دأبت داعش وبعض الأحزاب الإسلامية والجماعات الإسلامية الراديكالية الأصولية وغيرها على قتل المخالف لمجرد الشك بأن سيرته ـ وفق مفاهيمها ومعاييرها ـ تنضوي على مخالفات للعقيدة، وقد أدى هذا التهاون إلى ولادة تهاون أكبر، أصبح معه من الجائز قتل الناس حتى دون التفكير بعظم تلك الجريمة، ومن الأمثلة على ذلك جريمة سبايكر النكراء التي ذهب ضحيتها أكثر من ألفي شاب عراقي بريء.
إن جميع الذين يقومون بهذه الأعمال الدنيئة يدَّعون بأنهم مسلمون يطبقون حدود الشريعة، مع أنهم لا يفقهون من الشريعة الحقيقية شيئا، ولا يعرفون أسسها وحدودها الحقيقية التي توجب عليهم الحذر قبل الحكم، ومن ذلك ما أخرجه ابن رجب في جامع العلوم والحكم عن عائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: "الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض"(1)
ومعناه أن الشرك قريب من الإنسان يكاد لا يشعر بوجوده، يحتاج معه إلى التحوط الكامل قبل الحكم على شيء ما بخلاف ما هو عليه، أو مع وجود ما يحسِّنه، وأقل ذلك أن تحب حاكما أو قائدا أو زعيما، حتى وإن كان لديه القليل من الجور، أو تكره أحدا، حتى وإن كان فيه القليل من العدل.
ومنه يتأكد أن هناك الكثير ممن يدعون الإسلام ومن المسلمين أنفسهم لم يتعلموا من نبيهم، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) كان معلما ناجحا، ولكن بعض أتباعه لم يكونوا على قدر المسؤولية، وأنا هنا لا أتطاول على أحد من الصحابة، معاذ الله، وإنما أستند إلى ما جاء في النصوص الصحيحة لاستنتج من خلاله مدى وحجم ما أخذوا عن رسول الله، فحادثة الرجل الذي تعوذ أمام أسامة ولكنه قتله، كان المفروض بها أن تُفهِمَ من باقي المسلمين على أنها حكم شرعي ملزم لا يجوز للمسلمين أن يخالفوه، هذا إذا ما كانت هذه الحادثة هي التي سبقت الحوادث الثلاثة الأخرى ـ سنوردها الآن ـ أما إذا ما كانت إحدى الثلاث هي الأسبق فالمفروض بأسامة وغيره أن يفهموها ولا يخالفوها، ولا حجة لمن سيدعي أن هذا أو ذاك قد يكون غافلا عن الحكم أو لم يسمع به، وإلا فهذا الحكم أحد الأحكام المهمة جدا التي يجب أن يتعلمها الجميع، وإذا وافقنا أصحاب هذا الرأي فذلك يعني أن رجالا مهمين من مجتمع عصر البعثة، خالفوا قواعد الدين لمجرد أنهم لم يسمعوا بأحكامها ليتعلموها، أو تشاغلوا عنها بغيرها، وهذا بدوره شيء مرفوض، لأن عقائد هؤلاء لن تصبح مكتملة. المهم أن إحدى الوقائع الثلاث تتعلق برغبة أحد الصحابة قتل رجل مجهول، يبدو من نص البخاري أنه صحابي من الخوارج، ويبدو من نص مسلم أنه أحد المنافقين؛ وقد تكرر مثل هذا الخلط كثيرا وبشكل قصدي غايته إبعاد التهمة عن الصحابة والدفاع عنهم.
والرواية في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري، وهي طويلة، سأجتزئ منها ما يهمنا: "فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي، فقال: ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟ قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الأزرار، فقال: يا رسول الله اتق الله. قال: ويلك أولست أحق أهل الأرض أن اتقي الله؟ قال: ثم ولى الرجل. قال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال النبي: لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله: إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس، ولا أشق بطونهم"(2)
أما في صحيح مسلم فهي، عن أبي سعيد الخدري أيضا، قال: "قال: فغضبت قريش، فقالوا: أيُعطي صناديد نجد وتدعنا؟ فقال رسول الله: إني إنما فعلت ذلك لأتآلفهم، فجاء رجل كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد. قال: فقال رسول الله: فمن يطع الله إن عصيته؟ أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ فاستأذن رجل من القوم في قتله (يرون أنه خالد بن الوليد) فقال رسول الله: إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"(3)
وفضلا عن ذلك أورد مسلم حديثا آخر عن جابر بن عبد الله، وفيه: أتى رجل رسول الله بالجعرانة منصرفه من حنين، وحنين وقعت في السنة الثامنة للهجرة، أي في وقت متأخر من عمر البعثة، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله يقبض منها ويعطي الناس، فقال: يا محمد اعدل! قال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أن أعدل؟ لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل. فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي"(4)
إن هذه الروايات تدعو المسلم لأن يتقي الشرك الخفي، وهي بالرغم من أهميتها، هناك رواية تُجمل ما جاء فيها وما هو أهم وأكثر منه، أخرجها الإمام أحمد وأبو داود والبيهقي وابن عبد البر، عن عدي بن الخيار: أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى النبي(ص) فاستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال النبي: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟
قال: بلى، ولا شهادة له!.
قال النبي: أليس يصلي؟
قال: بلا ولا صلاة له!.
قال النبي: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم"(5)
إن عدم التحرج، وعدم الالتزام بهذه النواهي، تسبب فيما بعد في انتشار سياسة القتل بشكل يدعو إلى الدهشة، بل إلى التقزز والإنكار. لكن الأكثر دهشة أنهم لم يتفقوا على حكم محدد، مما يدعونا إلى الشك في كثير من الأحكام ولاسيما أحكام القتل، مثلا، قال بعضهم في مانع الزكاة: إنه يقتل، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل، مع أن له رأيا آخر يذهب فيه إلى أنه لا يقتل. وقال بعضهم الآخر: لا يقتل. وهو قول مالك والشافعي.(6)
ومثله الصوم حيث ذهب مالك وأحمد والشافعي إلى أن تاركه يقتل. ثم جاء أحمد والشافعي بقول آخر رأيا فيه أنه لا يقتل، ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب: "الصوم لم يجيء فيه شيء"(7).
ومثله الحج، فعن الإمام أحمد في القتل بتركه روايتان، ويقتل من أخره عازما تركه بالكلية أما تراخيا فلا يقتل(8) هذا مع وجود رواية عن ابن عباس، جاء فيها: "إن من ترك الشهادتين أو الصلاة أو الصيام، فهو كافر حلال الدم، بخلاف الزكاة والحج"(9) وحتى هذه الرواية تتعارض مع رواية ابن مسعود عن النبي(ص) قال: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"(10) وفي مسند البزار عن عياض الأنصاري عن النبي(ص) قال: إن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة لها عند الله مكان وهي كلمة من قالها صادقا أدخله الله الجنة، ومن قالها كاذبا حقنت ماله ودمه، ولقي الله غدا فحاسبه"(11) فضلا عن ذلك لا يمكن التغافل أبدا عن قوله تعالى: {إن الله يغفر الذنوب جميعا}(12) فما يدريك أن الله غفر لمن قمت بتكفيره وعزمت على قتله؟
وقد تكون الذرائعية هي التي أباحت مثل هذا التهاون والهذيان، واقصد بها محاولة البعض التخفيف من وطأة جرائم المجرمين لأسباب سياسية أو طائفية، وهو فعل موروث منذ القدم، وجد من يعتني به، ويبني عليه أحكاما فقهية، جعلت بعض المسلمين يتهاونون في إباحة الدم المسلم قبل غيره بحجة أن الأمر لله، وهذا ما يتضح من قول الذهبي في ترجمته للحجاج بن يوسف الثقفي: "أهلكه الله في رمضان سنة خمس وتسعين كهلا، وكان ظلوما، جبارا، ناصبيا، خبيثا، سفاكا للدماء... وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله. وله توحيد في الجملة"(13).
إن هذه الأحكام والرؤى مثلها مثل ما تحدثنا عنه في عشرات المواضيع السابقة التي كتبناها، وفي هذا تأكيد على أن الكثير من أحكامنا الفقهية المتداولة اليوم تحتاج إلى اعادة تقييم وإعادة بناء وفق فهم سام متخصص منصف عاقل، وإذا ما استمر التهاون في أمرها سنجد أنفسنا غارقين في مشاكل لها أول وليس لها آخر، وستنعكس سلبياتها علينا قبل غيرنا، وحينها سيكون الثمن غاليا، فالإنسانية اليوم تؤمن بكثير من الأشياء، ولكنها لا تؤمن بالقتل طريقا لحل المشكلات!.
اضف تعليق