لقد تبين أن العراق مثال يعكس صورة صراع طويل الأمد لا يزال يُنظر إليه على أنه مصدر قلق أمني، وأن التنظيمات الارهابية والمتطرفة تجتذب المجندين بسهولة مستغلة الاشكاليات التي ذكرت سابقا. بمعنى أن ديمومة هذا الصراع قد يؤدي الى تشكيل مستقبل الإرهاب، وفق النتائج المحتملة...
برز تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) منافسا شرسا للقاعدة، بمكاسبهِ في سوريا والعراق. ومع ذلك، فجر زعيمها، أبو بكر البغدادي نفسه، يوم الأحد 27 تشرين الأول/أكتوبر 2019 في الريف الشمالي لمحافظة إدلب في سوريا، بضغط عسكري من خلال إنزال جوي أشرفت عليه وكالة الاستخبارات الأمريكية، تاركا الحركة بدون مركز ثقل ليتم بعدها إضعاف التنظيم ودفعه للاختباء.
لكن منذ ذلك التاريخ شكلت ديناميكيات التطرف دورا جديدا، هناك عدة عوامل تسهم في عودة الارهاب، حيث تعاني المحافظات العراقية بشكل متفاوت من الفساد المستشري والواسع الانتشار، ومعدلات البطالة المرتفعة، والفقر الجماعي، والحكومات الغائبة، والجماعات العرقية والدينية المنقسمة وهي عرضة للتطرف والتجنيد، وشبكات الجريمة المنظمة المنخرطة في عمليات التهريب والاتجار بالمخدرات والأسلحة والأشخاص، والمواقع الجغرافية التكتيكية، وبيئة مواتية للعمليات الإرهابية، وقد تؤدي هذه العوامل إلى إحياء الجماعات الارهابية وتشكيل القيادة المستقبلية والأيديولوجية والاستراتيجية للحركات المتطرفة.
ولا يكاد يمر يوم دون تحرك قوافل ممتدة من عربات ومدرعات عسكرية وناقلات جنود عبر قرى ومدن عراقية، تنقل عشرات من القوات الخاصة وهي ترسم مسارات القوافل من خلال الأجهزة اللوحية وأجهزة التعقب، وتتحدث مع مراكز القيادة والجو، واستكشاف الطريق، الهدف من ذلك تفكيك خلايا الارهاب والبحث في سلسلة من المخابئ التي يستخدمها مقاتلو "الدولة الإسلامية" في التضاريس الوعرة والتلال والأراضي المنخفضة التي تتقاطع معها الأودية والأنهار.
هذا المشهد يتكرر بشكل شبه يومي، بسبب ما يحدث من أعمال عنف وإرهاب بعد أن انخفضت عام 2017 بشكل كبير وتحرير الأراضي من قبضة التنظيم، لكن بشكل تدريجي تصاعدت العمليات الارهابية، حيث شهد عام 2019 مقتل أكثر من 644 شخصا، وخلال العامين 2020 و2021 وسع داعش نطاقه حتى شهد عام 2021 نحو ألف هجوم، وعلى اثر ذلك احتل البلد المرتبة الرابعة من حيث الهجمات الإرهابية. بحسب موقع ستاتيستا statista المسحي.
بيانات وأرقام
واستنادا إلى البيانات الواردة في نشرة النبأ الإخبارية التابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية"، كان هناك عدد أقل من الهجمات في العراق هذا العام مقارنة بالعام الماضي 2020، أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن 110 هجمات في المتوسط و207 ضحية شهريا، بينما أعلنت في عام 2021 عن وقوع 87 هجوما و149 ضحية شهريا.
وخلال شهر كانون الثاني 2021 دق ناقوس الخطر عندما سيطر التنظيم على قرية "لهيبان" بقضاء الدبس في محافظة كركوك لعدة ساعات. وكذلك التفجير الانتحاري المزدوج في 21 كانون الثاني/ يناير في وسط بغداد والتفجير الانتحاري في مدينة الصدر في 19 تموز/ يوليو.
تتركز عمليات التنظيم بشكل رئيسي في شمال العراق، بعدد يقدر من المقاتلين نحو 1200 من الأعضاء النشطين ويشن بمعدل 20 هجوماً في الأسبوع، معظمها يحدث ليلاً، وتصاعدت الهجمات في الأشهر الأخيرة من عام 2021، لا سيما في محافظات صلاح الدين وديالى وكركوك حيث وقع في هذا المثلث نحو 500 هجوم إرهابي.
وذكر تقرير للأمم المتحدة نشر في شباط 2021 أن "تنظيم الدولة الاسلامية" يحافظ على وجود سري كبير في العراق وسوريا ويشن هجمات بشكل مستمر على جانبي الحدود بين البلدين مع امتداده على الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقا". وإن "التنظيم لا يزال يحتفظ بما مجموعه 10 آلاف مقاتل نشط" في العراق وسوريا. بحسب فرانس 24
وعالميا يحتفظ التنظيم بجماعات مسلحة في سبع دول أفريقية، ليبيا، ومصر، والجزائر، وتونس، والنيجر، ومالي، ونيجيريا، بالإضافة إلى خلايا نائمة صغيرة في السودان، وموريتانيا، والمغرب، وهذ ما تحدثنا عنه في وقت سابق عندما دفع البغدادي التنظيم من التركيز على غرب إفريقيا بالإضافة إلى أوروبا.
داعش عاد إلى قيامه بأعمال ارهابية والآن يحاول إعادة تجمعه، في محاولة ملء الفراغ السياسي الذي خلفه عقدين من الصراع في أكثر مناطق العراق اضطرابا، ولا تزال المعركة من أجل القلوب والعقول القتالية تحت مسمى "الجهاد" حية بين التنظيمات المتطرفة، فان أفراد التنظيمات المتطرفة ينتشرون في مناطق نائية، سعياً وراء الهيمنة وضعف الدولة ونظامها السياسي والتي يعبر عنها التنظيم بـ "دار الحرب"، لاستبدالها بقواعد تستند إلى معتقدات متطرفة تحت مسمى "دار الإسلام".
صراع طويل الأمد
لقد تبين أن العراق مثال يعكس صورة صراع طويل الأمد لا يزال يُنظر إليه على أنه مصدر قلق أمني، وأن التنظيمات الارهابية والمتطرفة تجتذب المجندين بسهولة مستغلة الاشكاليات التي ذكرت سابقا. بمعنى أن ديمومة هذا الصراع قد يؤدي الى تشكيل مستقبل الإرهاب، وفق النتائج المحتملة:
أولا: إعادة التشكيل. تواصل التنظيمات المتطرفة قيادة هجمات ارهابية بشكل متزايد على قوات الأمن والمدنيين. نتيجة لذلك، تواصل ساحة المعركة في إرهاب بعض القرى، مع وجود احتمال قوي لإحياء المتطرفين في تلك المناطق ودول الجوار.
ثانيا: من المرجح أن تؤدي ديناميكيات الصراع إلى زيادة تصاعد دعوات الحرب ضد الإرهاب. فقد دعا رئيس إقليم كردستان العراق، نيجرفان برزاني، في بيان، على ضرورة اتخاذ الجيش العراقي والبيشمركة معا إجراءات سريعة لوضع حد لجرائم داعش، وطالب بضرورة مراجعة الوضع العسكري، على أن يشارك التحالف الدولي في دعم الخطوات السريعة. بحسب سكاي نيوز عربية.
الإيجابي في الأمر وبرغم اعتقاد هذه التنظيمات المتطرفة الراسخة بديمومة عملياتها، لكنها أيضا تفتقر إلى روابط ملموسة مع بقية المقاتلين من الجماعات الإرهابية الدولية حتى وان كان بعضها يدعي الرغبة في تنفيذ استراتيجية التوسع، لكن فقدان مهارات القيادة والابتكار قلل من مخاطر أي تعاون طويل الأمد.
إن النهج العسكري على الأرض بذاته يؤدي الى المزيد من الدمار ونزوح المدنيين، لذا ينبغي مراعاة ما يلي:
أولا: ينبغي تبني المزيد من الحوار السياسي والاجتماعي والديني يستهدف المتعاطفين مع الجماعات المتطرفة والاستفادة من تجربة المنشقين وتحسينها، لإنهاء العنف سواء الذي تسببه العمليات العسكرية أو الذي يأتي من قبل مجتمعات معينة أو أفراد متعاطفين مع التنظيمات المتطرفة، فإن أولئك الذين ما زالوا يشعرون بأنهم مضطرون للانضمام إلى الحركات المتطرفة سيمنعهم ذلك من هذه الفرصة.
ثانيا: خارجيا، يجب أن تنتهج الحكومة العراقية سياسة خارجية تعيد توجيه التركيز بعيدا عن مهمة فردية لمواجهة التطرف.
ثالثا: يجب على القوات الأمنية الماسكة مراجعة عقيدة الاستهداف الخاصة بها بناءً على الخبرة في عملياتها العسكرية والاستخبارية، بما في ذلك إمكانية دمج بنية التكامل الجوي الأرضي المشترك، وإعادة فحص ومراجعة عملية تطوير الأهداف لجعلها أكثر كفاءة ومرونة، بما يمنع الخسائر بين المدنيين والأضرار الجانبية، مما يتطلب تخصيص ذخائر دقيقة التوجيه بكفاءة عبر المسارح وتحديد كيفية الاستخدام الآمن للذخائر. ووضح تقرير نشره موقعا كرديا يعكس درجة الإحباط بين ضباط التحالف، بسبب عدم التعاون في محاربة داعش بين بغداد وأربيل وهو الأمر يمكّن المجموعات الإرهابية من العمل في المناطق المتنازع عليها ومع ذلك، فإن قوى الأمن الداخلي والبيشمركة "لم يجروا عمليات مشتركة"، و "عدم التعاون خلق فجوة أمنية تُمكن تنظيم "الدولة الإسلامية" من استغلالها."
رابعا: محاسبة مرتكبي الأعمال الإرهابية ومموليها والجهات المشتركة والراعية وتقديمهم إلى العدالة، بغض النظر عن الدوافع ومكان وزمان ارتكابها والجهات التي تقف خلفها، والتعاون بنشاط فعال مع الجهات ذات الصلة.
خامسا: نظرا لدوافع الصراع التي قد تطورت على مدى فترات طويلة نتيجة الإرهاب وعامل تمكينه، فإن النجاح في معالجة هذه الدوافع يعد تحديا صعبا، وفي بعض الحالات، يمثل تحديا للأجيال. ومن منظور الانقسامات المجتمعية الراسخة في كثير من الأحيان. علاوة على ذلك، من غير المرجح أن يتم حل صراع الجذور السياسية التي تستغل العامل الديني والعرقي والقومي ببساطة عن طريق إزالة التهديدات الإرهابية وحدها. ستكون هناك حاجة إلى تدابير بناء دولة، وجهود دبلوماسية للتوصل إلى تعايش سلمي والتنسيق بين الجهات الفاعلة المحلية وقد يستغرق الأمر فترات طويلة للتعامل مع أي شكل من أشكال الاستقرار.
اضف تعليق