادون قد اختفوا لكن تحديات جديدة ظهرت إذ ليس لديه أو لدى أصحاب المطاعم الأخرى مصدرا لمياه الشرب كما أن الكهرباء شحيحة ولا يوجد زبائن تقريبا.
السكان ورجال الدين
الى جانب ذلك دفعت الممارسات الاسلامية المتطرفة التي فرضها تنظيم داعش خلال سيطرته لاكثر من عامين على الاحياء الشرقية لمدينة الموصل، ببعض السكان بعد تحررهم من التنظيم الجهادي الى التعامل بسلبية مع دعوات رجال الدين الى ممارسة الشعائر الدينية. وفرض تنظيم داعش بعد سيطرته على الموصل في حزيران/يونيو 2014، قواعد صارمة مجبرا الجميع على اداء الصلاة وحظر التدخين ومنع المرأة من الخروج الا بارتداء النقاب، كما اعدم المثليين علنا وطبق قطع اليد على السارق.
واراد الجهاديون بذلك جعل السكان اكثر تمسكا بالدين، لكن النتيجة كانت معاكسة تماما بالنسبة لبعضهم. ورغم الدعوة الى الصلاة التي تعالت من مكبرات صوت احد مساجد شرقي الموصل، فان احد القصابين واصل عمله منكبا على تقطيع اللحم، الامر الذي كان مستحيلا في ظل تنظيم داعش. وقال ان "الموصل مدينة اسلامية وغالبية الشبان كانوا يؤدون الصلاة" قبل دخول مسلحي تنظيم داعش اليها، الا انه يندد بالاكراه قائلا "ارغمنا (...) وبات علينا الذهاب الى المسجد رغم ارداتنا".
وكانت المحال التجارية، قبل استعادة السيطرة على الجانب الشرقي من الموصل، تغلق خمس مرات يوميا تزامنا مع مواعيد الصلاة. وتمكنت القوات العراقية من استعادة شرقي الموصل في اطار عملية واسعة انطلقت في 17 تشرين الاول/اكتوبر. ويضيف القصاب متذكرا فترة سيطرة التنظيم الجهادي "في احد الايام، تعرض الشاب الصغير الذي كان يعمل معي ل 35 جلدة لانه لم يلب الدعوة الى الصلاة". واضاف "الان، لم نعد مجبرين على اغلاق محلاتنا (...) ان نصلي او لا نصلي، الامر يعود الينا".
ومنع الجهاديون الشيخ محمد الغانم، امام احد المساجد في شرق الموصل، من ان يؤم المصلين في مسجده لرفضه مبايعة تنظيم داعش. وبعد خروج الجهاديين عاد الغانم الى مسجده الا انه لم يعد يرى سوى قلة من المصلين. وقال في هذا الصدد "بعض الناس باتوا يكرهون اوقات الصلاة لان التنظيم كان يجبرهم" عليها. وعن رفض البعض ممارسة الشعائر الدينية، قال الشيخ الغانم "انهم يرفضون هذه الامور لانها تذكرهم بداعش "، مضيفا "ان الضغط الكبير يولد الانفجار". واشار الغانم، الى ان تثقيف الناس حول الممارسات الاسلامية وتصحيحها ان لزم الامر، كان جزءا من عمله قبل سيطرة الجهاديين على الموصل. وتابع "الان نتجنب ان نفعل ذلك" لانه قد ياتي بنتيجة عكسية. بحسب فرانس برس.
وفي حي اخر من شرقي الموصل، يقول احد ائمة المساجد، بانه غير بالكامل طريقة تعامله مع المؤمنين في حيه. وقال "بتنا نخشى تقديم النصح للناس لانهم لا يشعرون بالارتياح فور رؤيتهم رجال الدين"، مشيرا الى ان هذا الامر ينطبق على غيره من الائمة في الجانب الشرقي من الموصل. واعرب هذا الامام عن تفهمه لردود الفعل هذه لكنه بدا واثقا بان الاوضاع "ستعود الى طبيعتها تدريجيا". وتابع "ان عدد المصلين يتزايد تدريجيا وسيعودون جميعا" بعد وقت من الزمن، وقال محمد (25 عاما) احد سكان الجانب الشرقي من المدينة "سيعود الناس شيئا فشيئا لان لدى الامام ذهنية جيدة ويتحدث لنا بشكل حسن". وتابع "انهم يعودون الى المساجد لانهم اختاروا ذلك" من دون ارغام من تنظيم داعش.
اضف تعليق